فقه «الصياعة» و«الضياعة» في اليوم العالمي لـ «البتاع»!

الجسرة الثقافية الالكترونية
*سليم زعرور
المصدر / القدس العربي
أحدثت لي قناة «مكملين» تلبكاً معوياً حاداً، بإذاعتها للتسريب الجديد، في الوقت الذي كنت فيه أشمر عن ساعدي للكتابة في هذا الأسبوع عن تسريب الأسبوع الماضي!
«مكملين» هي التفسير الحرفي للحكمة المأثورة التي تقول: «إن الله يضع سره في أضعف خلقه»، فقد احتشد القوم وأغلقوا قناة «الجزيرة مباشر مصر»، وظنوا أنهم سيتمتعون بأجواء رومانسية، كتلك التي شاهدنا عليها عبد الفتاح السيسي وهو يجلس أمام بوتين، على مائدة طعام واحدة، ذكرتني بأجواء «كازينو الشجرة»، بحسب الوصف التفصيلي للعشاق القدامى، وهي أجواء لم أعشها فجلستي المفضلة كانت في البدء، على مقهى «التكعيبة»، وعندما ازدحم بالرواد، لأنه أرخص مقهى في منطقة وسط البلد، نقلت العطاء على مقهى «عم غزال»، ومنذ فترة وأنا أسأل عن «عم غزال» فيقولون لي إنه مريض. وكلا المقهيين في الشارع ولا يصلحان للرومانسية، التي أوحت لنا بها صورة الزعيمين الكبيرين!
«مكملين» لم تمكن قادة الإنقلاب، من أن يستمتعوا بالأجواء سالفة الذكر، بعد إغلاق «مباشر مصر»، التي كانت دائماً تتهم بالقدرة على الحصول على المعلومات لأن دولة تقف وراءها، لكن «مكملين» فضائية فقيرة، لا تستطيع أن تحمي نفسها من ألاعيب القوم في القاهرة، ففي الأسبوع الماضي وعندما ظهر المذيع أسامة جاويش يزف إلينا البشرى بأنه حان الآن موعد بث التسريب، انقطع الإرسال، فهرولت لفضائية «مصر الآن»، إذ كانت الفضائيات الموالية للشرعية قد أعلنت أنها ستنضم لـ «مكملين» لنقل التسريب معاً.
لم يعجبني أسلوب الإثارة الذي أتبعته «مكلمين» بدعوتها شعبي السعودية وقطر، وحكام البلدين، لمشاهدة التسريب، وتبين أن سبب الدعوة، هو نظرة الاستخفاف التي تحكم سلطة الإنقلاب لدول الخليج، فهي بحسب وصف مدير مكتب عبد الفتاح السيسي أمامه، «أنصاف دول». ومعلوم أن الدولتين اللتين ساندتا الانقلاب منذ أن كان «مضغة فعلقة» هما السعودية والإمارات لحاجة في نفس يعقوب قضاها، تتمثل في عدائهما للثورة، وسعيهما لإفشالها، ولو بقي الملك عبد الله على قيد الحياة، لتجاوز عن هذه النظرة المتعالية للعسكر، ولاكتفى لرد الإعتبار لنفسه بصورة تجمعه بالسيسي، ينكمش فيها السيسي حتى يبدو للناظرين، أنه تلميذ في حضرة ولي أمره، كتلك التي التقطت له في طائرة الملك السعودي الراحل، في مطار القاهرة، والذي ظهر والسيسي منكمشاً أنه الخليفة، يزور أحد ممالكه.
العسكر ينهب
العنوان الذي ربط بين تسريب الأسبوع الماضي، وتسريب هذه الأسبوع: «العسكر ينهب الخليج»، وأن صح أنه ينهب، فالطرف الآخر يعلم أن أمواله منهوبة، فلا يعنيه أن تصل للشعب المصري، فهو دعم للإنقلاب. وما جاء في تسريب الأسبوع الماضي عن إدخال المساعدات عبر مكاتب في الخارج تابعة للمجلس العسكري، أكبر دليل على أن الشعب هنا ليس مطروحاً على جدول أعمال الحكام الخليجيين المساندين لهذا الإنقلاب.
في التسريب السابق، كان الحديث عن المال الخليجي الذي هو كـ «الرز»، وأن كل أمير خليجي معه ميزانية دولة. وتبدو نظرة القوم لهذه المساعدات على أنها «فردة»، وأنهم في مقام الولايات المتحدة الأمريكية، عندما تحصل على مساعدات من هذه الدول ويريد السيسي وصاحبه عباس أن يحصلا على مقدار ما تحصل عليه واشنطن، ويعتبران أن هذا حق مكتسب.
وفي التسريب الأخير كان الحديث عن ثلاثين أو أربعين مليون دولار، هي «فكة» ومبلغ تافه، لا يجوز طلبه، ويبدو من السياق أن قادة الانقلاب في مصر يؤمنون بالحكمة الغالية، «إذا عشقت اعشق قمراً.. وإذا سرقت اسرق جملاً».
واللافت هو ما قاله إعلام الانقلاب من أن هذه التسريبات كاشفة عن أن الإخوان يسعون إلى إفساد العلاقات بين زعيمهم المفدى وهذه الدول، مع أنه لا يلام الإخوان إن فعلوا هذا، فلولا التأييد الخليجي ما وقع الإنقلاب العسكري أصلاً، لكن الإخوان لم يطلبوا من المتسولين أن يتطاولوا على أسيادهم، وأن يطمعوا في أموالهم، وأن يصفوهم بعد «وصلات التسول» بأنهم أنصاف دول!
ثم، أن الانقلاب كان قد بدأ مبكراً في التطاول على الملك سلمان، في حديث لمن وصفه عباس كامل في تسريب بـ «الواد يوسف الحسيني»، عندما قال هذا الإعلامي أنه سيتم عزل الأمير سلمان من موقع ولي العهد، لأنه ليس في وفاق معهم، وظن القوم أنه لن يخلف الملك عبد الله. وقد أكدت التسريبات أن إعلام الثورة المضادة يدار، من مكتب عبد الفتاح السيسي، وأن الرسالة الإعلامية تصل للإعلاميين مكتوبة، ثم أن القائل مقرب جداً من السيسي واستدعاه مؤخرا ليقف بجانبه ليلتقط له صورة مع الحاضرين لخطبة ألقاها.
يا عوازل فلفلوا
للدول المساندة للإنقلاب حساباتها، تضيق وتتسع، وقد تصل أحياناً إلى حد التصرف على غرار من أراد أن يغيظ زوجته فخصى نفسه، فيكون النظر تحت الأقدام فيتم تدمير المثلث السني، «مصر والسعودية وتركيا»، لتفاجأ الدول المنحازة للعسكر في مصر ببروز النفوذ الإيراني، الذي يحيط بها من كل جانب!
وفق نظرية «يا عوازل فلفلوا»، كانت ممارسات الإعلام من الجانبين، فالجانب الإنقلابي في مصر أكد فشل «مؤامرة الإخوان»، وأن العلاقات بين من مصر والسعودية والكويت والبحرين متينة، والجانب المساند للإنقلاب في دول الخليج أكد على المعنى نفسه، بعد اتصالات قام بها السيسي لقادة الدول الخليجية الثلاث. ويبدو الإعتقاد أنه ما دامت المكالمة تضمنت كلاماً دبلوماسياً، ولم يغلق أي من القادة «السكة» في وجه قائد الإنقلاب، فإن هذا يعني أنهم لم يتأثروا بوصفهم بأنصاف الدول، والتعامل مع مساعدتهم على أنها الجزية التي ينبغي أن يدفعوها عن يد وهم صاغرون، فالسيسي بالعامية المصرية «يستكرد» القادة الخليجيين، من «الاستكراد»!
بالتسريبات وبدون التسريبات، فإن السيسي برحيل الملك عبد الله، فقد السند والملاذ، ومهما كان موقف الملك سلمان، فإنه لن يكون كالملك عبد الله. أما الكويت، التي لديها برلمان ومعارضة وحرية إلى حد ما فستجد قياداتها نفسها في موقف حرج مع الشعب إذا فكرت في تمويل الانقلاب، بعد أن سقطت لافتة دعم الشعب المصري. ولن يبق للقوم سوى فصيل في الإمارات، وقديماً قيل: «خذ من التل يختل»، واحتياجات السيسي في ظل فشله الاقتصادي أكبر من أن تلبيها دولة بمفردها!
السيسي فقد بالتسريبات وبدونها، الحماس الأمريكي، القلق الآن من لجوء القوى الموالية للشرعية للعنف، ثم أن مساندة إنقلاب عسكري في القاهرة سيدفع ثمنه أوباما وحزبه عند أول استحقاق انتخابي. وكلما شعر السيسي بفتور من قبل «الحبيب الأمريكي» لجأ إلى بوتين، ولم يجد من يقول له إن روسيا ليست هي الإتحاد السوفييتي، وأن بوتين ليس هو خروشوف. والرئيس الروسي في أضعف حالاته الآن، وهو بحاجة للرضا الأمريكي كما أنه ينتظر من «يعزمه» على الغداء ويدفع له الحساب!
وكل هذا لا يعنيني فأنا أراهن على الثوار في مصر، فهم من سيمكنونني من العودة لمقهى «عم غزال»، ولست مشغولاً بالموقف الخارجي، وبالوقيعة بين الأحبة.
الدولة ودولت
وما يعنيني أن التسريبات كشفت كيف تحكم مصر، فأكثر من مائتي مليار جنيه دخلت كمساعدات من دول الخليج بعد 3 يوليو/تموز «سيئ الذكر»، ودخل معظمها من الأبواب الخلفية، وأن مصر تدار بواسطة اثنين هم السيسي ومدير مكتبه عباس كامل، في وقت جرى فيه الحديث عن الدولة المصرية، وكيف أن الإخوان سعوا لتدمير الدولة، وأن المظاهرات في الشوارع تستهدف الدولة، وكيف أن السيسي رفض إطلاق لفظ النظام على حكمه، فهي الدولة، ومن يعارضه يعارض الدولة!
«الدولة» تبين أنها «دولت»، والأولى كيان، والثانية إسم. وعبد الحليم قنديل الموالي للإنقلاب قال مؤخراً عبر برنامج «القاهرة اليوم» على قناة «اليوم»، وبعد أن فاض به: «ما فيش دولة في مصر»، وهو يشاهد السيسي ينعطف بعيداً إلى جماعة مبارك، فالعرق دساس!
فالدولة المصرية، التي جرى الحديث عنها، تدار بواسطة «النوتة الزفرة»، التي كانت في جيب أي بقال وقبل التطور وصار الإمساك بالدفاتر هو النقطة الفاصلة بين العهد القديم والعهد الجديد، وبين محلات البقالة والسوبر ماركت، فالمنح والمساعدات والهبات تدخل في حسابات خارج الموازنة العامة للدولة، و قيمتها لا يعرفها إلا «البقال» وصاحبه. وفي لقائه مرشحاً رئاسياً مع لميس الحديدي وصاحبها بالجنب إبراهيم عيسي، قال السيسي إنه لم يكن يريد أن يتحدث عن تفاصيل المبالغ التي حصل عليها من دول الخليج، وكأنه يتحدث عن صدقات جمعها عبر صندوق النذور!
لقد قال خصوم الدكتور محمد مرسي من قبل إنهم يشعرون بالخجل لأن مرسي هو رئيس مصر، لأنه «فلاح طيب»، فهذا هو المستوى الذي ناضلتم من أجله: «فلوس كالرز متلتلة»، و»عشرة من هنا وعشرة من هنا وعشرة من هناك وقرشين للبنك المركزي»، و»هات وخد»، والذي زاد وغطى أن يتم وصف وزير، هو وزير البترول بأنه «صايع وضايع»، وقبله كان الحديث عن «البتاع»، واعترف بأنني حاولت حصر كم مرة ذكر فيها «البتاع» في تسريب الأسبوع الماضي ففشلت، ومعلوم أن لأحمد فؤاد نجم قصيدة عنوانها «البتاع»، كنا نعتبرها شاذة لهذا «البتاع» فإذا بنا في اليوم العالمي لـ «البتاع».
ثكلتكم أمهاتكم!