شهد عودة نور الشريف إلى السينما بعد غياب طويل: «بتوقيت القاهرة» لأمير رمسيس: رحلة بحث عن الزمن المفقود

الجسرة الثقافية الالكترونية
*راينا يوسف
المصدر / القدس العربي
قليلة هي الأفلام التي تدفعك لتبحث بين شخصياتها عن نفسك، بل وتتمنى أن تصبح أحد أبطالها، مثل هذه الأعمال تؤجج في المشاهد الشعور بالتوحد مع الأحداث وتحيله من مجرد مشاهد على كرسي إلى عنصر فعال، يتنقل بين الشخصيات التي تختلس ملامحها جزءا من واقعه.
فيلم «بتوقيت القاهرة» للمخرج أمير رمسيس استطاع أن يكسر حاجز الزمان، ليربط الماضي بالحاضر والحاضر بالمستقبل، معبراً بإنسانية خالصة عن حالة مكتملة من المشاعر الإنسانية التي تأثرت بالمتغيرات الاجتماعية والسياسية، حيث ينسج المخرج وكاتب السيناريو أمير رمسيس من خلال 3 قصص منفصلة متصلة دورة حياة كاملة لنماذج مختلفة عمرياً واجتماعياً لكنها تكمل بعضها بعضا عبر دورة زمنية واحدة، يعبر فيها الأزمنة الثلاثة، تقف القصة الأولى عند نهاية كل الأشياء حيث يحيى الذي يعاني من مرض الزهايمر بعد أن بلغ من العمر أرذله، يسعى من خلال بقايا ذاكرته إلى البحث عن سبب من أجله يصل الماضي المشوش بالحاضر المزيف، ويتمسك بما تبقى له من مشاعر استعاض بها عن ذاكرته المفقودة، يتمسك يحيى بالبحث عن صورة امرأة لا يتذكرها لكنها يشعر بأنها خلاصه الوحيد وسط صحراء النسيان التي أحالته إلى طفل صغير يتمرد على خوفه وعلى سيطرة ابنه وقسوته التي تصل إلى الاعتداء عليه، فيهرب من حاضره التعيس طواعية ليلجأ الى مشاعر مجهولة يستدل بها على ذاكرته المفقودة، يهرب من البيت بحثاً عن صاحبة الصورة حيث يلتقي بشاب يحاول هو الآخر تجاوز التهديد بالقتل من عصابة تتاجر بالمخدرات، فيختبئ كل منهما في الآخر ويدعما بعضهما بعضا في الهرب حتى يصل كل منهما إلى مبتغاه.
في الوقت الذي تبدأ فيه «أميرة» رحلة البحث عن والدها المفقود الذي لا يتذكر سواها، تساعده أميرة على التحرر من أسر ذاكرته المنسية، ويحيل المخرج والمؤلف أمير رمسيس سبب تناحر الابن مع والده إلى أحد النماذج التي تأثرت بالمتغيرات الاجتماعية في مصر على مدار السنوات الماضية، حيث يتجه الابن إلى التشدد الذي يصل حد التطرف، والذي يعكس تحول جيل كامل من الوسطية الدينية إلى التطرف على يد بعض دعاة الدين المتشددين، حيث لا يتقبل هذا التيار فكرة المواطنة والتعايش مع الآخر حتى إن كان من يختلف معهم هم والداه، وترتفع حدة الصراع بين الابن ووالده بسبب والدته التي كانت تعتنق اليهودية قبل ان تتزوج منه.
يواصل رمسيس تفنيد تأثير المتغيرات السياسية على الوضع الاجتماعي في مصر، خاصة في السنوات القليلة الماضية ومع صعود حكم الإخوان المسلمين وارتفاع نبرة التشدد الديني وانتشار التجارة بالفتاوى الدينية، خاصة في القنوات الفضائية التي أصبحت تؤثر على كافة شرائح المجتمع، خاصة الشرائح الاجتماعية البسيطة والفقيرة التي تعتمد في استقاء معلوماتها من جهاز التلفزيون، من خلال فوبيا فتاوى رجال الدين الذين وظفوا الخطاب الديني لبث موجه جديدة من العادات القبلية المتشددة والغريبة على نسيج الشعب المصري، والتي اثار بعضها السخرية من الدين لسذاجة تلك الفتاوى. جاء امير رمسيس بإحدى هذه الفتاوى التي تمس ممارسة الفنون، وعرضها بإسلوب ساخر من خلال شخصية «ليلى» التي تقوم بدورها الفنانة ميرفت أمين، وهي ممثلة أعلنت اعتزالها التمثيل بعد سنوات من التألق والنجومية، وتحولت مثل الكثير من الممثلات الى تحريم الفن بناء على مثل هذه الفتاوى، تسعى ليلى الى الزواج من رجل دين متشدد يجبرها على البحث عن «سامح» زميل لها تزوجت به في أحد الأعمال السينمائية ليقوم اولاً بتطليقها، عملاً بالفتوى التي تؤكد على شرعية مشاهد الزواج في الفن، وتطلب ليلى من زميلها سامي أن يطلقها لكنه يسخر منها ويذكرها أن ديانتهما مختلفة وأن ما حدث بينهم ليس زواجا حقيقيا ولكنه مجرد مشهد تمثيلي.
أكثر ما يمكنه ان يفسد العمل السينمائي خاصة الذي يتضمن أكثر من قصة منفصلة هو أن تفلت الأحداث من بين يدي كاتب السيناريو فيفضل قصة على اخرى أو يهدر مساحة أحداث معينة على حساب اخرى، لكن المخرج امير رمسيس استطاع ان يحافظ على هذا التوازن السردي بين القصص الثلاث التي انتهت إلى قصة واحدة كبيرة تقاربت فيها الأطراف واكملت بعضها بعضا، مثل لعبة البازل، «يحيى» الذي يبحث عن صاحبة الصورة المفقودة يصل في النهاية إلى «ليلى» التي تسعى إلى الزواج حتى تكسر وحدتها، وتكتمل الصورة بالقصة الأخيرة لسلمى ابنة ليلى التي تعيش حلمها مع الشاب التي تحبه ويرغب كل منهما في الآخر، لكن ظروف الحياة المادية تحيل بينهما وبين تحقيق احلامهما بشكل اجتماعي لائق، فتلتقي سلمى وحبيبها بعيداً عن الأنظار في بيت صديق له يتوهمون انه يمارس نشاطا سياسيا محظورا، فتعيش سلمى وحبيبها لحظات من الرعب خشية مداهمة الشرطة لبيته او تصويرهما خلسه واعتقالهما بتهمة سياسية او جنسية، يعتمد فيها المخرج على تكثيف المواقف الرومانسية بطريقة ساخرة يعلن فيها عن اهدار المشاعر الرومانسية في علاقات الحب واختزالها في العلاقة الجنسية، خاصة عند الشباب الذين يعانون من القهر المادي والضغط الاجتماعي.
لا يحسب للمخرج أمير رمسيس فقط أنه أعاد في هذا العمل الفنان الكبير نور الشريف الى شاشة السينما مرة أخرى بعد عدة سنوات من الانقطاع، لكنه استطاع ان يعيده في أحد أهم وأنجح الأدوار الذي قدمها الفنان الكبير على مدار مشواره الفني، نور الشريف الذي خرج منذ فترة قصيرة من وعكة صحية، تمكن من انتشال شخصية يحيى من فخ تعاطف الجمهور معها ووضعها اداؤه المحترف في خانة المعايشة، الجمهور الذي بكي في صالة العرض مع كل خطوة يخطوها يحيى نحو حلمه، لم يتعاطف معه بل تقمص مشاعره واصبح يتخيل نفسه كيف يبدو عند بلوغه هذا العمر أو إن أدركه هذا المرض