الإعلامية المغربيّة سعيدة شريف: نحتاج إلى مثقف قريب من الواقع

الجسرة الثقافية الالكترونية

 

صابر سويسي

 

تربط رئيسة تحرير مجلة «ذوات» الثقافية الإلكترونية، الإعلامية المغربيّة سعيدة شريف بين نهضة الإعلام وفاعلية الثقافة، داعية المثقفين إلى التخلي عن أبراجهم العاجية ولعب دور نقدي بعيداً عن جمود الإيديولوجية، خصوصاً بعد الأسئلة المعقدة التي طرحتها الثورات العربية، واستغلال المتطرفين للفراغ الذي تركه المثقفون.

التقينا سعيدة وكان لنا معها الحوار التالي حول مجلّة «ذوات» من جهة، وحول وضعيّة المثقف العربي اليوم وأشكال تفاعله مع عصره ومتغيراته من جهة أخرى.

■ كيف تقيمين تجربة الإشراف على مجلة «ذوات» ؟

□ تمكنت مجلة «ذوات» من تحقيق مكانة مهمة في الوسط الثقافي، ومن استقطاب أقلام ثقافية عربية معروفة وغير معروفة، كانت تعتقد في البداية أنّ مؤسسة «مؤمنون بلا حدود» تقتصر على نوعية معينة من الكتّاب ومن المواضيع، ولكن بفضل إصراري وانفتاحي على المشهد الثقافي العربي، تمكنت من طرق مواضيع لم أكن أعتقد في البداية أنّني سأتناولها في يوم من الأيام (داعش- الحوثيون- التطرف- الفتاوى…)، وغيرها من مواضيع الساعة الحساسة، وطبعًا المقبل سيكون أجرأ وأنضج.

وبما أنّ النشر الإلكتروني يقاس إلكترونيًّا أيضًا، بعدد الزيارات والتحميلات، فيمكن لي أن أكشف لكم بأنّ مجلة «ذوات» أصبحت تحظى بمكانة خاصة لدى القراء العرب.

■ كيف ترين تفاعل المثقف العربي مع الإشكالات والظواهر التي تطرأ على واقعه اليوم؟ هل هي استجابة المفكر الرصين الذي يتناول الواقع ويتفاعل معه بشكل علمي وبنّاء؟ أم هو تفاعل انفعالي؟

□ للأسف ما نشهده اليوم وما شهدناه منذ بداية الثورات العربية، لا يمكن وصفه إلا بالانتكاسة الحقيقية للنخبة المثقفة العربية، أو ما يصطلح عليه بـ»الأنتلجنسيا»، لأنّها تعرت وانكشفت أمام المجتمعات العربية، خاصة في هذه المرحلة الحاسمة من التاريخ العربي، التي عرفت انتفاضة الجماهير الشعبية المطالبة بالحق في العيش الكريم، والديمقراطية، أمام ذهول الأنظمة والمثقفين أنفسهم، الذين لم يكونوا ليتخيلوا مطلقًا أن يحدث ما حدث خارج توقعاتهم الذاتية والمؤدلجة.

لم نعد أمام تلك النوعية من المثقفين التي كانت في ما قبل، تزعج السلطة، من مثل المثقف العضوي أنطونيو غرامشي، والمثقف الرسولي إدوارد سعيد، والمثقف النقدي نيتشه وسارتر، فالحالة العربية اليوم كشفت مدى زيف نوعية من النخب المثقفة وانتهازيتها، وعدم مبالاتها بهموم الوطن وقضاياه، وفي الوقت نفسه، أعادت الاعتبار للمثقفين الحقيقيين الذين كانوا عند مستوى اللحظة، وانخرطوا في الدعوة إلى تغيير مجتمعاتهم.

ولكن الإشكال الحقيقي الذي برز في العالم العربي في السنوات الأخيرة، هو استقالة المثقف والمفكر الرصين ذي المشروع الحداثي وانزواؤه في برجه العاجي، مثل ما حدث في المغرب مثلاً مع المفكر عبد الله العروي.

وبشكل عام، يمكن اعتبار تفاعل المثقف العربي مع ما طرأ ويطرأ اليوم على أرض الواقع من تحولات رهيبة، انفعالاً آنيًّا، يأخذ طابع رد الفعل في أغلب الأحيان، وهذا لن يخدم الثقافة العربية ولا مجتمعاتها، لأنّه إن ظل المثقف العربي في حالة الانفعال فحسب، فسيظل أسير الكثير من الصراعات الفكرية والأيديولوجية التي ستبعده عن القضايا الجوهرية، وستجعله يضيع جهوده هباءً. لهذا، فالمثقف العربي اليوم مطالب أكثر من أي وقت مضى بتجاوز حالة الانفعال إلى الفعل ليمارس دوره بشكل إيجابي. 

■ كيف يمكن تحفيز المثقف اليوم، ليكون فاعلاً في واقعه مؤثرًا، وهو المتهم بانزوائه وانعزاله في برجه العاجي؟

□ كل شيء بيد المثقف نفسه، فنعته بالمنزوي أو المنعزل في برجه العاجي ليس تهمةً باطلةً، بل هو حقيقة عشناها على مدى السنوات الماضية ونعيشها اليوم. ولهذا، على المثقف أن يعيد النظر في نفسه، وفي رؤيته للمواطن العربي أولاً، وللثقافة التي يقوم بنشرها ثانياً، وأن يمارس نوعًا من النقد الذاتي على نفسه، وعلى طريقة اشتغاله حتى داخل المؤسسات الثقافية العربية، التي لم تعد لها جدوى، ولا فائدة ترجى منها، ما دام «المثقف الحقيقي» قد أصبح مؤسسة مستقلة بذاته في غياب المؤسسات والمنظمات الثقافية العتيدة، التي لعبت في السابق دورًا فعالاً في خلق حراك ثقافي على مستوى العالم العربي، ولكنها اليوم «شبه ميتة»، يحاول المستفيدون منها (مثل اتحاد الأدباء والكتاب العرب، واتحاد كتاب المغرب…) الاستمرار ولو على نعشها، عبر إصدار البيانات الجوفاء التي لا أثر لها.

■ هل تطالبين بزيادة الممارسة النقدية عند المثقفين؟

□ لقد حان الوقت لينظر المثقف العربي إلى وجهه في المرآة، وأن يخلع كل الأقنعة الأيديولوجية، وغطاءات الفكر الوثوقي، ويعيد بناء نفسه من جديد، مثل طائر الفنيق، وحتى يتمكن من الانخراط في بناء مجتمعه، وتطويره بشكل نوعي. وبهذا ففعل المثقف في مجتمعه يجب أن يكون نابعًا من الداخل، لا أن يرتهن إلى إملاءات خارجية، أو حاجات آنية، فالتاريخ لا يرحم.

ما أحوجنا اليوم إلى المثقف النقدي، منتج المعرفة الذي لا يركن للثقافة السائدة، ويواكب الفكر النقدي الجديد، ويعيد قراءة تراثه قراءة نقدية واعية، ولا يراهن إلا على المعرفة والثقافة كقيمة أخلاقية بالدرجة الأولى، ويتفاعل مع قضايا عصره وعلومه، عبر نقد الواقع معرفيًّا، متجاوزًا كل القيود الواعية وغير الواعية التي قد تحد من فعالياته الفكرية، وذلك حتى يتمكن من ممارسة دوره الثقافي والإبداعي، وحتى يتبوأ المكانة اللائقة به، ويحظى بالاحترام والتقدير من جديد.

المثقف العضوي، الرسولي، الملتزم، الريادي، الطليعي، المشاكس، الوطني، الإنساني، كلها توصيفات تعبر عن المثقف الإيجابي المتفاعل مع قضايا مجتمعه، المثقف الذي لا يدير ظهره لمجتمعه، ولا يرضى بأن يكون شاهدًا على الحدث، بل فاعلاً إيجابيًّا فيه، كما يرى بيير بورديو. ولهذا، فلا يمكن لكل الناس أن يقوموا بوظيفة «المثقف»، على الرغم من أنّ أنطونيو غرامشي يصفهم بالمثقفين، لأنّ المثقف برأيه هو الناقد الاجتماعي الذي يعمل في مجال الإنتاج الثقافي، ويكرس وقته ونفسه لخدمة القضايا الاجتماعية الحيوية، ويعمل على بناء نظام فكري مؤنسن ومعقلن. ( عن «كراسات السجن» لأنطونيو غرامشي)

■ كيف تتصورين سياسة إعلامية ثقافيّة تمكّن خطاب المثقف من الرواج والتأثير؟

□ قبل الحديث عن السياسة الإعلامية الثقافية الكفيلة بتمكين خطاب المثقف من الرواج والتأثير، يجب الحديث عن حضور الثقافة في إعلامنا العربي، وهو حضور مخجل للأسف، خاصة في المغرب العربي، أمّا دول الخليج فقد انتبهت للدور الفاعل للثقافة في المجتمع.

ومن منطلق تجربتي في الصحافة الثقافية، يمكن أن أجزم لك بأنّ الثقافة على الأقل في بلدي هي آخر ما يتم الاهتمام به في الإعلام المكتوب، والمسموع، والمرئي.

لقد أصيبت كلمة ثقافة بالميوعة، وأصبحت تستعمل في كل شيء، وتدل على أي شيء.

وبالنظر أيضًا إلى واقع الثقافة في العالم العربي، فهو غير مشجع بالمرة، على الرغم من وجود مجموعة من المحاولات الفردية الجادة، التي استطاع أصحابها فرض وجودهم في غياب المؤسسات الثقافية الرسمية وغير الرسمية، أين هي وزارات الثقافة العربية مما يعتمل في العالم العربي اليوم؟ وهل تتوفر فعلاً على سياسات ثقافية كفيلة بالنهوض بالثقافة في بلدانها؟

لا يمكن الحديث عن سياسة إعلامية ثقافية في غياب سياسة ثقافية حقيقية في بلداننا، التي ماتزال الثقافة بالنسبة إليها ترفًا، وليست حاجة اجتماعية ضرورية، وفي المقابل يمكن اعتبار وسائل الإعلام الجديدة، أو ما يعرف بـ»الإعلام البديل» أداة مهمة من أدوات التغيير، وترويج خطاب المثقفين والمفكرين، وقد أثبتت مواقع التواصل الاجتماعي (فيسبوك، تويتر، يوتوب…) في السنوات الأخيرة، فعاليتها وجدارتها في تحقيق التأثير، فأصبحنا أمام «صحافة ثقافة الأنترنيت»، التي تقوم بدور إيجابي على علاتها، في التعريف بالكتاب والمثقفين، وفسح مجال لهم للتعبير عن مواقفهم. 

ومثلما كان تأثير مواقع التواصل الاجتماعي إيجابيًّا مع ثورات الربيع العربي، فإنّه سيكون كذلك لهذه المواقع، وللمواقع الثقافية الإلكترونية، من صحف ومجلات، تأثير إيجابي أيضًا في الحراك الثقافي العربي، على الرغم من الفوضى التي يعرفها هذا النوع من النشر الثقافي الإلكتروني اليوم، والذي لم تستجب له العديد من الأقلام الثقافية العربية التي مازالت مرتبطة أكثر بما هو ورقي.

■ في ظل استشراء العنف اليوم بمختلف أشكاله، خاصة في المنطقة العربيّة والإسلاميّة، وإقبال ممارسيه على توظيف التقنيات الحديثة لتبرير أفعالهم وتشريعها والدعوة إلى دعمها، هل ترين أنّ المثقف العربي قد خسر معركة الإعلام، وفرّط في أن يكون متحكمًا فيها؟ هل المشكل مشكل تقنية وإلمام بسبل توظيفها، أم هو خلل في الخطاب ذاته من الداخل؟

□ المشكلة، هي مشكلة تقنية وخطاب أيضًا، لأنّ الكثير من الأشياء التي تحدث اليوم، جراء التطورات المتلاحقة، جعلت المثقف العربي متجاوَزًا، وخطابَه مكرورًا وبائتًا، خاصة من قبل الفئات العريضة من المثقفين، التي استأنست بالأدوات القديمة وأغفلت أنّ العالم تغيّر، وصارت له مقومات جديدة ووسائط جديدة للتواصل المعرفي والفكري.

وأمام هذا العنف المستشري، والذي تمارسه تنظيمات تتخذ من الإسلام غطاء لها (من مثل القاعدة وداعش)، ومن الإعلام الإلكتروني واجهة كبرى، يظل المثقف العربي عاجزًا عن مسايرة العصر، يعاني من غربة مضاعفة، بسبب تعثر أدواته الأيديولوجية والفكرية التي استعملها منذ عهد الاستقلال، وبسبب التطور التكنولوجي الذي لا يستطيع مجاراته، والذي للأسف استطاعت تلك التنظيمات توظيفه في إعلامها، وأذكر هنا نموذج مجلة تنظيم الدولة الإسلامية «دابق»، بصيغتيها الإنجليزية والعربية، والتي تسوّق للفكر الداعشي عبر العالم بأساليب تقنية حديثة تثير القارئ، وغيرها من المواقع الإلكترونية لتلك التنظيمات ولشبيهاتها، والتي يقف وراءها تقنيون عرب من مستوى عال استقطبتهم تلك التنظيمات. 

ولهذا، على المثقف اليوم إعادة النظر في خطابه، وفي الأدوات التي يستعملها، وفي اليقينيات التي لديه، حتى يستفيق من فيلم الرعب الذي يعيشه، لأنّ الوقت قد تغير، وجرت أمور كثيرة لم يضعها من قبل في الحسبان، ألا وهي تسلل العديد من القوى والتنظيمات الإسلامية التي تتخذ من الإسلام غطاء شرعيّا لها، وحولت الحياة العربية الإسلامية إلى جحيم.

إنّ المجتمعات العربية بحاجة إلى مثقف جديد تنويري أو مستنير، مثقف يصنع أدواته بنفسه، ويطورها، لا مثقف يستعير أدوات الآخرين، ويستعملها بسذاجة كبيرة. نحن بحاجة إلى مثقف قريب من الناس ومن الواقع، مثقف يستطيع بناء الوعي، ويتوسل بالأدوات التكنولوجية الحديثة، ويوظفها لإصلاح كل الأعطاب الممكنة، وبناء المستقبل، كما أنّنا بحاجة إلى مؤسسات فكرية تنويرية، وإلى إعلام هادف وتنويري في الآن نفسه.

 

المصدر: القدس العربي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى