الفيلم الإيطالي «نار في البحر»: قوارب اللاجئين بين الغرق والموت خنقا

سليم البيك

صحيح أنّ الفيلمين الحائزين السعفة الذهبية في الدورتين الأخيرتين من مهرجان كان الفرنسي كانا اجتماعيين تماماً، الأخير إنكليزي وما قبله فرنسي، ويحكيان عن هموم أوروبية في العموم: اللاجئين والبطالة. لكنّهما يبقيان في النهاية فيلمين روائيين، وهي الأفلام الأكثر اقتراناً بمفردة «سينما»، إذ لا يخطر على بال أحدنا فيلم وثائقي في الحديث عن السينما وكبار السينمائيين، إنّما الروائي وحسب، حتى مفردة «فيلم» غير حاضرة في اللغات الغربية للحديث عن الوثائقية منها، يُستعاض عنها بمفردة «وثائقي»، رغم أنّ السينما بدأت، تاريخياً كوثائقيات وليس حكايا.
لكن في مهرجان برلين الأخير، قد يكون ذلك لأسباب متعلقة بالسياسة الألمانية الأفضل عما هي في باقي الدول الأوروبية في ما يخص مسألة اللاجئين.
في مهرجان برلين الأخير نال وثائقيٌّ الجائزة الأهم، (الدب الذهبي)، وهذا الوثائقي يتناول تحديداً، وبشكل واقعي جداً، مآسي قوارب الهجرة التي تصل إلى السواحل الأوروبية، وأقرب هذه السواحل هي الإيطالية.
فنحّى الفيلم الإيطالي «Fuocoammare» (أو بترجمته الإنكليزية: نار في البحر) باقي الأفلام الروائية التي اعتمدت على الجماليات السينماتوغرافية ونال، لا بجمالياته، فقد كانت عادية جداً، بل بقساوة الحقيقة التي يصوّرها، وبراهنيّته، وارتباطه بهموم أوروبية تفوق خطورة مسائل كاللاجئين في بلادها واندماجهم مع مجتمعها، والبطالة والفقر. فالحديث هنا عن أناس يخاطرون بأرواحهم ألف مرّة قبل أن يصلوا إلى أوروبا، بما فيها من مشاكل اندماج وبطالة وفقر، فهذه الأخيرة تبقى نوعاً من الخلاص لهؤلاء بعدما عبروا البحر الذي كاد غالباً أن يبتلعهم.
الفيلم عملُ مخرجه بشكل كبير، فإضافة إلى الإخراج كان الإيطالي جيانفرانكو روزي منتجه وكاتبه ومدير التصوير فيه، يُذكر أنّ روزي نال في 2013 جائزة الأسد الذهبي في مهرجان فينيسيا الدولي عن فيلمه الوثائقي «Sacro GRA» (جي آر أي المقدسة)، وكان في حينها الوثائقي الأول الذي ينال الجائزة، وهو بذلك المخرج الوثائقي الوحيد الذي نال جوائز أولى في المهرجانات الأوروبية كبرلين وفينيسيا وكان وغيرها.
تمّ تصوير الفيلم على جزيرة لامبادوزا التابعة لجزيرة صقلية الإيطالية والقريبة من شمال أفريقيا، تونس تحديداً،إذ تُعدّ إحدى الأراضي الأوروبية الأقرب للمهاجرين واللاجئين، وصوّر المخرج بشكل موازٍ حياتيْن مرتبطتين على هذه الجزيرة التي يعمل معظم أهلها في الصيد، الحياة الأولى هي لطفل ابن 12 عاماً، هو ابن أحد البحارين، يمضي وقته في اللعب بين الشجر وفي البساتين، يصنع مقلاعاً من أغصان شجرة ويصنع مطاطه بقصّه من قفازات، أقصى همومه في الفيلم هي ضعف بصره، أنّه حين يضطر لوضع نظارة تغطّي إحدى عدستيها عينه اليسرى، أنّه بوضعها لا يستطيع أن يصوّب جيّداً بمقلاعه، فلا يتصيّد العصافير. وهذه هموم طفل عادي يعيش طفولته كما يحب.
يضع المخرج ذلك بموازاة حياة أخرى تصل إلى الجزيرة مرهقة ومريضة، إن وصلت أساساً، تصل بعد عبور بلاد في أفريقيا قبل البحار. بتوازي الحياتين استطاع المخرج أن يبرز الجانب الإنساني، الجانب المأساوي في حياة الهاربين من الحروب والاقتتالات في بلادهم، من بينهم هاربين من سوريا كما من نيجيريا ومالي وغيرها.
يتوزّع طول الفيلم على الحياتين، الحالتين، وإن توافقتا في الزمان والمكان، إنّما لا يربطهما شيء آخر، لا الطفل ولا أهله يعرفون بهؤلاء الهاربين من الموت. والهاربون لا يعرفون شيئاً عن الحياة العادية التي يعيشها أهالي الجزيرة، الحياة المحلية جداً، الوادعة الآمنة التي تتصل فيها جدّة الطفل ببرنامج إذاعي ترفيهي لتوصل رسالة إلى ابنها البحّار بأن يعود إلى البيت، لأنّ الطقس لا يشجّع على الإبحار. هذا القلق العادي يضعه المخرج روزي مقابل القلق الآخر، أقصى ما يمكن أن يصله القلق، الاستثنائي، القلق من الموت، والموت لم يكن في حينها كلمة مجرّدة، بل كان مجسّداً في جثث للاجئين ومهاجرين مكوّمة فوق بعضها، كما في المجزرة، في الطابق السفلي من السفينة الخشبية، هناك يموت الناس اختناقاً. كأنّ الحياتين تحدثان في عالمين مخلتفين، أو على الأقل في مكانين مختلفين متباعدين، أو زمانين مختلفين متباعدين.
قد تحول القساوة في الفيلم دون متعة العديد من مشاهديه، لكنّها ليست قسوة فيلم روائي، ليست متخيَّلة، أي لا نخرج من الصالة مطمئنّين إلى أن ما شاهدناه خيال، إنّما حصل ويحصل الآن، هي قسوة آتية من صلب واقعنا، واقع أوروبا كما هو واقع الهاربين من الموت في بلادهم. لكنّ نيله الجائزة الأولى لأحد أهم المهرجانات السينمائية في العالم يشير إلى الدور الأخلاقي والإنساني الذي يجب أن لا تتركه السينما، يشير إلى احترام المهرجانات لهذا الدور. قد لا يقتنع الكثير من مشاهدي الفيلم بنيله جائزة كهذه إنّما أولاً: نالها. وثانياً: نال المهرجانُ الألماني بذلك احترام العديد ممن يرون أنّ للسينما جانبا مسؤولا يتعدى الجماليات والحكايات والحوارات يجب ألا يتم غبنه.

(القدس العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى