«العودة إلى كازابلانكا» للمغربي فؤاد العروي: السلطة وجدل الدين والتدين

أنور عوض

من على محطتي النقيضين تجري أحداث رواية «العودة إلى كازبلانكا» للكاتب والروائي المغربي فؤاد العروي الحائز جائزة غونكور 2012، رواية على صفحاتها التي تزيد عن الثلاثمئة صفحة تتجسد مضامين عميقة للحوار الجدلي بين نظريات الاستنارة ومسلمات ما قبلها.
مشاهد سردية تعبر عن مدارس مختلفة، بعضها يصل لدرجة التباين، حيث لا نقطة التقاء أبدا، والمدهش ان وقائع الرواية الصادرة بالعربية عن «دار الساقي» بترجمة لينا بدر تشكل خلاصات نادرة تطرح بعض ما ينادي به فرويد ونظرياته والسيرة الذاتية لديكارت بجانب مفردات الروائي الفرنسي آندرية بروتون وفولتير، بينما من الاتجاه الآخر تطل مدرسة ابن طفيل في «حي بن يقظان» وابن رشد في «رسالة النفس» وهي الكتب التي يعود «آدم» إلى مطالعتها مرة أخرى بعد ثلاثين عاما، يعود ليقرأ عن طبائع الإنسان الثلاثة وعن النظام التراتبي لطبائع البشر: بعض الناس لا يقبلون شيئا إلى نتيجة البرهان آخرون يقتنعون بالحجج الجدلية، والأخيرون مفتونون بالبلاغة.
«رجل هرب من الآلات الطائرة ليعقد ميثاقا أقوى مع دم أسلافه» هكذا يحدث آدم سجلماسي نفسه، تخنقة رغبته في تغيير حياته، بينما تطارده اتهامات الجنون لمجرد أنه اختار خياره، وهو على ارتفاع الثلاثين ألف قدم فوق بحر «الأندمان» عائدا إلى مدينة كازبلانكا، أن يستقيل من الشركة الكبرى التي يعمل فيها مهندسا مرموقا، هي عودة تذهب بكل شيء من حياة الحداثة التي عاشها، إلى توصيفات الجنون التي لاحقته منذ أن غادر المطار عند العودة. تماما كما يشير في مقدمة الرواية «اليوم من لا ينسحب كليا من هذه الضوضاء ويرغم نفسه على البقاء منعزلا، فهو هالك لا محالة» غوتية، أحاديث مع إيكرمان.

من الغريب في الطريق
إلى «كازبلانكا»؟

لتوصيلة إلى المدينة بعد خروجه من المطار متوجها إلى مدينته كازبلانكا، عروض كفيلة بأن يبلغ مبتغاة بلا مشقة، غير أنه اختار أن يمشي على رجليه، بينما يداه تتبادلان جرّ حقيبته، يمشي وهو يستمع إلى صوت دواليب حقيبته، صوت لم يقطعه إلا توقف ثلاث سيارات في توقيتات مختلفة من بداية رحلته، عروض حاتمية لتوصيل الرجل المنطلق وحيدا على الطريق السريع، رفضها جميعا، معتذرا وشاكرا للمتبرعين، مطلعا إياهم أنه يريد السير على قدميه، ومع ذلك لم يسلم من توصيفات المتبرعين الثلاثة، ودّعه الأول بتمتمة «امسكوا المجنون…امسكوا المجنون ..أطلقوا الكلاب». أما الثاني هو زوجته غادرا آدم وسيارتهما «الفيات» تضج بصيحاتهما «سفر سعيدا مجنون… مهاجر، يظن نفسه في السويد». أما العرض الثالث فقد انتهى أيضا بعبارة تشبيه لاحقت «آدم» وهي «إنه رجل غريب الأطوار (مهووس). أما «آدم» فكان مشغولا بإخضاعهم جميعا إلى الفحص والتحليل النفسي وتحديد شخصياتهم من واقع مظهرهم والتعابير التي يستخدمونها في الحديث معه، يحدد في خياله مهنهم ووضعهم الاجتماعي، ويسرح بخياله عقب مغادرة أي واحد منهم، إلى أن يسمع بوق سيارة أخرى على الرصيف وصاحبها يتقدم بالدعوة ذاتها. وبين ميقاتين متقاربين عقب مغادرته للمطار يقوم «آدم» باختيار طريقة غرائبية جديدة، حيث يوافق على عرض من سائق عربة يجرها بغل لتوصيله إلى كازبلانكا، ورغم سعادته بهذا الاختيار إلا أن رحلته سرعان ما تنتهي بتوقيف الشرطة للسائق بينما تتكفل الشرطة بتوصيل آدم إلى المدينة.

في البيت
قبيل العاصفة

في البيت يفتح أبواب الجحيم على نفسه، إذ دوما ظل التعاطي المشترك مع زوجته مختلا.. كان كلاهما في عالم الخاص، يتذكر «آدم» أنه كان يوما يسير مع زوجته «نعيمة» ذات الأصول الأندلسية كما تقول، على كورنيش «كازبلانكا» فقام باستعارة مقطع لبولدير مخاطبا إياها (وجهك، حركتك/ سيماؤك /جميل مثل منظر جميل/ تلعب ضحكة على وجهك/ مثلما تلعب الريح الباردة في السماء الصافية) فتقاطعه أنت على حق، الهواء بارد سوف أصاب بالرشح، لنعد إلى البيت».
يسارع «آدم» بإخبار زوجته عن حالة «التجلي» التي حدثت له في الطائرة، اكتفت بالتحديق وهو يفجر قراره على مسمعها، والقط أيضا يستمع «نعم، سوف أغير حياتي لم أعد راغبا في الإقامة في طائرة ثم في أخرى، أنام في فنادق تتشابه جميعها.. أستيقظ في كوالامبور أو في سيدني، وأنا أتساءل أين أنا، لا بل أتساءل أحيانا من أنا؟ أركض أتعرق، أهدد، وكل ذلك في سبيل ماذا في سبيل بيع الزفت.. الزفت الذي يباع فضلا عن ذلك، على أفضل وجه من دوني. لماذا هذا الركض الجامح؟ أريد أن أبطئ». وبعد أن تحضر له زوجته العصير تفجر موقفها تجاه الحديث الغريب لزوجها، لا بد أن تستعين بنصير لها قبل أن تهزمها فلسفة زوجها «لم أفهم شيئا من مغامرتك فوق المحيط بدا الأمر لي غريبا، هل هذه فلسفة هه، لكن الإنسان لا يغير حياته لأنه تحدث إلى مومس روسية داخل طائرة، سوف أستدعي أمي لديّ إحساس بأن ثمة شيئا ليس على ما يرام داخل رأسك. أريد أن نتحدث في الموضوع نحن الثلاثة». «آدم» يحاول أن يشرح لزوجته ما يعاني وهي تظنه ممسوسا أو عائدا من كوكب آخر فتعالجه بقولها
عندما تعود إلى الأرض سنعاود الحديث عن كل هذه القضية. وسرعان ما يصف «آدم» واقعه بأنه تحول إلى شخص مطرود من بيته ويحوم السؤال حوله، وهي الأسئلة ذاتها والإلحاح من زوجته لزيارة الطبيب النفسي، الذي يؤمن بمقولة د. كنوك «إن الإنسان السليم هو مريض يجهل ذلك»، وهنا يواجه بأن لا مفر من رحلة جديدة، فعلها «آدم « بالسير على قدميه لأيام عديدة حتى يصل إلى موطنه الأول «أزمور» ليدخل الممر الضيق حيث حقيقة الحياة، كما يظن. يبحث عن ذكريات طفولته، حيث شجرة النارنج وخرزة البئر وبيت عمته «نانا في شارع موفلون، كما تقول ذاكرته، هي رحلة أرادها «آدم» أن تحقق له سكينته المفقودة، جاء يبحث عن الصمت فإذا به يواجه بالكلام المستمر عن البئر الجافة وكرامة عائلته عائلة سجلماسي وزيارات الشرطي «البصري» وأسئلته المتلاحقة والاحتيال اليومي الذي يمارسه «الدجال بوعزة» على الأهالي البسطاء يبيعهم ماء يحميهم من الشيطان، هناك تعصف به خرافات بركة عائلة سجلماسي، كذلك حالة جدل لا تنتهي مع ابن عمه الإسلامي المتزمت «عبد المولي» حول الله والقدرية، ووجودية الرجل الثاني في كل الأديان، وليت معاناة «آدم» تنتهي بنهاية الجدل حول مفهوم الدين والتدين، إذ أن السلطة أيضا تزج بأنفها في دنياه، وتورطة في مخطط انتخابي لدعم وجه نظرها في انتخابات البلدية، وينتهي الأمر بممثلي الدولة بتقديم عرض خاص له مقابل أن يدعم مخططهم لهزيمة «الشيخ ياسين» ورجاله، يقولون إن الدولة مستعدة لترسيخ أن بئر الماء الكائنة في بيتهم مقدسة وإن «آدم هو آخر سجلماسي وإن رفض فالسلطة قادرة على محاكمته بالرجم، لأنه لا يعيش في وفاق مع تشريعات القرآن. ضغوط جرّت خلفها جبال ضغوط أخرى. و»آدم» يردد من واقع اطلاعه ورؤاه الفلسفية أن قوة إرادته تتأرجح ما بين الفراغ والعدم من جهة، وشعور واه لا يعدو أن يكون وهما من جهة أخرى. فيقررالهرب من الزقاق الذي تحول إلى ساحة حرب وكاد أن يدفع حياته ثمنا لذلك. فيولي وجهه وحياته إلى غار صغير بعيدا عن المدينة، ربما يلحق ببعض ما يفقده عقله ممن هم حوله، «الانسحاب هو الانتصار الحقيقي قد يكون على حق في كل شيء وعلى حق ضد الجميع: هو آدم، العاري على شاطئه، العاري مثل الإنسان الأول … هو آخر سجلماسي».

(القدس العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى