«حين تبكي مريم» للبنانية مريم مشتاوي… الدمع طريق الحقيقة

الجسرة الثقافية الالكترونية
علي نسر
بين الوجعين، الخاص والعام، تقيم الشاعرة مريم مشتاوي جسرها الرؤيوي، أعمدتُه لغة شعرية وصورٌ شكّلت برهانًا على ما تقدّمه من مضامين شعرية، متجاوزة المعاني التي يشترك في استخدامها الجميع… فالموضوعات المطروحة ليست بكرًا بدلالاتها المعروفة، لكنّها توليدية، قدّمتها الشاعرة بقوالب فنية مبتكرة، فيها لعبة أسلوبية تجعل المتلقي واقفًا أمام حيرة التلقي وصعوبتها، يتراوح بين صناعة كتابية من جهة، وعفوية في إطلاق المشاعر من جهة أخرى.. وبهذا تؤكّد الشاعرة أن الإبداع خلق لا تكمن أهميّته في طَرقِ موضوعات لم يتطرّق إليها السابقون، إذ ليس الإبداع ولادة شيء من عدم، إنما الإبداع إعادة خلق لموضوعات قد تكون مطروقة أبوابها عشرات أو مئات المرات، لكن الخطر والشأن يكمنان في كيفية إعادة هذا المخلوق بتركيب جديد وكسوة مغايرة.. وهذا ما تثبته مشتاوي في مجموعتها الشعرية الجديدة «حين تبكي مريم»، منشورات لندن العربية.
إذ يشكّل هذا البكاء خيطًا هندسيًّا رفيعًا بين ماضٍ سبّب تساقطَ العبرات، ومستقبلٍ يفتحه ظرف الزمان (حين) على احتمالات عديدة وتوقعات حول ما يمكن أن يؤول إليه البكاء. كيف لا؟ ودموع مريم تعبّد طريقًا شفافًا، جوانبه خيوط عنكبوت، يؤرجحها ويؤرجحنا بين الحقيقة والوهم، بين الواقع والاحتمال. «ودموعي تغزل له/ بخيوطها اللامعة، شبكة عنكبوت طريقًا..طريق تشقّ خطاها/ بين الواقع والمستحيل..».
وعلى الرغم من غزارة الوجع الذاتي، المتدفّق من ينابيع فقد الأحبة، والحب المضني والشوق إلى من تحب، إلا أنّ الشاعرة عرفت كيف تشرك القارئ في تلك الأحزان، إذ تذوّب الخاص في بحيرة العام، ليستحيل بكاؤها بكاءً مريميًّا عامًّا، فلم يبق الحزن منصبًّا على الولد الساطع وجهه في مجمل سطور القصائد، ولم يقتصر الألم على تجربة حبّ أو على بحث عن حبّ بين أوحال الحياة ورمال الوجود المتحركة، بل نرى الشاعرة تغرف أوجاعها من بئر تنزّ حبالها دماء، وترشح حوافها عرق أجيال هذه الأمة. أجيال أدمنت خيمة الرحيل أكتافها، ليصبح العراء مأوى، والشتات موانئ تفتح لياليها نحو غياهب المجهول، وترتسم الحياة بألوان الدمع «تتثاءب الحياة/ فتنهمر الدموع/ هناك فوق الخيمة الصغيرة/…هناك في الخيمة الصغيرة/ تنهمر الدموع/طويلا طويلا/لتنعس الحياة».
لذا فالمفجوعة هي الأم مريم، والمصلوب هو هذا الوطن الممدد فوق أخشاب الموت والاغتصاب والقتل المجاني..ما جعل الشاعرة الناطقة بلسان حال أبناء هذه الأمّة، تعتاد الألم، وتتكيّف معه وكأنّه استحال مكوّنًا من مكوّنات هويتنا المعرفية «عندما يطول الألم نعتاده/ تمامًا كالأعمى لن تقهره قسوة الليل مهما طالت..». ولم تكتفِ بذلك، إنّما تطرح أمامنا صورة مأساوية، وكأنّ قلمها مشرط تمزّق به لحم الواقع، علّها تستأصل ما يعتريه من أدران، وتستر ما في جسده من عيوب وعورات، فتثور على المألوف، باحثة عن حبّ تفتقد إلى عنفوانه، حب لا ترضى به إلا ريحًا لا تعرف استقرار وجهتها كي لا تسقط في الملل والفتور «كنت أظنّك الريح/ قل لي/ كيف تسببت بالضجر/ لوردة الغاردينيا/ الموغلة في شعري». ما دفعها إلى تحطيم الهياكل القديمة المشكّلة أقانيم الوعي القائم الفعلي، راسمة ملامح وعيها الممكن القائم على التغيير «ها أنا أثور على حبّك/ أتعمّد بمياه النسيان/ لأطرد ذكراك… أتمرّد كالأطفال على عاداتنا/ أغازل البنفسج الغريب/ وأعادي أوركيد العمر..». لذا كان الحب المتفجّر على ضفاف الثورة والحرب أكثر نضجًا، وهمس الغزل تحت سياط الجلادين في دهاليز السجون أكثر عذوبة «في زمن الثورة أحبك أكثر..». لكن شباك الواقع ما كانت لتتركها غارقة في حلمها التغييري، فها هي تنتشلها من لجج أحلامها وترمي بها على يابسة الواقع الذي لا مفر من العودة اليه وكأن الحياة صارت مشاويرها دائرية متناهية، خواتيمها شبيهة بفاتحتها «وأثور على الكون/ وأدور أدور/إلى أن أقع/ بين أحضانك/ ومن شدة التعب والحب/ أنام..».
ويزداد الجوّ تلبّدًا حين يستحيل الموت رداء الحياة، وبدلًا من أن يكون طارئًا ثانويًّا ننعت به ما يشبهه، والحياة هي الأساس، نراه ركنًا وجوديًّا فرض نفسه بالقوة والفعل، وصار إطارًا حياتيًّا، ومعالم الفرح والحياة زوائد تنعته، وهذا يؤكّد مركزيته، وما يدور في فلكه من حب وأمل تحوّل إلى تابع.. وقد برعت الشاعرة في تقديم هذه الصورة التراجيدية، عبر نعت الموت بالعروس لتكون رمزية العروس دخيلًا بدلا من أن يكون الموت هو الدخيل. فتقول: «أنا الميتة العروس/ أتذكّر كيف أوصيت الغريب/ بغسل شعري الطويل…».
إنها البلاد المتعثرة بالموت، كيف لا ونساؤها يحملن في الأحشاء الوجع والجوع «أنا امرأة/وفي أحشائي توأمان/ سميتهما: الوجع والجوع».
ويصبح الأمر أكثر هولًا ورعبًا، حين يتخلى عنا الملاذ والملجأ الأخير ويدير لنا الظهرَ الربُّ الموئل الأساس ويصبح الأمان غير مضمون «أسند ظهري إلى حائط جامع حلب الكبير/ وأصلي/ ولا أستريح/ وأشهق أمام كنيسة السيدة العذراء/ في اللاذقية وأصلي/ ولا أستريح..». كل هذا التراكم من الحزن والأسى، ينعكس على النفس والروح أزمات عصابية وذهانية، فها هي الشاعرة، وباسم جميع من تركت الحروب على صفحاته بصمات، تعلن استسلامها لليأس، تحت ضربات الشعور بالدونية حيث العجز وعدم الاعتراف بالقدرة على ممارسة الحياة «طوبى لمن لم يحمل قلمًا/طوبى لكل عاقر على الأرض..».
وهكذا استطاعت الشاعرة أن تقدّم مشهدًا بانوراميًّا، عن واقع هذا الوطن الممتد من الماء إلى الماء، فكان مشهدًا ملبّدًا بالغيم المطبق، الزمن فيه بطيء، لا خبر يطوي الجزيرة، غير خبر الموت الذي غالبا ما تكذبّه الشاعرة بداية، حتى إذا لم يدع لها صدقه أملا شرقت بالدمع حتى كاد يشرق بها..مشهد انقلبت فيه الأدوار، فبدلا من تأمين الحماية لأطفاله وناسه من نواجذ الريح الآتية، نرى الأطفال يستحيلون متاريس يختبئ خلفها الكبار «الشتاء في بلادي جبان/يخشى الغرق وحيدًا/ ويحتمي في أحشاء الأطفال..».
وكلما أوهمتنا الشاعرة بتغلّبها على الواقع ومحاولة الخروج منه وعليه، عبر استكمال مشوارها بين ضفتي وصايا الوردتين، إلا أنها سرعان ما تستفيق، مشيرة إلى تراجعها عبر الإكثار من أداة الربط الاستدراكية التعارضية (لكن)، بالإضافة إلى تغليف النص بالجمل الانشائية الانفعالية عبر الاستفهام المشير إلى تيهها.. كما اعتمدت الشاعرة الرمز والأسطورة للإشارة إلى الدول الأكثر معاناة وتدهورًا كلبنان وسوريا والعراق، عبر استعراض ملامح عشتار وياسمين الشام وبابل.
وعلى الرغم من التكثيف في الكلام والصور، إلا أنّ العفوية حرمتنا في بعض المحطات من عذوبة التصوير، خصوصًا عندما يكون الوجع الشخصي هو ما ينكأ جراح القصيدة.. بالاضافة إلى بوح الشاعرة في بعض المقطوعات بما يحب القارئ أن يكتشفه بنفسه ليكون شريكًا في كتابة النص ورؤيته، ويتلذذ باستنباط المستور.
المصدر: القدس العربي