الدراما.. حين ترسم للإنسانية المستقبل

يفقد الكاتب قدرته على الإقناع والتأثير على المشاهد عندما ينسى كاتب الدراما أهم خصائصها التي ذكرها المعلم الأول أرسطو في تعريفه الشهير لها بأنها محاكاة لا بد وأن تكون لفعل تام ونبيل يُجسَّد بواسطة أشخاص يفعلون، لا عن طريق السرد، أي عن طريق التمثيل، وليس الحكي أو الوصف، إلا في حالات القتل والدماء التي يُكتَفَى فيها بحديث الرسول عنها، بينما تُظهِر الأكوكليما للمشاهدين جثة القتيل للحظات قليلة سرعان ما تعود بعدها إلى الداخل. وهو ما عُرِفَ مع الكلاسيكية في القرن السابع عشر بالالتزام بمبدأ اللياقة في مجتمع متحضر.

وهنا يمكننا أن نتذكر الإنسان وتعلمه منذ فجر التاريخ عن طريق المحاكاة، والخلفية الدينية لنشأة الدراما، والمحاكاة القائمة على الصراع، والهدف الكلي منها ذلك الذي حدده أرسطو بتطهير النفس من أدرانها، وقبل ذلك الاحتفالات الدينية ودورها في بناء عقل الإنسان ووجدانه منذ ذلك الزمن البعيد، سواء عند المصري القديم (إيزيس وأوزيريس ونفتيس وحورس وست) والتي ظلت في إطارها الديني، بعكس مثيلاتها عند اليونان الذين (تصوروا آلهتهم على شاكلتهم)، ومنهم مَنْ هو نصف بشر ونصف إله ناتج عن علاقة بين إله وإنسية.

وبالتالي كان من السهل أن تتطور الدراما من احتفالات ديونيسوس مع ثسبس الممثل الأول، والثاني مع إسخيلوس، والثالث مع سوفوكليس، مما أتاح الفرصة (لتجسيد الفعل) الذي يصبح معه المشاهد أكثر خوفًا وشفقة على المصير التعس للبطل الذى يعرفه مسبقًا، وينساق إليه بسبب معرفته للأصل الأسطوري القائم عليه نسيج الدراما التي يعتمد فيها الكاتب على ما رصده أرسطو ولم يبتدعه، أي عظامية الشخصية وسقطتها المأسوية التي تنساق إليها، بجانب الأجزاء الكمية، والأجزاء الكيفية، واللغة المزدانة بألوان من الزخرف وغيرها الواردة في كتاب “فن الشعر” والتي يمكن أن ننسى منها عنصر الديكور الذي لم تكن له أهمية عند أرسطو.

وهنا قد يكون من المفيد الإشارة إلى لجوء الكنيسة بداية من القرن العاشر الميلادي إلى الدراما، بعد طول رفض وإنكار، بداية من “التروب” داخل الكنيسة، و(عمن جئتن تبحثن أيتها النسوة المسيحيات.. عن يسوع؟ لقد صعد إلى السماء). لتتعالى صيحات الجمهور الذي هو أساسًا من المصلين.. هاللويا هاللويا. لتستمر بعدها الراهبة “روزفيتا” في الكتابة (العذارى الراشدات، والعذارى المفتونات). ولكتاب مجهولين غير “آدم دي لا هال” كثير من المسرحيات الطقوسية والأخلاقية، ومسرحيات المعجزات والكرامات التي أسهم فيها أهل الحرف والنقابات، فأصبح للديكور شأن كبير، وبالذات منظر جهنم في “تمثيلية آدم” الذي قام فيها بأدوار الشياطين أفراد من غير رجال الدين طبعًا.

وخرجت الدراما إلى الدنيا، لترسم معالم البطل التراجيدي الجديد المتوافق مع قيم الديانة الجديدة وأخلاقياتها، حتى وإن كانت المسرحية قائمة على أسطورة وبطل وثني، مثلما هو الحال في أعمال كورني وراسين (فيدر، وهيبوليت). وإن كان كورني قد أصابته التهمة الناتجة عن توارث لعنة شراح أرسطو عن الوحدات الثلاث: الزمان والمكان والموضوع، واستيحاء الأعمال الدرامية من التاريخ والأبطال، والتي أنقذه في المحاكمة عنها رئيس الوزراء ريشيليو. وتستمر الدراما بعدها معبرة عن الجديد الذي يطرأ على المجتمع وأفراده والذي تجسد في المذاهب المسرحية المختلفة مع ظهور الاختراعات والاكتشافات الجديدة (الإضاءة ودار العرض المسرحي).

وتبقى الإشارة إلى أهمية عصر التنوير في القرن الثامن عشر، ودور “ديدرو”، وفن الممثل، إلى جانب الأنواع الدرامية الجديدة غير المسبوقة التي أثرت الدراما العالمية، والتي انتهى معها إلى الا بد مبدأ الفصل بين الأنواع (التراجيدي والكوميدي)، بل والأنواع نفسها في بعض الأحيان عندما تم استبدالها بالدراما العاطفية، والدراما البورجوازية، وغيرها.

أما الحديث عن الدراما كنص للقراءة أو للعرض فلا أظن أنه قد أصبح متاحًا بنفس القدر بعد ظهور شعراء المسرح، أو العرض والدراما سمها ما شئت ومنهم: أندريه انطوان، وأدولف آبيا، وجوردون كريج، ومعهم اكتسبت المحاكاة والفعل والدراما مزيد من القدرة والفعالية على الاستمرار في تقديم قيم وأفكار وتصورات جديدة أصبحت محل تقدير واعتراف بعكس بعض التصورات القديمة عنا هذه المرة سواء بادعاء أنه حيثما ذهب الإسلام مات المسرح، أو أن المسرح لا ينشأ في وطن يهتز على ظهر جمل.

ببساطة لأنه في العواصم العربية المزدهرة والمستقرة ظهرت ما أصطلحنا على تسميتها بالظواهر المسرحية عند العرب، ومنها ما اعترف به الأجانب من قناصل الدول الأجنبية أنفسهم بأنه مسرح دون أن يكون له هذا الاسم عندنا.

أما حيثما ذهب الإسلام مات المسرح فإنه بالفعل كلام يجافي حقيقة أنه حيثما ذهب الإسلام في القرن السابع الميلادي كان المسرح في ظلام العصور الوسطى ميتًا بالفعل.

وهو ما يجب أن نتوقف عنده قليلا بعد كثرة حديث عن موت المؤلف وموت الناقد.. وموت المفهوم التراجيدي الذي كان بحث تخرج الدكتور فوزي فهمي.. وغيرها من القضايا المتعلقة بنظرية الدراما التي أثراها أستاذنا الدكتور رشاد رشدي بمؤلفه الثري عنها، وكذلك أساتذتنا الدكاترة: سمير سرحان، وعبدالعزيز حمودة رحمهما الله.

مجلة فنون الجسرة – العدد 01 – ربيع 2021

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى