‘سدوم’ رواية مغربية عن الهوية الضائعة ورومانسيات الشبق

الجسرة الثقافية الالكترونية
عمار المأمون
في روايته “سدوم” الصادرة عن دار الآداب يقدم الروائي المغربي عبدالحميد شوقي سيرة مجموعة من الشبان، الفنانين والمثقفين، الذين يطلقون على أنفسهم الشلة السدوميّة، لنقرأ مغامراتهم الرومانسية والجنسية وحتى الفنية، في سبيل اكتشاف الذات والسعي إلى التحرر من القيود.
عتبات رواية شوقي ترهص لما يمكن أن تحويه من أحداث، فالعنوان سدوم يستعيد مدينة العهد القديم التي أبادها الإله لفحش أهلها وانغماسهم في الشهوات، كذلك نقرأ في عتبة الإهداء اقتباسا محوّرا عن مقولة الفرنسي رينيه ديكارت “للقلب منطق لا يعرفه المنطق” لتصبح، “للجسد منطق لا يعرفه المنطق” هذا التحوير يجعل المفاهيم المفترضة عن الحب والجسد والحرية يعاد التشكيك فيها ضمن الرواية واختبارها، بوصف الجسد منطلق فكر ما بعد الحداثة، وهو الذي تشير إليه الشخصيات، ويعتبر حاملا لرغباتها من جهة، ومنتهى صراعها من جهة أخرى.
أزمة الهوية
في “سدوم” نقرأ هويّات ضائعة، لشخوص تختلط انتماءاتهم، لتكون أجسادهم بحدّ ذاتها حاملة للمأساة، كحالة كاميليا التي هي في الأصل يهودية وأخفى عنها أهلها ذلك، ثم حملها من شاب يهودي يفضح هذه الحقيقة المخفيّة، وكأن الانفكاك من حنين الدماء للدماء لا يمكن التخلص منه، كذلك ميلاد الذي قتل أمه بائعة الهوى، ويستمرّ الأمر مع مآس أخرى حدثت للباقين.
أما الحالات الفنيّة التي يعيشها الشخوص وينتجونها هي نتاج للتشوهات التي مرّ بها كل منهم، فالفن هو سبيل لتحرير العقل والعاطفة والجسد، وكل منهم يراها سبيلا لتحرير نفسه، من قيود المجتمع والتاريخ والذاكرة التي تختزنها هذه الأجساد، والانفتاح الجنسي القائم بينهم نراه يتصدع أمام وطأة التراجيديا، حيث يعود كل منهم من حياته الباريسية إلى موطنه لاكتشاف الخبايا، ومواجهة المآسي المخبأة داخل أنفسهم والتي ترمز إليها سدوم، إذ لا بدّ من انقلاب جذري في الذاكرة، ومواجهة المحرمات والأماكن الداكنة من الذات البشريّة، كي يتمّ التحرر منها نهائيا، حتى تكون الحساسية الفنية أصدق، وخالية من أيّ رقيب.
يلعب شوقي في الرواية على مستويات السرد عبر التلاعب بالزمان والمكان وذلك من خلال استدعاء الذاكرة، فالانتقال بين الفضاءات يحدث فجأة وأحيانا ضمن لحظات حميمية بين الشخصيات، ليختلط الحاضر مع الماضي في حالة أشبه بوميض الذاكرة، وخصوصا أننا نقرأ كل فصل بصوت شخصية من الشخصيات، لتتشابك العلاقات بين الشخصيات وتختلط، كما نقرأ حضور الجنس فيها باعتباره وسيلة للانعتاق، وكأن لحظة عري الجسد والحميمية والشبق هي لحظة حقيقية لا يمكن الكذب أثناءها.
فالجسد إلى جانب اختزانه للمأساة والهوية فإنه يختزن الحكاية أيضا، والتجارب الجسدية التي مرّت بها مجموعة الكتاب والفنانين في الماضي، كلها تأخذ شكلها الحقيقي التراجيدي على السرير، بوصفه مذبحا للحقيقة، وكأن الجسد بندوبه يختزن الماضي، لتكون التجارب الجنسيّة مفاتيح لولوج الذاكرة واللذة في نفس الوقت.
رومانسية مفرطة
الرؤية الرومانسية للكون تحكم شخوص الرواية، فالعودة إلى الطبيعة والبدأة الأولى تحضران كهاجسين، إلى جانب الاغتراب عن المدنيّة ومنتجاتها، وخصوصا الفرنسية: من موسيقى وشعر وغيرهما (الرواية تتخللها عبارات بالفرنسيّة)، لتحضر شعريات قد تبدو متناقضة مع طبيعة الأصل (المغرب) الذي تحن له الشخصيات.
كذلك نرى في الرواية السعي إلى الانعتاق من مفاهيم الانتماء والقانون والقيود والتشكيك في الهوية، فكل ما سبق نجده بصيغة نقاشات واقتباسات شعرية، تبدأ بوصفها أحلاما رومانسية لدى تلك المجموعة من الفنانين وتنتهي كمأساة، نراها حاضرة في حياة كل واحد منهم، باعتبارهم شهدوا كلهم الموت أو ساهموا فيه، حتى أن السدوميين فقدوا الانتماء الفعلي.
لتكون المأساة هي التي تحرك أفعالهم وهواجسهم، وليحضر خلال ذلك مفهوم الألم الإبداعي على كونه سبيلا للفنان، ولا بدّ من مواجهته واختباره، وهذا ما ينعكس في سرد الرواية التي يحضر بين صفحاتها الشعر، وكذلك نصوص المذكرات والسيناريو، التي نراها أحيانا فضفاضة أو يمكن اختزالها عبر تقنية أخرى مختلفة، بحيث تضيع الحكاية أحيانا لنغوص في تفاصيل مجانية.
الثورة الحقيقية
تحمل الرواية دائما إشارات إلى حركة 20 فبراير عام 2011 التي شهدها المغرب والتي كانت تدعو إلى التحرر، واستعادة حقوق الشعب المغربي، والتركيز على الهوية الأمازيغية للاعتراف الرسمي بها، باعتبارها جزءا من مكوّن المغرب، وهذا ما نجده أيضا يتعرض أحيانا للانتقاد في الرواية، والشعارات لا تكفي، فلرقيب القمع والخوف والرؤية الكولونيالية للتاريخ والمجتمع حضور في الثقافة ذاتها، وفي مؤسسات الخوف الموجودة ضمن المركب الفكري للمغرب.
وهذا القمع يطبق على الجسد، ويتضح ذلك في حادثة التعرّي على الخشبة التي قامت بها إسلين، قصد إحداث صدمة للجمهور والدعوة إلى تحريره، لا ظاهريا فقط بل في العمق، في محاولة هادفة إلى القضاء على مكونات القمع، وهذا ما نقرأه في نهاية سيناريو الفيلم الموجود على الصفحات الأخيرة للرواية، بوصفه استعادة لشعريّة سدوم، حتى تكون الخطيئة مواجهة للقمع القائم في سبيل الخلاص والتطهير.
المصدر: العرب