“مطبعة» جبور الدويهي شخصية روائية كثيرة الحكايات

فيصل دراج
يرى النظر الروائي في المادة التاريخية موضوعاً للتأمل، كاشفاً عن زمن يحوّل ويتحوّل ويستدعيه الأفول، وفضاء مسكوناً بمتواليات حكائية، فلكل تحوّل حكايات لها بداية ونهاية. ربما يكون في رواية جبّور الدويهي، «طبع في بيروت» (دار الساقي 2017) ما يعلن عن رحابة التأمل، إذ كل ما يأتي يخلي مكانه لمقبل لاحق، وما يسرد حكايات يستقدمها الزمن ويرمي عليها بالانطفاء. أقام الروائي عمله على مجاز حكائي متعدد الطبقات قوامه: المطبعة، واتخذ من بيروت مكاناً للمجاز وموقعاً له، في فترة زمنية واسعة، تسبق القرن العشرين وتمتد عقدين في القرن الذي تلاه.
أخذ الروائي المهجوس بحكايات بيروت المتلاحقة بمكان المؤرخ ولامس، حكائياً، فترات مختلفة، تستهل بالحرب العالمية الأولى وخروج العثمانيين، وتنشر صور الجوع والموت على قارعة الطريق، وتتتابع في انتداب فرنسي يعقبه «استقلال وطني» يوصل، لاحقاً، إلى «حرب أهلية» متمددة. قرأت الرواية الزمن المتعدد الأبعاد في «شخصية مطبعة»، وأطلّت على بيروت من اتجاهات متعددة، ووحّدت بين مآل «الشخصيتين»، وأطلقت صرخة ساخرة. استدرك الروائي ما لا يقول به المؤرخون، فتأمل «الوقائع التاريخية الكبرى» في أحوال البشر، وأذابها في متواليات حكائية، تسرد عوالم الإنسان الداخلية والخارجية.
اقترب الروائي من المؤرخين وابتعد عنهم، متكأ على مطبعة ـ وثيقة واضحة السيرة، وقرأ في الوثيقة أحوال بيروت، كما لو كانت وثيقة موازية، تترجم ما تقوله الأولى بحكايات مختلفة. ولعل هاجس المطبعة ـ الوثيقة، الذي يصاحب الرواية من البداية إلى النهاية، هو الذي جعل الروائي يكتب في الصفحة الخامسة: «انتهت جولته في مطبعة «كرم أخوان، تأسست عام 1908»، ويعود إلى 1918 محدداً تاريخ التأسيس الفعلي. ذلك أن العائلة، وهي تقول بتاريخ مختلف، أرادت إظهار العراقة في المهنة».
عيّن جبور الدويهي المطبعة شخصية روائية تراجيدية، لها بدايتها ونهايتها، ولها بين البداية والنهاية حكاياتها المتلاحقة، منذ أن قرر العثمانيون السطو عليها، قبل رحيلهم من جبل لبنان، إلى لحظات تالية وضعتها في يد العائلة، في انتظار «الزمن الروائي الكاشف» الذي اشعل فيها الحريق. تأخذ المطبعة في الرواية دور «الحكاية الكبرى»، التي تقترح الحكايات وتجدّدها، متوسلة عناصر كثيرة: طابعاً بيروتياً من «البسطة» أحسن التعامل معها، وعمالاً جبليين موارنة، وأخوين من أصل «حلبي» لهما أقدارهما المتباينة، انتهت المطبعة إليها وأخذت اسم العائلة، وتكاثرت في أكثر من فرد وحكاية. أفضت المطبعة، في التصور الروائي، إلى «تشجّر حكائي» متعدد المستويات، فيه مكان لامرأة باذخة الجمال يجاورها الاغتراب، و «لزوج» له ثروته ولعنته، ولشاعر جميل اللغة أملى عليه العشق أن يكون مصححاً، ولثري من «أثرياء الحرب»، حوّل الطباعة إلى تزوير وسمسرة، وفيه استدعاء إيقاعي لوقائع تاريخيه متلاحقة.
تأمل الروائي في تحوّلات المطبعة عوالم إنسانية، تتضمن الموت، والجشع والخديعة والعشق والطائفية والتأنق، وتلك الغرابة التي لا بدّ منها المتجسّدة في شاعر يأسره عشقه، وفي امرأة تعشق رجلاً «لا يعشق النساء»، وفي زوج ثري يشتري عشقاً مبذولاً للجميع، وفي عمال يتوزعون على الطباعة وإطلاق الرصاص. انتهى في تأمله إلى رواية متعددة الوجوه جمعت بين التاريخي والعاطفي والبوليسي والسياسي، وسخرية كاسحة من بشر تتغيّر ألوانهم.
جسّر دويهي المسافة بين العوالم المختلفة بمتخيل واسع الثقافة، يعرف تاريخ الطباعة في لبنان وخارجه، ويبني وقائع الحياة من نثار حكائي لا ينتهي منجزاً: بلاغة التفاصيل، التي تنطق الحارات والبيوت والأمتعة، مدركاً أن التاريخ من حكاياته، وأن في حكايات التاريخ مكاناً للبنان، ابتداء من «أول أيلول سنة 1926»، ماراً على أحوال المندوب السامي الفرنسي ومواد القانون التاسيسي وميشال شيحا، وأشكال الحروب وجهود الآباء اليسوعيين، وصولاً إلى أيام «مسجد محمد أمين» وعدد الهاربين من سوريا إلى لبنان في السنوات الأخيرة. أنجز كل ذلك بعفوية ماكرة، عنوانها : المتخيل المثقف. لم ينسَ، بداهة، تاريخ الصحافة في بيروت، الذي عرف صحفاً وطنية تنويرية كثيرة، حال صحيفة «البرق» لصاحبها الأخطل الصغير، الذي رثا ملك العراق فيصل بن الحسين ذات مرة، قبل أن يصبح استعمال «ورق الصحافة» شأناً طائفياً، مسوراً بالعنف والتهديد.
استولد الروائي، وهو ينسج نصه بلغة مقتصدة، من «الحكاية الكبرى»، نسقاً متوازناً من الحكايات، أذابه في بنية كتابية تجمع، بشكل نموذجي، بين إمكانيات المادة التاريخية الموزعة على التأمل، والسرد الحكائي للتاريخ. ارتقى جبور بالسرد الحكائي للتاريخ إلى مقام جديد، عرفته الرواية العربية، في لحظات سعيدة قليلة. معلناً عن طبقات إشارية، تضيء أموراً متعددة بكلمات أقرب إلى الهمس. صاغ معرفته التاريخية الواسعة «ببلاغة التفاصيل»، إذ ما لا يقول به المؤرخ يقول به الروائي، وما يعلن عنه الأول بلغة مباشرة، يصرّح به الثاني بحكايات مضيئة.
تتجلى جمالية الرواية في إذابة التاريخ في نسق حكائي، وفي الكم المعرفي الموزّع على إشارات تربك المسافة بين الروائي والمؤرخ. لكنها تتجلى، في شكل أساسي، في «المركز الروائي الملتبس»، الذي يوزّع الفعل الروائي على المطبعة والمدينة والعائلة، وذلك في إحالات متواترة، في انتظار أن يتكشّف المركز الفعلي في «الحريق القادم»، الذي يعيد تأويل العلاقات الروائية كلها، مقرراً أن كل ما كان حايثه العطب، وأن ما يرحل لا يعود إلى ما كان عليه.
ينتظــر الحريق الحكايات كلها، وينتظر الحريق الرماد، الذي يعيد صوغ الحكايات التي انتهت إليه. فحكاية المطبعة، التي استهلت بها الرواية، لا تبدو واضحة إلا بعد الحريق، ومآل «مجد بيروت الصحفي» يظهر واضحاً في الصفحات الأخيرة، فبعد الأخطل الصغيرة يأتي السماسرة، وبعد حرية الرأي يأتي رجال بلباس أبيض ينظرون بغضب إلى آخرين بملابس صفراء. ينطوي الحريق ـ النهاية على ما يعيد تأويل المصائر كلها، بما فيها واقع بيروت، فلا القانون أمسك بالمزورين السماسرة، ولا الشاعر الباحث عن طابع لديوانه «الفريد» يحقق ما يريد، يمر بالسجن ويحتفظ بديوانه بلا طباعة. بل إن طباعة الديوان التبست بروح المرحلة، فورق الطباعة غدا مادة «لتزوير العملة». والمتبقي من بيروت «سمسار فصيح» لا يعاقبه أحد، و «كباريه» يحتضن المخفقين، الذين ينتظرون عشقاً لا يأتي في زمن مريض.
أنتج جبور الدويهي، وهو ينسج نصه، تفاصيل المكان والزمان وقسمات البشر، واشتق من علاقات النص كلها: جماليات النهاية، المحدثة عن الحريق والإخفاق وهزيمة الأرواح وانتصار المدنّس. انتهى الروائي، وهو يعطف إشارات سياسية على تاريخ يلازمه المرض، إلى خطاب سياسي ـ أيديولوجي مهموس، يقول كل ما يريد قوله بإشارات مقتصدة، تسخر من الطائفية «بجمل عارضة» وتختصر المساحات السياسية الزائفة في جملة مفيدة واحدة. ومع أن جبّور نشر في نصه الروائي سخرية سوداء طليقة، في أكثر من مكان، فإن سخريته الصريحة الصادمة جاءت من المركز الروائي «الملتبس» الذي عنوانه «الحريق»، الذي أجهز على مطبعة قديمة، وعلى بيت «آل كرم»، وعلى مطبعة جديدة، باهظة الثمن كثيرة الحرّاس تلبي حاجة الذين يساوون بين الصحافة و»تزوير العملة». في فلسفة رواية «طبع في بيروت» ما يقول: تقرأ البدايات في نهاياتها، وأن ما يشير إلى الحقيقة يتداعى قبل نهاية الطريق.
قد يكون المصري الراحل محمد البسطاتي قد أعطى درساً في اقتصاد اللغة الروائية، واللبناني ربيع جابر اجتهد طويلاً في توليد التاريخ من حكايات الإنسان المغترب، بقدر ما كان جمال الغيطاني معلماً في «إنطاق التاريخ حكائياً»…. نظر جبور الدويهي إلى ما سبقه، وكتب نصاً روائياً استثنائياً، قرأ به التاريخ واختصر تأويله في سخرية متأملة، لا ينقصها الحب، ولا يعوزها الرثاء.
في دراسات الرواية الأخيرة، يربط بين السرد و «تطوّر العقل» السارد، الذي يفتحه تطوّره، أحياناً، على إبداع يقترب من الفرادة، حال نص جبّور الدويهي عن مصائر بيروت، في أزمنتها التاريخية الأخيرة.
(الحياة)