كِتَابُ ابنِ سَرَّاج… والفَاتِنَة شَرِيفَة: قِصَّة رُومَانْسِيَّة مِنْ وَحْي مُورِيسْكِي لأنطونيو دي فيغاس

الجسرة الثقافية الالكترونية

*محمد محمد الخطابي

المصدر / القدس العربي

من أشهر الكتب التي تضمّ بين دفّتيها قصّة من أطرف، وأظرف القصص الرومانسيّة التي تلاقفتها الأجيال في شبه الجزيرة الإيبيرية على وجه العموم، وفي الأندلس على وجه الخصوص كتاب كان مُدرجاً ضمن مقرّرات بعض المناهج الدراسّية للتربية والتعليم ليس في إسبانيا وحسب، بل وفي بعض بلدان أمريكا اللاتينية الناطقة بلغة سيرفانتيس كذلك، النسخة التي في حوزتي من هذا الكتاب اقتنيتها في العاصمة الكولومبية بوغوطا، وهي تحكي قصّة «إبن سرّاج والفاتنة شريفة»، ويصوّر الكتاب، أو ينقل لنا صفحاتٍ مُشرقةً عن الوجود الإسلامي في الأندلس لمؤلفه أنطونيو دي فيغاس.
ما فتئ الإسبان، وغير الإسبان يتهافتون على هذا الكتاب إلى يومنا هذا، وما زالت دُور النّشر، سواء في إسبانيا أو في مختلف بلدان أمريكا اللاّتينية تعيد طبعَه، وإصدارَه، ونشرَه في حللٍ قشيبةٍ، ورونقٍ بديع، تعلوه صُور خيالية، تعبيرية ورومانسيّة جميلة.
تشير معظمُ المراجع العربية والإسبانية، على حدٍّ سواء، إلى أنّ واضع مخطوط هذا الكتاب الرّومانسي الطريف لا يُعرف تاريخ مولده، ولا تاريخ مماته، حتى إن كانت بعض المصادر ترجّح أنّه ربّما يكون قد توفّي عام 1577، إذ في عام 1565 كان قد نشر أنطونيو دي فيغاس في مدينة «ريّال كامبو»، كتاباً طريفاً جمع فيه قصائدَ، وحكاياتٍ تشكّل قصصاً طريفة، وقد نال مؤلِّف هذا الكتاب شهرةً واسعةً في الأندلس، وفي مختلف حواضر ومدن ومداشر وعشائر، وبقاع وَضِيَعْ وأصقاع شبه الجزيرة الإيبيرية في القرن السّادس عشر .

قصص وأساطير

وقبيلة بني سرّاج هي إحدى القبائل التي تنحدر من المغرب، التي كان لها شأن كبير وبارز في مملكة غرناطة في القرن الخامس عشر. ويُقال إنّها تُنسَب إلى يوسف بن سرّاج، رأس القبيلة في عهد محمد السّابع، وقد أورد هذه الكلمة الباحث عدلي طاهر نور، في معجمه القيّم «كلمات عربية في اللغة الاسبانية»، وما زالت هناك عوائل تحمل هذا الاسم في المغرب في المقام الأوّل، ولعلّه موجود كذلك ولا شكّ، في الشقيقتين الجزائر وتونس، وفي بلدان عربية أخرى إلى يومنا هذا.
ويشير الباحث والمؤرّخ المرحوم محمد عبد الله عنان، صاحب الموسوعة الضّخمة «دولة الإسلام في الأندلس» من جهته إلى: «أنّ أصلهم يرجع حسبما يشير المقرّي إلى (مذحج وطيّ)، وهي من البطون العربية التي وفد بنوها إلى الأندلس منذ الفتح الإسلامي، وكان منزلهم في مدينتي قرطبة ومُرسية، بيد أنّهم لم يظهروا في مسرح الحوادث في تاريخ إسبانيا إلاّ في مرحلته الأخيرة، أعني في تاريخ قرطبة».
ويشير عدلي طاهر نور من جهته إلى أنّ هذه الحقبة اشتهرت في تاريخ الأندلس بالصّراع الدامي الدّائر بين الملوك، وبين الأسر القويّة من ناحية، وبين تلك الأسر في ما بينها، خصوصاً بين أسرتيْ بني سرّاج وبني الثغري من ناحية أخرى، وكان النزاع الأخير من أسباب التعجيل بسقوط غرناطة.
وقد حيكت حول تلك الأسرة العديد من القصص والأساطير الكثيرة، وهي جميعها من وحي رومانسي، موريسكي، تناولها أكثر من كاتب، ولا تزال هذه الأساطير إلى يومنا هذا تملأ أرجاءَ قاعة بني سرّاج في قصر الحمراء، فتقول إنّ أبا عبد الله، أباد أسرةَ بني سرّاج في تلك القاعة، وقيل إنّ السلطان أبو الحسن هو الذي عمد إلى تدبير هلاكهم واندحارهم.

مشاعرساميّة

وبعيداً عن المكائد والنزاعات والمشاحنات والمشاكسات والصّراعات، نعود إلى كتاب أنطونيو دي فييغاس، الذي استوحاه من نصّ بعنوان «حكايات الأمير الماجد دون فرناندو الذي استرجع أنطيكيرا» (أنتقيرة)، حيث يحكي لنا كيف تزوّج إبن سرّاج من خليلته الفاتنة شريفة في الخفاء، في ظروف عصيبة صعبة ساد فيها التطاحن والمواجهات، وعششت فيها الضغائنُ والأحقاد بين مختلف العوائل، والأسر الحاكمة من الجانبين الإسلامي، وبين الإسبان النصارى، ومع ذلك انتصر الحبُّ الذي كان مغلفاً بالعفّة، وموسوماً بالصّدق والوفاء وسط هذه الأجواء الحالكة، والمدلهمّات والمحن والمكايد. وتظهر هذه القصّة في العديد من الحكايات والكتب الرومانسيّة في ذلك العصر، وعليه فإنّ قيمة عمل أنطونيو دي فييغاس تكمن في إحياء هذه القصّة ونشرها على أوسع نطاق، وقد قدّمها في قالبٍ سهل، وبسيط بحيث أصبح له بسببها صِيْتٌ بعيد في مختلف أرجاء إسبانيا وخارجها. وتسجّل القصّة المشاعر السّامية النبيلة، والأحاسيس المُرهفة العفيفة لبعض النبلاء الإسبان في ذلك العصر، وفي العصور التي جاءت في ما بعد، فحتّى الكاتب الإسباني العالمي ميغيل دي سرفانتيس صاحب رواية «دُونْ كِيخُوتِه دِي لاَ مَانْشَا» (الكلمة الأخيرة من اللغة العربية «المَنْشَأْ») لم يفته أن يشير إلى قصّة ابن سرّاج والحسناء شريفة في هذه الرّواية الذائعة الصّيت. كما تعرّض لـ»صخرة العشّاق» التي تُقرن بابن السّراج وخليلته شريفة، الكاتب الأمريكي المعروف واشنطن إرفينغ (1783-1859) صاحب «قصص الحمراء» و»أخبار سقوط غرناطة»، الذي كان قد أقام ردحاً من الزّمن في قصر الحمراء. وهذه «الصّخرة» ذكرها الوزير ابن مغاور الشاطبي في رسالة «ذكر المراحل» إلى الأمير الموحّدي يوسف بن عبد المومن عندما مرّ بموقع (أنطكيرا أو أنتقيرة) حيث قال: «واجتزنا على صخرة العشّاق، وقطعنا دونها كلَّ حدب وشاقّ..»، وذلك حسب الرّواية التي أوردها الباحث الصّديق العزيز محمّد بنشريفة في كتابه «ابن مغاور الشاطبي، حياته وآثاره».

عادات وتقاليد حميدة

و كان ابن السرّاج قد وقع في أسر الفارس الإسباني رودريغو دي نارفايس، عمدة مدينة «أنطيكيرا» التي تبعد عن مدينة غرناطة حوالي مئة كيلومتر جنوباً، وعندما رأى نارفايس الفارسَ المسلمَ غارقاً في حزنٍ عميق، وفي نكدٍ وضنكٍ وهو في سجنه سأله عن سبب كربه، وغمّه ووجومه، وعندما عرف الحاكمُ الإسباني قصّتَه، وكيف أنّه وقع في الأسر قريباً من المكان الذي كانت تنتظره فيه خليلته شريفة، قرّر الفارس الإسباني على الفور إطلاق سراحه بشرط واحد أن يعطيه «كلمته» بأن يعود للسّجن متى التقى بها.
انطلق إبن سرّاج في البحث عن شريفة، وتزوّجها سرّاً، وعندما عرفت شريفة قصّةَ، وسوءَ حظ زوجها قرّرت ألاَّ تفارقه، وألاّ تتركه وحيداً في محنته، وأن تصحبه إلى السّجن، الذي لم يتوان قيد أنملة في العودة إليه على الفور احتراماً، ووفاءً للعهد الذي قطعه على نفسه مع الفارس الإسباني حاكم أنطيكيرا «نارفايس» الذي فكّر في ما بعد،عندما عاد إليه مصحوباً بزوجته شريفة، كيف يجازي «الفارسَ المسلم العاشق»، على وفائه واحترامه لكلمته، ويكافئ – بالتالي- زوجته شريفة على إخلاصها ووفائها لزوجها فأطلق سراحهما.
ونجد في هذه القصّة الرومانسيّة غيرَ قليلٍ من تعابير الشّهامة والولاء والوفاء والحبّ والنبل، في عهدٍ كانت الكلمة فيه تُحترَم والعهد لا يُنكث حتى مع الخصوم والأعداء.
ويجد القارئ متعةً كبرى، وهو يقرأ لهذا الكاتب الكلاسيكي الطيّب الأصيل، ليس في ما يتعلق بمضمون القصّة العميق في حدّ ذاته وحسب، بل على اعتبار الأجواء المحيطة بهذه الحكاية الطريفة التي تذكّرنا بماضي المسلمين الزّاهر، ومجدهم الغابر في الأندلس. كما تضعنا هذه القصّة المثيرة كذلك إزاء العادات الفاضلة، والتقاليد الحميدة والشمائل الأصيلة للمجتمع الأندلسي العربي والأمازيغي المسلم، بل إأّها تطلعنا كذلك في الوقت ذاته على جوانب من التأثير الذي أحدثه هذا المجتمع المتناغم حتى في صفوف مجتمع الجانب الآخر غير المسلم.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى