شذوذ الأدباء
- الكِتَابةُ وَثِقَلُهَا - 2022-09-03
- شذوذ الأدباء - 2021-08-26
الناس متفقون على أن الأديب على العموم، والشاعر على الخصوص، صنو المجنون ونده وقريعه، وقد لا يقولون ذلك بألسنتهم ولكنهم يقولونه بسلوكهم نحوه، فهم يفترضون فيه الشذوذ عن المألوف ويتوقعونه ولا يستغربونه، ويحملون كل ما يصدر عنه على هذا المحمل ويردونه إلى هذا الأصل عندهم، وليس في هذا إكبار منهم له، فإنه بسبيل من سلوكهم نحو صنوف الملتاثين الذين يطلقون عليهم وصف «المجاذيب» كلا الفريقين مقبول عندهم على التسامح والعطف والمرثية، ولو أن الناس رأوا رجلًا يلبس ثيابه مقلوبة، أو يمشي على رأسه وقيل لهم إنه شاعر لاقتنعوا ولبطل العجب، كأن المشي على الرأس شيء يوائم الشاعرية، أو هو مما تستلزمه حين يزخر عبابها.
عرّفني مرة أحد الإخوان باثنين من الأعيان كانا معه في مجلس، فكان مما وصفني لهما به أني شاعر، فأبرقت أساريرهما، وغمر البشر وجهيهما واستغنيا عن «تشرفنا» واعتاضا منها «ما شاء الله» و«سبحان الفتاح» وأقبل عليَّ أحدهما يربت لي ظهري، ويمسحه لي بكف كمضرب الكرة، ويقول: «أسمعنا شيئًا» كأنما كنتُ مغنيًا على الربابة، ولو أني كنته لاستحييت أن أجيبهما إلى ما طلبا على قارعة الطريق، ولشد ما خفت -وهما يُلحان علي- أن يمد أحدهما يده إليّ بقرش.
وقد يتفق لي أن أكون مع جماعة من الإخوان فأفضي بالملاحظة أو الفكرة، أحسبني وُفّقت فيها وكشفت عن أستاذية وبراعة ودقة فلا أكاد أفرغ منها حتى أسمع من أحدهم أن هذا «خيال شاعر»، وليته مع ذلك يعني شيئًا سوى الفوضى والهذيان، وقد أسكت وأشغل نفسي عنهم بشيء أفكر فيه فأنتبه على التغامز.
والبلاء والداء العياء أن المرء يتحرى أن يجعل سلوكه مطابقًا –على أدق وجه– للعرف والعادة في كل صغيرة وكبيرة، فلا يرى أن هذا يزيده إلا شذوذا في رأيهم. كأن هذا الشذوذ المفروض فيه يبيح لهم أن يشذوا هم معه. كنتُ ليلة مستغرقًا في النوم، ولعلي كنت أغط أيضًا. وإذا بالباب يُقرع كأن الواقف به قد استقر عزمه على تحطيمه، ففزعت وقمت إلى النافذة أسأل عن هذا الطارق فقال: فلان. فحلّ العجب والحيرة محل الفزع، ولم يكن فلان هذا ممن أتوقع زيارتهم في النهار، فضلًا عن الليل، وفي الصيف فضلًا عن الشتاء ببرده القارس ومطره المنهمر، وكانت الساعة الثانية بعد نصف الليل، فلولا دهشة المفاجأة ولجاجة الرغبة في الوقوف على سر هذه الزيارة المزعجة لقذفته من النافذة بكل ما في الغرفة من أحذية ومخدات، بل لفككت السرير وهشمت له رأسه بأعمدته، من النافذة أيضًا. فقد كان فوق ذلك كله من أثقل خلق الله. ونزلت إليه والمصباح في يدي، وفتحت الباب ووقفت في مدخله «حجر عثرة» في سبيله وبودي لو أستطيع أن أكون «حجر منية»، فجرى بيننا هذا الحديث:
هو: ليلتك سعيدة.
أنا (مصححًا): نهارك سعيد.
هو: آه صحيح، نهارك سعيد. هل كنت نائمًا؟
أنا: نائمًا؟ وماذا كنت تظنني فاعلًا غير ذلك؟ أكنت تتوهم أنني هنا حارس؟.
هو: ها ها.. هأهأهأ.
أنا: ها ها؟ ماذا تعني بهاهاك هذه؟ ألا تشعر أن من واجبك أن تبين لي السبب في إزعاجي في ساعة كهذه؟ ألا ترى أن ها ها التي تملأ بها طباق الجو لا تكفي، وأن خيرًا لك أن تضم فكيك قليلًا وتتكلم بلغة مفهومة؟
هو: لقد كنت أظن أنك..
أنا: كنت تظن ماذا؟
هو (وعلى وجهه ابتسامة جعلته كجمجمة الميت): لم يخطر لي والله أنك نائم.
أنا (بصوت هادئ ولهجة مرة): ولماذا بالله؟
فترك الجواب على هذا وقال: لست أستغرب أن تتركني واقفًا بالباب في هذا البرد، وإن كنت قد قطعت إليك أربعة كيلومترات مشيًا على قدمي، فإن لكم –معاشر الشعراء- لأطوارا وبدوات غير مأمونة.
فأطار صوابي تحميله إياي اللوم على ذنبه، ولم أعد أحفل أهو أقوى مني أم أضعف، فقبضت على عنقه وصحت به: لقد كان ينبغي أن تمشي إلى جهنم. وسأدفنك حيًّا إذا رأيتك هنا ليلًا أو نهارًا. أسمعت؟
ودفعته عني فانطلق يعدو كالقنبلة.
وثَمّ من يراني أنسى شيئًا أو أضعه في غير موضعه، أو أهمل أمرًا أو أطيل الصمت أو أفعل حتى ما يفعله الناس، آكل أو أشرب أو أنام، إلا أحالوا عليّ الأدب وتخيلوا فيما أنا فاعل أو تارك شذوذًا ملحوظًا حتى ضقت ذرعًا بهذه الحال وصار وكدي أن أقنع كل من يتيسر لي إقناعه أني لست بالأديب، وأن قرض الشعر لم يكن مني إلا لهوًا وتسلية، وعسى أن أكون أفلحت، فليس أمضّ للإنسان من أن يرى الناس يعدونه غير مسئول.
من كتاب “صندوق الدنيا” للمازني