رأفت الميهي والقضايا الاجتماعية الكبرى من الكلاسيكية إلى الفانتازيا

الجسرة الثقافية الالكترونية
*محمد عبد الرحيم
مع رحيل كاتب السيناريو والمخرج رأفت الميهي (1940 ــ 2015) تطوى صفحة هامة من السينما المصرية. فالرجل علامة بارزة من علامات تاريخ السينما في مصر، وقد قدم أعمالا تعد من أهم وأشهر ما قدمته السينما، سواء من حيث الموضوعات أو الأسلوب الذي انتهجه الميهي مؤخرا، حينما تفرغ لإخراج ما يؤلفه من أفلام.
أفلام الميهي بشكل عام تحاول التركيز على المجتمع وتحولاته، وتأثير هذه التحولات على الفرد، ومن ناحية أخرى أصبحت الأفكار الاجتماعية الراسخة في مجتمع مثل مصر هي ما يشغل الميهي، ويجعله ينتقدها بقسوة، فما كان إلا اللجوء إلى أسلوب الفانتازيا، حتى يستطيع قول ما يريد، دون أية معوقات رقابية أو اجتماعية، وعلى رأسها فيلم الأفوكاتو عن مناخات السلطة السياسية وانعكاساتها على الفرد، وإن كان يبدو في إطار واقعي، وفيلم السادة الرجال، الذي ناقش نظرة المجتمع الذكوري للمرأة، وما تعانيه في حياتها. وكلها أفكارا لم تزل تضرب الشرق ومصر خاصة، رغم مظاهر الحداثة الخارجية، والشكل الكاريكاتوري للتحديث، الذي يكاد يفوق المخيلة الجامحة للميهي نفسه.
الاجتماعي والنفسي والشكل الكلاسيكي
بدأ الميهي كاتبا للسيناريو، ويبدو أن اهتمامات الكاتب في تلك الفترة كانت تدور حول المشكلات الاجتماعية العامة التي تمر بها مصر والمجتمع المصري. وفي هذه الأعمال نلحظ البناء التقليدي للدراما، والخطوط الكلاسيكية التي لا يحيد عنها كاتب السيناريو ــ البناء الأرسطي المعهود ــ هذا من ناحية، ومن جهة أخرى تبدو مفاسد العهد الملكي ترمي بظلها على المجتمع، ولا ننكر الحِرفية الشديدة في سيناريوهات أفلام مثل… غروب وشروق 1970 الذي أخرجه كمال الشيخ، وفيلم شيء في صدري 1971 عن قصة لإحسان عبدالقدوس. ليستمر الميهي في أعمال ناقدة بشكل فني غير مباشر، كما في فيلم على مَن نطلق الرصاص 1975، ليحلل مظاهر الفساد في السبعينات، وما عُرف بتسميته عصر الانفتاح. ربما لم ينتقد الميهي فترة الستينات مباشرة، إلا أنه تعرّض لها في الأفوكاتو، أهم أفلامه، والذي يُشكل الرؤية والأسلوب الفانتازي الذي اتبعه بعد ذلك.
وكتب الميهي سيناريوهات الدراما النفسية، ومن أشهرها فيلم أين عقلي 1975، والذي أرجع فيه العامل النفسي إلى الصراع مع التقاليد والأعراف البالية، التي تتحكم في مصير الشخصيات، مهما نالوا القسط الأرقى من التعليم. ناقش الفيلم مشكلة الشرف في الشرق، والحِس الذكوري بمعناه، وكيفية التعامل مع هذه القضية من الناحية النفسية، رغم مظهر التطور الفكري والاجتماعي للشخصية.
الصراع الفكري أيضا جاء في فيلم غرباء 1973 من إخراج سعد عرفه، لكنه جاء في دراما أقرب لمعالجة الفكرة من خلال شخصيات تمثل نماذج مباشرة لها، فالبطلة (نادية/سعاد حسني) حائرة في الاختيار ما بين الحب والدين والعلم، وتوصل إلى حل توفيقي قلل من أهمية العمل، ونكص به عن مقدماته القوية، فهذا الفيلم بوجه خاص كان من الممكن أن يخطو بالسينما المصرية خطوات واسعة للأمام لولا تراجع كاتب السيناريو والمخرج، وإيجادها الحل في نهاية مشوّشة توفيقية أو تلفيقية بالمعنى الأصح.
ولأهميته سنتعرّض إليه في شيء من التفصيل… فالفيلم يبدأ بخبر في الإذاعة عن عمليات تخليق الأجنّة، وما توصل إليه العلم، وبذلك يصبح الإنسان غير مرتبط بأسرة معينة ومناخ اجتماعي معين يفرض عليه اختيارات تؤسس لحياته… من عادات، تقاليد، موروثات، وأفكار دينية بالطبع. وبالتالي فهذا المخلوق الجديد قد تخلص من كل موبقات عصرنا الحالي، وكل قيوده، وتتاح له فرصة حرية الاختيار كما يشاء. هذه الفكرة الموهومة من أساسها هي ما جعلت السيناريو يتخبط في الوصول إلى رؤية كاملة لما يريده ــ رؤية وليس حلا للمشكلة، فالفن لا يقدم الحلول ــ وهو ما جعله يصنع نماذج تقوم بها الشخصيات، أكثر من بث الحياة في الشخصيات نفسها… أحمد/شكري سرحان الموهوم بالتدين، سمير/حسين فهمي صاحب الرغبات والعقل الرجعي رغم مظاهر التحضر التي يعيشها، فؤاد/عزت العلايلي الذي يقدس العقل ويراه السبيل الوحيد للحقيقة.
وبما أن شخصية سمير تتشابه والعديد من الشخصيات في الحياة، فقد جاءت باهتة تماما، فهي تمثل الحُب في حياة نادية، أما الصراع الأساسي فكان بين المؤمن بعقله والمؤمن بروحه، فأي منهما سيصل للحقيقة. هنا تبدأ المشكلة والاضطراب في معالجة الشخصيات/الأفكار … أحمد متدين دون ان يصل إلى حالة الحب الحقيقي والصدق الخالص، لذا فهو يُخطئ مع جارته التي تغويه منذ البداية، معادلة/كلاشيه.. لا يجد المتدين أو المدّعي أو الجاهل إلا التجربة الجنسية مجالا لاختبار شدة إيمانه وموقفه، لم يختلف الأمر هنا عن أقاويل الأصوليين في أي دين كان، الإغواء/المرأة/جهنم.
ماذا لو كان شقيق نادية فتاة، لتصبح شقيقتها، وتتميز بتجربة أخرى وما ستصل إليه ــ هذا مجرد افتراض ــ لكن الفيلم سار وراء الكلاشيهات في عقول العامة! الأمر الآخر.. لم يستطع الفيلم القفز أبعد من مجرد التفكير ــ عملية التفكير نفسها ــ التي قام بها فؤاد، لينتهي به الأمر في مصحة نفسية بالخارج، وقد شك في قوة عقله بأن تكون هي السبيل للحقيقة التي يرجوها. قد نتماشى مع السيناريو في أن كل مُطلق خطأ، التدين الأعمى والعقل الأكثر عماء، وماذا عن النسبي إذا؟ لا توجد شخصية تحقق هذه الحالة ــ بما أننا نتحدث عن رموز لأفكار وليس شخصيات كما قدمها لنا الفيلم ــ لا يوجد! اللهم رجل يرتدي الأبيض، يبدو من جال الله الصالحين/محمد السبع، وهو الصورة نفسها في الخيال الشعبي لرجال الله الأتقياء!
حسن سبانخ نموذج الجيل الجديد
يعتبر فيلم الأفوكاتو 1983 من أهم أعمال رأفت الميهي، كما أسلفنا، فرغم المظهر الواقعي للعمل، إلا أن أسلوب الفانتازيا في العلاقات والأحداث والشخصيات ومعالجة كل منهم فنيا جاء لافتا في تجربة شبه مثكتملة، ربما لم تتكرر طوال مشوار الميهي عندما بدأ ينفذ افلامه بنفسه. سبانخ/عادل إمام، ما هو إلا نتاج طبيعي لعصرين من أفسد وأقسى العصور السياسية التي مرّت بمصر. رجل أمني من الستينات ورجل أعمال من السبعينات، فما من حسن سبانخ ممثل جيل الثمانينات إلا أن يصبح بهلوانا وفهلويا حتى يستطيع العيش والتنفس بين هؤلاء. وبما أنه رجل قانون ــ لاحظ ما يُمثله ــ وكل من رجلي العهدين البائدين في السجن الآن، فها هو يستغل الفرصة ويحاول السير فوق الحبل.
لا توجد قيم، ولا توجد أسس أخلاقية يمكن اللعب من خلالها، تائه ما بين سلطوي ونصاب، وهذا هو الشكل الوحيد لتداول السلطة، فماذا سيفعل هو؟! الأمر الآخر الذي أشار إليه الميهي بذكاء هو استمرار تحكُّم هذه النماذج في حياة الآخرين، رغم وجودهما في السجن، وبالتالي ثبتت عليهما جرائم ما، إلا أن تأثيرهما لم يزل، والنتيجة شخصية حسن سبانخ نفسه، الذي لا يستغرب شيئا، وكما يُقال: «واخد الدنيا على قد عقلها». وما حبس هذا أو ذاك إلا ألعاب جديدة تقوم بها السلطة وقتها ــ في الثمانينات ــ وربما يتشابه الوضع الآن مع ما قدمه الميهي إلى حد كبير يُثير الدهشة.
هذه مجرد نظرة سريعة، وإن كان هناك العديد من أعمال الميهي تتطلب الدراسة، كفيلمي… عيون لا تنام 1981، وللحب قصة أخيرة 1986 (راجع مقالنا عن الفيلم الأخير في «القدس العربي» بتاريخ 13 أبريل 2015).
فيلموغرافيا
رأفت الميهي من مواليد العام 1940، تخرج في كلية الآداب قسم اللغة الإنجليزية، ثم حصل على دبلوم المعهد العالي للسينما عام 1964. قام بعمل سيناريوهات لأفلام تعد من أهم إنتاج السينما المصرية، منها:
جفت الأمطار 1966، غروب وشروق 1970، شيء في صدري 1971، غرباء 1973، الحب الذي كان 1973، أين عقلي 1974، وعلى مَن نطلق الرصاص 1975. ثم اتجه للإخراج منذ فيلم عيون لا تنام 1981، الأفوكاتو 1983، للحب قصة أخيرة 1986، السادة الرجال 1987، سمك لبن تمر هندي 1988، سيداتي آنساتي 1989، قليل من الحب كثير من العنف 1995، تفاحة 1996، ست الستات 1998، وعلشان ربنا يحبك 2001. كما قدم للدراما التليفزيونية مسلسل وكالة عطية عام 2009، المأخوذ عن رواية الكاتب خيري شلبي.
الجوائز:
حصل فيلم «للحب قصة أخيرة» على جائزة خاصة في مهرجان كارلو فيفاري، وحصد فيلم «قليل من الحب كثير من العنف» الجائزة الأولى في المهرجان القومي الخامس للأفلام الروائية سنة 1995. كذلك حصل فيلم «تفاحة» على جائزة الهرم الذهبي في مهرجان القاهرة السينمائي الدولي عام 1996.
المصدر: القدس العربي