الاحتفال بمئوية ثروت عكاشة الذي استضافه نادي الجسرة الثقافي في محاضرة تذكارية

يحتفظ نادي الجسرة الثقافي برصيد بالغ الثراء من التسجيلات الصوتية والمرئية التي توثّق المحاضرات القيمة التي ألقاها ضيوفه من أبرز المثقفين والمبدعين من مختلف ربوع وطننا العربي، ومن داخل دولة قطر أيضًا، وهي محاضرات ترتقي بالذائقة الجمالية للإنسان العربي، وتسهم في توسيع مداركه وآفاقه الثقافية، كما أن بعضها ينقل خلاصة التجارب الشخصية لأصحابها، وآراءهم في قضايا الفكر والثقافة والأدب. ومن ذلك تلك المحاضرة المهمة التي ألقاها الدكتور ثروت عكاشة في مارس من عام 1989م حينما حلّ هذا الكاتب والمفكر الكبير ضيفًا على نادي الجسرة الثقافي، والذي تناول تجربته كوزير للثقافة في مصر لمرتين، وإسهامه في إنشاء المؤسسات الثقافية والمشروعات الكبرى، فضلًا عن حديثه حول كثير من المشكلات الثقافية، مثل: دور الدولة في تشجيع الفنون والآداب، وحدود هذا الدور، وضمانات عدم الجور على حق الفنان في حرية الإبداع، ومسؤولية هذا الفنان من قضايا عالمه ومجتمعه.

ولأن الشيء بالشيء يُذكر، فإن مصر تستعد الآن للاحتفال بمئوية ميلاد ثروت عكاشة في مؤتمر بعنوان “ثروت عكاشة مترجمًا.. استراتيجيات المترجم الثقافي”، خلال يومي 7 و8 أبريل المقبل. ‎وفي هذا السياق تشير الدكتورة كرمة سامي، مديرة المركز القومي للترجمة، إلى أن الدكتور ثروت عكاشة “أدار معركة مصر الثقافية بدءًا من 7 أكتوبر 1958 بعد العدوان الثلاثي، وعبر ثماني سنوات وعلى فترتين وزاريتين، أنقذ آثارها، وشيد قصورها الثقافية ومتاحفها، وأسس أكاديميتها للفنون بكل روافدها التنويرية، ومسارحها وبيوت فنونها، وحفظ تراث فنونها الشعبية، ونظم الاحتفال بألفية قاهرتها، وجعل ثقافتها جماهيرية، وأضاف إلى ذلك الكثير من علامات النهضة التي أثْرت رأس مال مصرنا الثقافي ورصيدها الحضاري”. ويناقش المترجمون والباحثون والنقاد في هذا المؤتمر اختيارات ثروت عكاشة مترجِمًا عن الإنجليزية والفرنسية ودلالاتها، كما يطرحون احتمالات قراءة مشروعه الثقافي مترجمًا: يتوقفون عند ماذا ترجم؟ ولماذا؟ وكيف ترجَم؟ وكذلك كيف يترجَم؟. وفي إطار الاحتفال بهذه المئوية أنشأ المركز القومي للترجمة في مصر مؤخرًا جائزة باسم “جائزة ثروت عكاشة للترجمة”، بهدف تشجيع المترجمين على خوض مسارَيِ الترجمة من العربية وإليها في مجالات الفنون السمعية والبصرية. وتتضمن شروط التقدم للجائزة: أن يكون العمل مترجمًا ومنشورًا في إحدى دور النشر المصرية أو العربية، وأن يكون العمل المترجم حاصلًا على حقوق الملكية الفكرية، ويشترط أن تكون الترجمة عن اللغة الأصلية، وتكون الطبعة الأولى للعمل المترجم قد صدرت خلال السنوات الثلاث السابقة من تاريخ فتح باب التقدم للجائزة، وأن يلتزم العمل المترجم بالحدود الاصطلاحية الدقيقة المجمع عليها لدى المتخصصين في مجالات الفنون البصرية والسمعية من (اصطلاحات أسلوبية، وتقنية، وجمالية، وتاريخية). كما لا يجوز التقدم بأعمال سبق لها الفوز بجوائز في الترجمة، أو مقدمة لنيل جائزة أخرى في الوقت نفسه، ولا يجوز لمن يفوز بالجائزة التقدم مرة ثانية إلا بعد مرور خمس سنوات، ولا يجوز التقدم بعمل له مراجع للترجمة. أما عن الأوراق والوثائق المطلوبة فتتضمن: نموذج المشاركة في الجائزة، وتعريفًا بالعمل المترجم فيما لا يزيد على ألف كلمة، وسيرة ذاتية حديثة مختصرة وصورة شخصية، وصورة من بطاقة الرقم القومي، وصورة من موافقة الجهة المالكة للحقوق على الترجمة، وخمس نسخ من العمل الأصلي وخمسًا من الترجمة. وتستقبل أمانة الجائزة الأعمال المشاركة والترشيحات بمقر المركز بإدارة التدريب والجوائز اعتبارًا من 1 مارس وحتى 15 أبريل يوميًا من الساعة الحادية عشرة صباحًا وحتى الساعة الثانية مساءً كل يوم عدا الجمعة والسبت. ومبلغ الجائزة خمسون ألف جنيه مصري لفرع ترجمة الفنون من العربية إلى الأجنبية، وثلاثون ألف جنيه لترجمة الفنون إلى العربية، ودرعًا تذكارية، وشهادة تقدير.

ومع رجوعنا إلى محاضرة ثروت عكاشة بنادي الجسرة التي حملت عنوان “تجربة في الثقافة والفن”، فقد قدمها -وقتئذٍ- لجمهور المحاضَرِين الأستاذ يوسف محمد درويش، رئيس نادي الجسرة الثقافي الأسبق. ثم استهلها عكاشة بتحية وزير التربية والتعليم ووزير الإعلام حينها، وكذا أصحاب السعادة السفراء العرب وكل الحاضرين الذين حرصوا على الحضور للاستماع لمحاضرته. كما أشاد بنادي الجسرة الثقافي الاجتماعي الذي أتاح له بدعوته إياه فرصةً كان حريصًا على قبولها، وأبدى انبهاره بدولة قطر من خلال انطباعاته الأولى التي أدهشته بهذه الأرض الطيبة.

في محاضرته أكد عكاشة أن إنعاش الحياة الثقافية والفنية في أية أمة، أصبح جزءًا لا يتجزأ من واجبات الدولة الحديثة، بعد أن باتت جهود الموسرين وحدهم لرعاية الثقافة جهودًا محصورة لا تتسع إلا لفئة بعينها ولبيئة بذاتها. ومن هنا كانت الدولة وحدها هي الأقدر على أن تجعل الثقافة والفن منهلًا ينهل منه الجميع، وأن تُفسح لهما السبيل لكي يزدهرا، وتهيّئ لهما المناخ لكي ينتعشا، وهذا يقتضي أن تكون للدولة سياسة ثقافية تتفق وميولها ومطالبها وحاجات المجتمع، على نحو ما لها من سياسات اقتصادية وتعليمية وتربوية. ‎وشدد كذلك على أن تعي الدولة وهي ترعى الفن ضرورة حرية البحث والنقد والابتكار والتعبير وإيصال النتاج الثقافي إلى الناس. وألا تقضي الدولة على تلقائية الأفراد، بل على العكس، عليها ‎أن تضع مواردها وقدراتها في خدمة انطلاقات الإبداع، وأن تشرك الجسم الغفير من الشعب في المضيّ بالعمل الثقافي.

كما أكد على ضرورة وجود خطة و”سياسة ثقافية” ترعاها الدولة، فإذا كانت الإنجازات الثقافية لا تنشأ من فراغ، فكذلك لا يمكن انبثاق أية سياسة ثقافية من أفكار عشوائية أو نزوات فردية عابرة؛ بل لا بد من أن تكون منبثقة عن مبادئ راسخة تحدد مسارها، كما تحدد أهدافها مرحليًا واستراتيجيًا. وقال إنّ علينا ونحن نرسم الخطوط الموضحة لسياستنا الثقافية المتوائمة مع السياسة الاقتصادية والاجتماعية للدولة، ألا نُلقي بالًا للعائد المادي، فليس من المنطقي ‎قياس نتائج عرض مسرحية ذات مستوى فني رفيع بما تحققه من دخل، فالمفروض أنه لا يُقبل على مشاهدة مثل هذه المسرحية إلا عدد قليل من المثقفين والكتاب والنقاد، ولكن من المؤكد أن هذا العدد القليل، سينبض بشحنة فكرية وعاطفة عميقة، يكون لها أثرها الفعال في تغيير جذري في مفهوم من المفهومات الشائعة، أو في عادة من العادات القائمة، وقد توحي إلى هذا العدد القليل من الكتاب والنقاد والفنانين أن يكون لهم إبداع أبعد أثرًا في الجماهير، وأوسع انتشارًا بين صفوفهم. وذكر أن “السياسة الثقافية” يحب أن ترتبط بالخطة الشاملة للتنمية، أو بمعنى آخر ينبغي أن ترتبط السياسة الثقافية بالسياسة الاقتصادية للمجتمع وبالتطور العلمي والتكنولوجي فيه. ولذا كان على الدولة ألا يقتصر جهدها على تقديم المستوى الرفيع من المتع العقلية للطبقة القادرة على التمتع بها فحسب؛ بل يجب أن يكون لها دور فعال في تحقيق أكبر قدر من التكافؤ العقلاني والوجداني في آنٍ معًا، وهو ما اصطلح على تسميته بـ”ديمقراطية الثقافة”.

وفي معرض حديثه عن الفنانين، ذكر أن ثمة عقبات تعترض عددًا من الفنانين، منها ضيق الفرصة لعرض إنتاجهم على الجمهور، وعجزهم عن تسويق أعمالهم، وهو ما يحرمهم من جني العائد المادي لجهودهم، ثم ضغط الظروف المعيشية إلى الحد الذي لا يجد فيه بعضهم الوقت الكافي لإنتاج ومتابعة الإبداعات الفنية المنتجة داخل البلاد وخارجها، ولذا كان لتسويق الأعمال الفنية من الأهمية ما للعرض الفني، فإن فرص العرض تقدم الفنان للناس، ومن هنا أخذت الدولة على عاتقها تسويق العمل الفني لتضمن للفنان جزاءه المادي، ولتتيح للجماهير أن تحظى بهذا النتاج الفني، تجمل به البيوت والمكاتب، فتقع عليه عيونها صباح مساء، وتكون ثمة معايشة دائمة للفن. ولقد سارعت الدولة إلى هذا فاقتنت ما تسنّى من الأعمال الفنية لتزين بها متاحفها وسفاراتها وقصور الثقافة. وكذا أخذت الدولة بيد الفنان فهيأت له فرصًا للتفرغ ليخلو إلى إبداعه دون أن يصرفه صارف يلهيه عن الانكباب على فنه. وبهذا تكون الدولة قد صانت الفن والإنسان والفنان وأبقت على إبداعاته من أن تخمد وتنزوي.

كما لفت الدكتور ثروت عكاشة إلى أهمية تدفق الثقافة إلى عموم المجتمع وطبقاته؛ إذ لا ازدهار لثقافة قومية إلا إذا عبّرت عن فئات المجتمع المختلفة في المدينة والقرية، فإذا أُهملت فئةٌ من تلك الفئات كانت ثقافة ينقصها الشمول، ولا قيام لهذه الثقافة الجامعة إلا إذا مكّنّا الكل من الارتشاف من المناهل الثقافية، لا فرق بين طبقة وطبقة ولا بين فرد وفرد. ولا يعترض معترض بأن من فئات الشعب من لا يرقى مستواهم إلى تذوق الباليه مثلًا، أو الاختلاف إلى المسارح التي تعرض الروائع، وأنه ما أغنى هؤلاء بأن نقدّم إليهم صورًا من البهرجة الزائفة ليس لها من الثقافة العميقة حظ، فما أبعد هذا الاعتراض عن الصواب؛ إذ كانت لنا تجربة واقعية أعطت ثمرتها، قدمنا فيها عروضًا خاصة للعمل على مسرح الأوبرا عام 1960، من فصل الباليه الشهير من أوبرا “الأمير إيجور” لبورودين، وأوبريت “الأرملة الطروب” المعرّبة لفرانز ليهار. وهذه الأوبريت وغيرها وإن لم تعدّ عند الغربيين من الفن الرفيع، لكنها إلى هذا لها خاصيتها في تهيئة الأذن لتقبل ما هو أسمى وأرقى، ومن أجل هذا كانت مما عرضناه. ولقد كان أثر هذه وتلك في نفوس هؤلاء العمال لا يقل كثيرًا عن أثرها في مرتادي الباليه والأوبرا من نخبة المثقفين. كما أن باليه “نافورة بختشي سراي” لأصافييف الذي قدمه فريق الباليه المصري لم يتلقفه جمهور القاهرة بمثل الحماس والإكبار الذي تلقاه أهالي أسوان والعاملون في بناء السد العالي بقصر الثقافة في أسوان في نهاية عام 1966. والصوت والضوء مثلًا، وإن بدا أنه للخاصة دون العامة؛ فهو قد جذب إليه العامة قبل الخاصة. وما لنا نذهب بعيدًا، فالمستمعون إلى القرآن الكريم -وهو أسمى ما يكون بلاغةً وبيانًا وفصاحةً- يشترك في التأثر به عامة الناس وصفوتهم. ولقد أكدت هذه التجارب وتجارب أخرى أن الفجوة بين المثقف وغير المثقف في مستوى التذوق الفني ليست بهذه الأبعاد التي يخالها البعض. والمشكلة الحقيقية التي تعترض إزالة الحواجز الثقافية في المجتمع ليست عجز الشعب عن تذوق الفن الرفيع، بقدر ما هي عجز الفن الرفيع عن مسّ القيم الشعبية وتمثلها والتعبير عنها. وهذا يقتضينا أن نتيح الفرصة لفئات العامة لأن تشارك مشاركة جادة في الإلمام بصور الفن الرفيع سماعًا ومشاهدةً، ليكون ثمة تمازج نسبي بين فئات الشعب كلها. فكما ستفيد هذه الطبقة العامة من هذا التمازج، كذلك سيفيد الفنانون والمثقفون المبدعون بما سيجدونه من وراء هذا التمازج من مادة خصبة تفوق كل ما خطر بخيالهم.

لذا، كان لا معدل عن مزجٍ بين ثقافة العاصمة وثقافة الأقاليم، تأخذ هذه من تلك، وتأخذ تلك من هذه. ومن هنا نشأت الفكرة في إقامة قصور الثقافة بدءًا من عام 1959 وبث قوافلها في أعماق الريف البعيد. وكانت هذه هي المرة الأولى التي شهدت فيها مصر قصورًا للثقافة التي أصبحت بعد شيوعها في أنحاء الوطن كله مظهرًا من المظاهر الحضارية الواضحة المعالم. وإني لأذهب إلى أبعد من ذلك، حين أؤكد أنه لا سبيل إلى ارتقاء وجدان السواد الأعظم من الشعب إلا من خلال اجتذابه لمشاهدة الأعمال الفنية الرفيعة المستوى، وإلا فستظل الجماهير على مستواها الحالي نفسه من الأمية الثقافية والتشكيلية والموسيقية، طالما حجبنا عنها الفن الراقي، وظللنا نلاحقهم بالأعمال المسفَّة الغثة التي تشبع نهم الغرائز الدنيا.

كما عرّج عكاشة على أهمية الحرية للفنان، فالفنان الحق هو الفنان الحر، والفنان الحق أو المثقف الحق كلاهما في غير حاجة إلى توجيه فكري أو تلقين عقائدي، فهو ابن نفسه وابن عصره، يعيش في زمانه بحسه المرهف وبصيرته النافذة، وكلما غاص في أعماق مجتمعه أحس بالجماعية الإنسانية، وانتقلت إلى وجدانه نبضات الآخرين. وإذا كانت قيمة الثقافة تتحدد بمدى إسهامها في إحداث تغيير جوهري في البيئة المحيطة، فإن الفنان أو المثقف من أول المتمردين الخارجين على ما هو قائم، فهو بطبيعته رائد في مجتمعه، سبّاق إلى التجديد فكرًا أو تعبيرًا. وكما أن الحياة في تغيّر مستمر، كذا الثقافة هي الأخرى تقوم على الكفاح الذي يقتضي التغيير والتجديد، أو بمعنى آخر فإن الثقافة تشتمل على عنصر حركي تحويلي، لأنها لا تصحّ إلا إذا كان هدفها التطوير. فالفنان -من وجهة نظر عكاشة- كان على مر التاريخ فيلسوفًا سياسيًا، والفن من مقتضياته التمرد والعصيان والاجتماع على ما هو قائم. وعلى المثقف أن يواجه عصره بكل ما فيه من مشكلات وقضايا ورزايا وخيرات، عليه أن يعيش قمة الوعي في عصره، وأن يكون مشرعًا للعلم، صانعًا لأحلامه وهاديًا لبنيه على نحو ما دعا الشاعر النوراني “شيلي” وتطلع في أوائل القرن الماضي. في هذا السياق يقول عكاشة: “واجبنا إذن -نحن المثقفين- أن نمتشق السيف والقلم معًا. أن نبني بيد، ونشهر السلاح بيد أخرى. أن نمسك فرشاة المصور، وفرجار المهندس، ومبضع الجراح، وبندقية الجندي على التوالي، أو في وقت واحد كلما دعت الحاجة وأصبح الأمر جِدًّا، كما قال الشاعر العربي القديم”.

وفي إطار حديث المفكر الكبير عن التراث العربي والتراث العالمي، ذكر أنه يجب أن نرد على الدعوات التي تتصاعد بين الحين والحين، والتي تُحذر من الغزو الثقافي القادم من الخارج. فعلى حين يُنادي البعض بضرورة الاحتراس من الوقوع ضحية عقدة الخواجة، أو الإعجاب الأعمى بكل ما هو وافد؛ يخرّ فريق آخر راكعين أمام أفكار غيرهم فيستوردونها استيرادًا ويسعون هم الآخرون إلى فرضها على أنفسهم وعلى غيرهم. غير أن وجود هاتين الظاهرتين لا ينبغي أن يُتخذ ذريعة لمحاربة الثقافة الإنسانية بكل ما فيها من قيم باقية، ولا يجدر بنا أن نشجع ما يصدر عن حَسَنِي النية وسيئيها على السواء من دعوة إلى الاكتفاء الذاتي في حقل الثقافة. وشدد على ضرورة الإيمان بالرؤية التوفيقية للثقافة العربية في اتصالها الدائم المثمر بالثقافات الأخرى غربًا وشرقًا. بتفاعلها معها. فما أشبه الثقافة المحلية، بين الثقافات الأخرى بالنهر، إذا فقد روافده التي تنحدر إليه من الغرب والشرق فَقَدَ معينه الذي ينضب دونه. فلا مناص من فتح الأبواب بيننا وبين الشعوب الأخرى دون أن نستسلم ونذوب في غيرنا فنفقد كياننا.

وبعد انتهاء المحاضرة بدأ الحضور في طرح أسئلتهم وتعليقاتهم على ما قدمه الدكتور ثروت عكاشة، ومنها سؤال حول إشكالية الفن والدين، فجاءت إجابة عكاشة نافية مسألة تعارض الدين والفن، فكان مما قاله: “لم يرد في القرآن الكريم أي شيء عن تحريم التصوير، وما جاء على لسان الرسول -صلى الله عليه وسلم- خاصة في النحت وتمثيل الكائنات البشرية، كان المقصود به في رأيي، وقد أكون مصيبًا وقد أكون مخطئًا، وكذلك في رأي إمامنا الشيخ محمد عبده؛ هو النحت أو التصوير الذي يصرف العابد عن صلاته وعن انسجامه أثناء الصلاة أمام الله سبحانه وتعالى. المسألة في التصوير مفروغ منها على يد الإمام محمد عبده، بأنها لا يقصد بها ما هو جميل بل يُقصد بها ما هو صارف للعابد عن عبادة الله. أما التمثيل الخارج عن الأصول والمسف والمليء بما هو غثّ وتافه ويخاطب الغرائز فهو دون شك ليس محرمًا فقط من ناحية العقيدة الدينية، بل هو محرم على يد القانون الوضعي السائد في معظم الدول حاليًا، فأنا لا أتكلم عن الفن الهابط مهما كان نوعه. أما الموسيقى فلم يرد شيء يفيد بتحريمها، والدليل على ذلك أن الموسيقى لم تكن معروفة عند العرب عندما قام الإسلام، ولم يكن لديهم غير الدف والغناء، ولم يكن ذلك محرمًا، وأنتم تعلمون أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- عندما انتقل من مكة إلى المدينة استقبله أهل المدينة بالغناء والدفوف، وهذه كانت الآلات الموسيقية المعروفة في ذلك الوقت، ولكن لو كانت الآلات المتوفرة حاليًا موجودة عند العرب في ذلك الوقت ما كان في ذلك إخلال بالعقيدة. ولو كان التلفزيون أو آلة التصوير موجودة في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- أما كان الناس كلهم يسارعون إلى تسجيل طلعته البهية والاستماع إلى صوته النقي الكريم حتى نستمتع به إلى الأبد؟ هذا سؤال أطرحه عليكم بطبيعة الحال، كان الكل سيسارع إلى ذلك”.

وقد احتفت الصحف القطرية والعربية -وقتها- بهذه المحاضرة، وكان من ذلك ما أورده الشاعر حسن توفيق بعنوان “ثروت عكاشة يؤكد أن الثقافة كلٌّ لا يتجزأ” بصحيفة “الراية” القطرية (26 فبراير 1989) حيث قال: “لقد نبئتم أن الحياة ظلام، حتى أصبحتم ترددون من فرط التعب ما يقوله المتعبون، ولعمري إن الحياة ظلام إلا إذا صاحبها الحافز، وكل حافز ضرير إلا إذا اقترن بالمعرفة، وكل معرفة هباء، إلا إذا رافقها العمل، وكل عمل خواء، إلا إذا امتزج بالحب.. فإذا امتزج عملك بالحب فقد وصلت نفسك بنفسك، وبالناس، وبالله.

قدم المحاضرَ لجمهور المحاضرين الأستاذُ يوسف محمد درويش، رئيس نادي الجسرة الثقافي الاجتماعي، الذي أشار في تقديمه إلى ما يثلج صدورنا جميعًا نحن العرب وما يغمرنا بمشاعر الغبطة والفرح، فعلى الصعيد المحلي نحن نعايش أجواء الذكرى السابعة عشرة لتولي حضرة صاحب السمو الشيخ خليفة بن حمد آل ثاني أمير البلاد المفدى مقاليد الحكم في البلاد، حيث نتذكر حصيلة ما تحقق للبلاد عبر سبع عشرة سنة من منجزات، هدفها أن ترقى بالإنسان، وأن تشيد العمران.

استهل د. ثروت عكاشة محاضرته بتحية سعادة وزير التربية والتعليم وسعادة وزير الإعلام وأصحاب السعادة السفراء العرب وكل الحاضرين الذين حرصوا على الحضور للاستماع لمحاضرته، كما أشاد بنادي الجسرة الثقافي الاجتماعي الذي أتاح له بدعوته إياه فرصة كان متشوقًا إلى أن تتحقق، فرصة زيارة بلد عربي لم يكن قد زاره من قبل، وقال إنه من خلال انطباعاته الأولى وجد نفسه مبهورًا بكل ما وقعت عليه عيناه منذ أن هبط إلى تلك الأرض المباركة.

تحية إلى نادي الجسرة الثقافي الاجتماعي الذي هيّأ لنا متعة فكرية راقية بالأمس، وتحية للكاتب المثقف الفنان أحد قادة ثورة يوليو 1952، وقائد المسيرة الثقافية خلال عهد الزعيم الراحل جمال عبدالناصر.. تحية للدكتور ثروت عكاشة”.

 

مجلة الجسرة الثقافية – العدد 57 – شتاء 2021

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى