رواية «جرافيت» للمصري هشام الخشن: حضور التاريخ وغياب الجمال

الجسرة الثقافية الالكترونية

*عزيز جلال

المصدر / القدس العربي

تحكي الرواية قصة نوال عارف التي سافرت إلى فرنسا لإكمال دراستها في جامعة السوربون، ضمن أوّل بعثة تضمّ طالبات مصريات نابغات. هناك تعرّفت نوال على أجواء من الحرية والمساواة لم تخض غمارهما بقوة. نجحت في دراستها ولم تنجح بالكامل في تحرّرها. تعرّفت على كلود، شاب باريسي كان مستعدّاً ليخوض معها مغامرة العمر، لكن قوّة التقاليد وخوفها من ردّة فعل أهلها وذويها دفعها للتخلّص من هذا الشاب بدون خسائر. ما كسبته من كلود هو رسم بالجرافيت لوجهها سيظلّ يذكّرها أن اكتشافها للغرب كان اكتشافاً مبتوراً، مادامت لم تكمل المشوار ولم تتخلّص من دونيتها كامرأة متعلّمة وعالمة. فلدى عودتها إلى مصر بعد أربع سنوات من التحصيل والمثابرة، ستُصدم بفاجعة موت أبيها، الشخص الوحيد الذي كان قد ساند مشروع سفرها إلى فرنسا، والوحيد الذي كان سيشكّل لا محالة سنداً لها في غياهب التقاليد المتحجّرة. ما كان عليها إلا أن تستسلم لتزويجها لابن عمّها، قرار لا رجعة فيه اتخذه عمّها وجدّتها، التي اعتبرت أنّ غربة حفيدتها واغترابها قد طالا واستفحلا، ولم يعد هناك مجال لمزيد من التطاول على تقاليد مجتمع «يرى البنت عبئاً ويخطّط منذ صرختها الأولى للخلاص منها وإلقائها في أحضان غريب، وإن سمّى الوسيلة لذلك فرحاً وزفافاً» (ص. 131).
لم يكن الزوج الذي اختاره العمّ والجدّة إلا ابن عمّها كامل عارف «حتّى يظلّ زيت العائلة في دقيقها» (ص. 174). كان كامل قد أفلس مع أبيه إبان أزمة 1929 بعد أن راهنا على أرباح البورصة. حاول كامل إعادة مجد أسرته الضائع من خلال تجارة الحرب، فقد نجح مع صديقه الأرميني ليفون في الحصول على صفقة تموين الخمس والسبعين ألف جندي نيوزيلاندي المعسكرين في صحراء المعادي، جنوب القاهرة، استعداداُ لنزال لن يتم. ما عدا ذلك، كان يقضي جلّ وقته في مقارعة الخمر وأجساد النساء ولعب القمار.
أمّا نوال فقد اقتنعت بأن زواجها شكّل كارثة عمرها. ستترسّخ هذه القناعة نهائياً في يومٍ طلب منها زوجها كامل طعام الإفطار، لم تسرع نوال بما فيه الكفاية لتلبية طلبه لأنها كانت منغمسة في رسمها، آخر خيط ظلّ يشدّها إلى عالم خاصّ بها تمارس فيه ما تبقّى لها من حرّية. فما كان من كامل إلا أن مزّق رسوماتها ووجّه لها صفعة مدوّية وكاّن لسان حاله يقول: «أريني كيف تفيدك السوربون الآن؟» (ص. 173).
تزوّج كامل من ديمتريا أخت زوجة ليفون التي كان قد تعرّف عليها أيّام أمجاد البورصة وسهرات الخمر ولعب البوكر في بيت عائلة ليفون. لم يتزوّجها حبّاً فيها، بل حبّاً في جسدها وشبقيتها وحرفيتها في ممارسة الجنس. كانت ديمتريا الإغريقية الأصل قد عاشت في إيطاليا تجربة حبّ فاشلة وقعت بعدها في شراك مواخير القمصان السوداء، تلك الميليشيات الشعبية التي أسسها موسوليني لقمع معارضيه. عندما نجحت في العودة إلى مصر هروباً من جحيم الحرب والجنس البائس والرخيص، أرادت أن تعيد الاعتبار لجسدها وتجمع شمل ذاتها. حاولت ذلك مع كامل وقبلت أن تتقاسمه مع نوال. لكن عندما أخبرته بحملها أمرها بعجرفته وأنانيته المعهودة: «اخلصي منه» (ص. 189).
سيفلس كامل ثانية وسيؤدّى به القمار إلى ارتفاع ديونه اتجاه ليفون، الذي لم يجد بدّاً من رفع قضية ضدّ شريكه، مبيّناُ بكلّ ما أوتي من حجج أنّ كامل لا ينوي الدفع وأن ديمتريا تريد رفع دعوى طلاق ونفقة لها وللطفل الذي في بطنها، وأضاف أن زوجته نوال تستطيع إنقاذه. لم يكن المحامي الذي اتّصل به ليفون سوى الدكتور مختار صفوت، الطالب الذي كانت نوال قد تعرّفت عليه في باريس، والذي لم يكن يُخفي ميله العاطفي لها. حكى مختار تفاصيل القضية لنوال وهنا انتهى المطاف بأن أعلنت من دون استكانة أو رضوخ: «عندي عمارة سأشارك ليفون على نصفها مقابل المديونية. هناك شرط واحد مقابل تدخّلي لإنهاء هذه القصة، وستكون أنت مسؤولاً عنه. طلاقي من كامل» (ص. 210).
هنا في الصفحة العاشرة بعد المئتين، تأخذ الرواية بتأخّر مُربك مساراً مختلفاً. تعي نوال ذاتها وتشعر بأن سنوات التعلّم في أوروبا لم تفدها في شيء، فلا هي اشتغلت وأفادت، ولا هي نجحت في حياتها الزوجية واستراحت. فعلى طول الرواية، اكتفت بأدوار سلبية في وسطها تتأثّر ولا تؤثّر، لا تظهر إلاّ لكي تعلن سلبيتها ودونيتها، رغم إمكانيات التمرّد على الواقع الذي كانت بحوزتها. لم تكن نوال إلا المقابل الموضوعي لطالبة أخرى سافرت معها إلى فرنسا وساعدتها دراسة الفلسفة على إثبات ذاتها والمضيّ بعيداً من أجل تحقيق أحلامها، يتعلّق الأمر بالمناضلة النسائية المعروفة درية شفيق. بدأ مسلسل تمرّد درية منذ وصلت باريس واستمرّ طويلاً في مصر في قيادتها وكفاحها من أجل حقوق المرأة المصرية. تمنّت نوال طيلة حياتها أن تكون مثل درية، أن تفرض ذاتها ووجودها بما يتناسب مع مستواها الجامعي، لكن العوائق والإكراهات كانت أقوى من رغبتها هذه، وظلّ توقها في عداد مكبوتاتها التي لا تعود إلا لتُفصح عن عجزها في مواجهة هذه الإكراهات.
لم تنجح نوال في زواجها لكنها نجحت في طلاقها. وانطلقت بعد طلاقها في تجربة صلح مع تاريخها لتكون ما كان عليها أن تكون، أي امرأة تعي وضعيتها وإقصاءها لا كمثقفة فحسب، بل كمواطنة لها حقوق قد آن وقت قطافها، امرأة تعرف كيف تتجاوز ذاتها المجروحة في اتجاه وجودٍ متوازن ومتّزن. تتمثّل درجة الوعي تلك في التجمّع الحاشد الذي نظمّه الاتحاد النسائي بحضور زعيماته التاريخيات، حيث ألقت درية شفيق كلمة قالت فيها إن البرلمان المصري لا يمكن أن يمثّل الأمّة المصرية بدون تمثيل نسائي. انتهى التجمّع بوقفة أمام البرلمان… هنا لفظت نوال القيود التي حددت حياتها، وهنا وقفت بجوار درية متجاوزةً غيرتها من صديقتها ومصالحةً مصيرها.
نجحت الرواية نسبياً في محورين:
– في إعطاء صورة متكاملة عن التاريخ المصري المعاصر من خلال شخصية نوال عارف. فسفر هذه الشخصية إلى فرنسا عام 1928وعودتها عام 1932ومقامها في مصر إلى نهاية الخمسينيات، كل ذلك كان فرصة لهشام الخشن لكي يعطي لوحة تاريخية حول الأحداث التي عرفتها مصر في تلك الفترة، ولاسيّما تأسيس جماعة الإخوان المسلمين والصراعات التي صاحبت ذلك التأسيس، واستمرّت مع تطوّر الحركة؛ وكذلك انطلاق حركة المرأة المصرية مع الجيل الذي تتلمذ على يد هدى شعراوي، والذي تزعّمته كلّ من سيزا نبراوي ودرية شفيق.
– في استعمال وحشد الوثائق التي أرّخت لتلك الفترة، من ذلك مثلاً التقرير الذي أرسله القسم المخصوص (تحوّل بعد ذلك إلى مباحث أمن الدولة وحالياً إلى الأمن الوطني) بتاريخ الفاتح من مايو/أيار 1948 إلى شرطة مدينة القاهرة يبرز فيه تداعيات حرب فلسطين على الواقع السياسي والاجتماعي المصري، وكيف كانت جماعة الإخوان المسلمين تعدّ العدّة للاعتداء على المصريين اليهود انتقاماً (!) لفظائع الصهيونية ضدّ العرب. ومن ذلك أيضاً القرار الرسمي الذي اتخذته الجماعة والذي يقضي بفصل أحد مؤسسيها، أحمد السكري، لـِ»نكوثه بالعهد» كما أتى ذلك في وثائق الجماعة (ص. 182).
هذا لا يمنعنا من إبداء بعض الملاحظات حول الرواية بشكل عام :
– يشكّل التوثيق الذي تكلّمنا عنه أحد نقاط القوّة في الرواية، لكنه في الوقت نفسه أحد نقاط ضعفها. فطغيانه على مسار الحكي يقلّص من البعد الأدبي ويضخّم البعد التاريخي التوثيقي. بعبارة أخرى، تشكّل عناصر التوثيق ثقباً سوداء (بالمعنى الفيزيائي للكلمة) داخل الرواية وهي بوجودها السميك تجعل القارئ لا ينتبه إلاّ لها وتمنع الرواية من التحرّر من قوة التاريخ والانطلاق نحو رؤية أدبية ثاقبة تنفتح على عالم أرحب…
– إن الأدب بشكل عامّ لا يمكنه أن يتخندق في حرب تصفية حسابات بدون أن يفقد بُعده الجمالي، وحتى إن أراد كاتب ما تصفية حساباته مع فترة تاريخية معيّنة أو مع إيديولوجية ما، فلن يتحقّق له ذلك أدبيّاً، إلاّ إذا احتفظ لنفسه ولكتابته بما يكفي من التماسك، وبما يكفي من تقنيات الكتابة، ليكون سرد الذاكرة بعيداً عن المباشرة، قريباً من التساؤل النقدي الذي يرفض الحلول الجاهزة والنهائية، عن طريق التمحيص وطرح الأسئلة الملحّة والمقلقة. ذلك ما أمهله هشام الخشن في أماكن عدّة من روايته، خاصّة عندما يتعلّق الأمر بتاريخ جماعة الإخوان المسلمين. قد نتّفق مع هشام الخشن في الضربات التي يسدّدها لتاريخ الجماعة، لكننا لن نتّفق معه البتة عندما يسدّد هذه الضربات بمنطق يُسقط بسذاجة فادحة هموم الحاضر على الماضي ويجعل من تاريخ جماعة الإخوان المسلمين تاريخاً يُختزل في المناورات البائسة والمواقف المتذبذبة والمتواطئة مع الاستعمار الإنكليزي. فهذا الإسقاط يُفضي أحياناً بالرواية إلى تبنّي لغة متخشّبة والابتعاد عن أجواء الأدب المُنعشة.
– تتخلّل الرواية مجموعة من الأخطاء النحوية التي لا يمكن تقبّلها من كاتب متمرّس، سبق له أن كتب روايتيْن «ما وراء الأبواب» و»7 أيّام في التحرير» ومجموعتيْن قصصيتيْن «حكايات مصرية جدّاً» و»دويتو». هل يُعقل أن تتفشّى هذه الأخطاء في الرواية العربية عامّة والمصرية على الخصوص؟ فالأمر لا يتعلّق بهشام الخشن وحده، بل بكتاب كثيرين لا ينتبهون إلى أخطائهم، بل لا يشعرون بها وتلك هي الطامة الكبرى. كيف تسمح دور النشر لنفسها بنشر رواية بدون إعادة قراءتها وتنظيفها من الأخطاء؟ بل كيف ترشّح دور النشر روايات مليئة بأخطاء قد تمسّ مصداقيتها في الصميم ؟ ذاك ما يعكس تخلّفنا وعدم احترامنا للقارئ، فمن يقرأ رواية فرنسية أو ألمانية مهما كان ضعفها وضعف ما تطرحه، فلن يجد بها أخطاءً كتلك التي تنتشر في كتبنا العربية. إمّا أن نحترم القارئ ونحترم لغته وإمّا أن نبحث لنفسنا عن مهنة أخرى غير الكتابة. ومن يجزم أن العربية لغة صعبة ويجب تطويعها نحوياً فليبحث لنفسه عن لغة أخرى يكتب بها رواياته.
أخيراً يكفي هذه الرواية أنها أُدرجت ضمن اللائحة الطويلة لجائزة البوكر ويُعتبر هذا وحده دليلاُ على أنّ هذه الرواية تحمل همّاً ما، يتلخّص في مجمله في الوقوف على الصراع الذي نعيشه في وطننا العربي بين الأصوليات المتطرّفة التي تحارب الأدب وبعده الجمالي وقوى مدنية تحاول رغم ضعفها تأسيس مجتمع جديد ومتجدّد. فرغم ما قيل ويُقال عن هذه الجائزة، فقد انتبهت إلى رواية تفتح شهيّة القرّاء بكونها حاولت ولو جزئياً التعرّض إلى ما يعيق انطلاقاتهم نحو حداثة متينة الأسس.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى