عبد الرحمن مقلد يمجد الضعف شعراً

يسري عبد الله
ينهل ديوان «مساكين يعملون في البحر» (الهيئة المصرية العامة لقصور الثقافة) للشاعر عبدالرحمن مقلد، من مصادر شتى يحيل إليها التصدير الذي يسبق القصائد؛ ويبدو اللعب مع الموروث وليس في فضائه حاضراً منذ البداية. يبدأ الديوان بقصيدة تحيل إلى عنوانه المركزي؛ «يعملون في البحر»، وتشير أيضاً إلى بناه الأساسية، حيث تمجيد الضعف، والاحتفاء بالهشاشة، في قلب رؤية عالمٍ من البكارة. في قصيدة «يعملون في البحر»؛ يحتفي الشاعر بالهزيل: «أزيلوا من اللغة/ البضَّ منها/ وأبقوا الهزيل»، ينحاز إلى المعاني الأكثر هشاشة في النفس البشرية، كما يحيل الفعل الشعري المنتج «يعملون» إلى عالم متصل من الحركة الدائبة، تتوحد فيه الذوات الشعرية المحكي عنها، والتي تصير مركزاً للحكي الشعري، وتختفي المسافة الفاصلة بين خطاب الذات الشاعرة والذوات الحاضرة بوصفهم حاملين للخطاب ومتماهين معه: «في الحقيقة/ لم نكترث للملوك/ ولا للعبيد/ ونعمل في البحر/ منذ قديمٍ/ ولا نتمنى نهاراً يضيء/ ولا منزلاً نستقر به/ فالسكينة تحملنا/ كلَّ ليلٍ طويلٍ إلى كهفنا/ في البياض/ ولا نتمرس في الصيد/ أو نتبارز من أجل سردينةٍ/ أو محارٍ/ لنا الجوع متسعٌ/ والشراب سيكفي الجميع».
في شعرية تستلهم إرث البلاغة، يتجلى نزوعٌ مثالي في رؤية العالم، ويبدو التوظيف الدال للمجاز، واعتماد تكنيكات متواترة من قبيل أسلوب الالتفات؛ كما في قصيدة «مثل فلاسفة قدماء»، إذ يفصح العنوان عن المدلول الشعري في «أنا مثلكم أتألم»، لتتعاطف الذات الشاعرة مع مآسي الإنسان: «أنا مثلكم لا أزال أرقق عيني بالدمع/ أو أنحني/ حين تُقبض عشرون روحاً بضربة حظ/ وأحزن حين يموت من الاختناق/ مريضو التنفس/ أنحبُ حين يودع خمسون طفلاً/ حقائبهم تحت هذا القطار/ وأهرب في خندق/ حين تقصف طائرة في العراء جنوداً/ وأصرخ والبيت يهوى على قاطنيه».
تلوح فلسفة الصراع في قصيدتي «الدم» و «عدوان»، بدءاً من العنوان الدال على بلاغة الإيحاء. في «الدم» تبرز تيمة الصراع/ القتل التي تظلل البشرية، منذ القِدم، باعتبارها أساساً للرؤية الشعرية، والقصيدة موزعة على صوتين متداخلين: «ولستُ بمحتفل وأنا أعتليك/ وأنت تخور على الأرض كالثور/ والشص يفلق قلبك/ يا قاتلي وأليفي/ وقلبك آهِ/ حملت له كل ما يتشهى/ لينبض ثانية/ وأعدت عليه عذاباتنا/ وسني هوانا القديم». وتبرز فكرة الثنائيات المتعارضة في «عَدوان»، حيث ثمة طرفان يتواجهان دائماً.
تعد قصيدة «ثلاث وعشرون قاطرة» من أعذب قصائد الديوان ومن نصوصه المركزية أيضاً، وتحتل كمياً مساحة أكبر نسبياً من النصوص الأخرى على مستوى المتن الشعري، وتتسم بالتدفق، فضلاً عن قدر من التجديد على المستويين التقني والرؤيوي، فتختفي هنا المباشرة تماماً، وتتواتر المقولات الكبرى عبر آليات حداثية تتخذ من العناصر الذاتية والهامشية طريقاً لها، كما تتجادل المقاطع وتشكل في مجملها جماع الرؤية. هنا أيضاً قدر عارم من البوح، من الكشف، من الصدق الفني، من الوعي المفارق للجاهز والموروث: «وبقيت أدندن:/ لا أحد يا ابن آدم يهواك/ لا أحد ينتمي للطبيعة مثلك/ أنت الذي تناسبه التكنولوجيا/ وأنت الذي يتبسط كالحيوان/ إن خفت تقطن كهفاً/ إذا أعجبتك فتاة/ تُصفّر/ تهذي إذا غاضبتك/ ولم تنزل النهر في الفجر/ منذ ثلاث وعشرين قاطرة/ لم أنم مطمئناً/ ولم أتخلص من الخوف».
تعتمد الصورة الشعرية في قصيدة «موعظة الرحلة» على أفعال الحركة: تعمل/ تخرج/…، كما تتشكل بنية درامية تعد أساساً للصورة الجمالية هنا، ويبدو استلهام المقدس حاضراً، والتناص مع الموروث بارزاً، كما في «بيضاء من غير سوء».
تبدو قصيدة «نوار يضيء ويختفي… مرثية لوالدي» نافذة للروح، وتعتمد شعرية حميمة تستمد جدارتها من صدقها الفني، وفي «أثر العابر» يتماس عبدالرحمن مقلد مع محمود درويش في نصه «عابرون في كلام عابر»، كما كانت هناك إحالة أيضاً إلى ممثلة عربية كبيرة، في قصيدة «وصايا فاتن حمامة» وإن بدا هذا النص أقل فنياً، لاستدعائه فكرة الغرض الشعري بتمثلاتها الجمالية القديمة.
ثمة شعرية شفيفة تنفذ إلى متلقيها في قصيدة «في مديح المحبة»، وشعرية أخرى مركبة تحمل مستويات مختلفة من القراءة وطبقات متعددة من المعنى في نص «الثورة» الذي يعد من أبدع نصوص الديوان، ومن نصوصه المركزية اللافتة. تبدو الثورة هنا دالاً قابلاً لتأويلات ومدلولات مختلفة، والرابط الرئيسي يتمثل في الانحياز إلى الحرية سواء أكان انعتاقاً لجسد، أو خلاصاً لذات فردية، أو تحرراً جماعياً لبشر مأزومين: «ليس على الثورة الآن أن تتثاءب/ تاركة شهوة الاحمرار/ وحشرجة الصوت/ والقبضات/ وأوردة الثائرين/ وفتنتها البلدية خامدةً، لا يحركها الوخزُ/ ليس على المرأة الأربعينية العمر/ أن تتآكل شهوتها/ وحدها في السرير/ تراقب فعل الزمان بأعضائها/ أو تُمثل دور فتاة لعوب/ يفسرها عاشقوها كما يشتهون/ وتمنحهم صدرها/ وتُخَلّي الحياة تمر/ وليس على الثورة الآن/ أن تتلخص في الأغنيات التي لا تحرك باعوضة/ أو تهيج ديكاً».
كان الشاعر فحسب بحاجة إلى استعمال أكثر جمالية وأقل مباشرة في عناوينه، مثلما رأينا في قصيدته: «إلى الأجيال القادمة»، كما كانت هناك مساحات رحبة للرؤية والتقنية لم يستفد منها خلال الكتابة عن عوالم مفتوحة مثل البحر.
يعبر ديوان «مساكين يعملون في البحر» عن صوت متميز في مسار الشـــعرية المصرية الجديدة بخاصة فــــي سعيه صوب احتفاء أشد بالجمالي، ومن ثم بدا أكثر نضجاً من ديوان مقلد الأول «نشيد للحفاظ على البطء»، وبما يعني أننا أمام شاعر حقيقي يدرك أن التراكم النوعي لا بد أن يصحب التجربة الفنية، وتجربة الشاعر هنا مفتوحة على تحولات ستكون أكثر غنى وجسارة.
(الحياة)