ثقافة «العرضحالجي».. أو (عندما نفقد إمكانية تقديم المرافعات)

يمكن ملاحظة انتشار نمط معين من الإنشاء الثقافي في عصرنا، وهو النصوص الصحافية والأعمال الفنية، التي تسعى لتوضيح تجربة ذاتية مرتبطة بمظلمة أو اضطهاد ما. لا يسعى منتجو هذه الأعمال غالباً إلى تقديم عرض عام للظرف الاجتماعي والسياسي والثقافي الذي سبب مظالمهم، بقدر ما يحاولون تكثيف تجربتهم الشعورية والذهنية، ليرى المتلقي نفسه فيها بشكل من الأشكال. أي يكتشف النقاط المشتركة، التي تجمعه بصاحب التجربة المُعبّر عنها. ما يخلّف شعوراً عاماً بالارتياح لدى منتج العمل ومتلقيه: لست وحدي من قاسى هذا الألم، وعانى من ذاك الظرف.
من أهم سمات هذا النوع من الأعمال انعدام المسافة بينها وبين منتجيها. فالكاتب أو الفنان هنا يسعى إلى تقديم ذاته بأكبر درجة من الصدق. وتأكيد أن التجربة التي يعرضها، حتى لو احتوت عناصر من الخيال والاختلاق الفني، ما هي إلا «الواقع» نفسه، الذي عايشته الذات. وبالتالي فإن ما نقرأه أو نراه شهادة حية على المعاناة. على خلاف كثير من الأعمال الفنية والأدبية الكلاسيكية، التي انبنت أساساً على «المسافة» التي تظهر فيها صنعة المبدع، ومقدرته الفنية، وسيطرته على تجربته الذاتية. فلا يبقى حبيساً ضمن حدودها، ويعالجها بالتفاعل مع عناصر اجتماعية – ثقافية موضوعية متعددة، مثل الأساليب والمدارس الفنية والأدبية السائدة في عصره؛ السرد أو المنظور متعدد الأصوات، الذي يقدم محتوى العمل من زوايا ووجهات نظر مختلفة ومتعارضة؛ التسامي والتصعيد، عبر تحويل الدوافع والعقد الذاتية إلى ما يُعتبر، في عصر ما، الفضيلة أو القداسة، أو الصالح العام. باختصار كانت المسافة بين العمل ومنتجه طريقة لتجاوز الذات ومعاناتها نحو ما هو أعم وأشمل، وأسلوباً لمخاطبة الجماعة والتأثير فيها.
بهذا المعنى انبنى الإنتاج الثقافي في الشرط الحداثي على نوع من الجدل، الذي يظهر من خلاله صاحب التجربة الذاتية بوصفه حاملاً لدعوى اجتماعية، يناقشها مع الآخرين، عبر سلسلة من الأساليب والأشكال والبراهين والحجج، التي تلتزم بالمفاهيم العامة والمشتركة للعقل والحق والجمال في عصر معين، وتحاول إعادة تعريفها في الوقت نفسه. فيما تبدو فنون ونصوص التظلّم في أيامنا أقرب لجلسات العلاج النفسي الجماعي، المعزولة قصداً عن المجتمع، التي يسرد المشاركون فيها تجاربهم الذاتية تحت إشراف الطبيب المعالج، أو ربما طقوس الاعتراف المسيحي أمام الكاهن، لكن دون سريته وخصوصيته. فلا تكسب المخاوف والآلام والهواجس أهمية عامة، إلا من خلال رسمها لحدود حساسيات الذات الفردية، لتصبح في مساحة آمنة عن العمومي والمشترك، الذي لا يُقدم إلا بوصفه موطناً للأذى والإساءة. فما الأبعاد السياسية لميل الثقافة السائدة المعاصرة لتحويل التعبير عن الذات إلى عرض للمظالم؟ وما الذي يخسره الأفراد أنفسهم نتيجة هذا؟

العرضحالجي والخطيب العمومي

يمكن توضيح الفرق بين مستويي التعبير عن الذات المذكورين أعلاه، من خلال المقارنة بين وظيفتين اجتماعيتين، سادتا في عصور خلت: وظيفة «العرضحالجي» التي عرفها عدد من الدول العربية حتى النصف الأول من القرن الماضي، موروثةً عن التقليد البيروقراطي العثماني؛ ووظيفة الخطيب العمومي، التي ازدهرت لدى الإغريق والرومان، وتم إحياؤها مع الثورات البورجوازية في الدول الغربية.
«العرضحالجي» هو أحد الأفندية، الذين يجيدون القراءة والكتابة، وتحرير الديباجات المناسبة لمخاطبة أصحاب السلطة والنفوذ. يقصده الفلاحون والعوام الأميون، كي يكتب شكاواهم، ويعرض أحوالهم للسلطات العليا. على أمل أن تلقى مظالمهم ومعاناتهم تعاطف الولاة والمسؤولين. يمكن اعتبار عمل العرضحالجي قائماً على عنصرين أساسيين: أولهما إدراك زبائنه لعدم قدرتهم على الفعل والتغيير، فالأمر كله لمن تُرفع إليهم الشكوى، ووحدهم من يستطيع إزالة المظالم، إذا تكرّموا بالتعاطف مع المعاناة المعروضة عليهم؛ وثانيهما إظهار خضوع المتظلّمين، وتسليمهم الكامل بالقيم السياسية والأخلاقية والدينية، التي يحملها أصحاب النفوذ، وعدم سعيهم لمناقشة عقلانيتها أو عدالتها، بل فقط مخاطبتها، لعلها تتسع لتُفرد مساحةً لقضاياهم. ما يجعل وظيفة العرضحالجي محافظة بالضرورة. تقوم على تثبيت الهرمية الاجتماعية وعلاقات القوة، لا إعادة ترتيبها.
التظلّم المعاصر لا يبدو مختلفاً للغاية عن شكاوى الأميين تلك، رغم انقراض طبقة الأفندية، وتعميم التعليم. فإذا أخذنا بعين الاعتبار عمل ما يمكن تسميته «البنية التحتية للتظلّم» من مؤسسات ثقافية ومنابر إعلامية، يظهر المتظلّمون بوصفهم عاجزين عن الفعل والتغيير، بل يؤدون نمطاً من السلوك الثقافي، الذي يسمح لهم بنيل التعاطف والحماية و»التمكين» المؤسساتي؛ معتبرين حدود حساسياتهم الذاتية أمراً بديهياً، لا نقاش فيه، ما دام متفقاً مع القيم السائدة في المؤسسات، التي تعطيهم المنابر للتعبير عن مظالمهم. العرضحالجي لم يعد صاحب مهنة فردية، بل جهازاً أيديولوجياً متكاملاً، يوفر للمتظلّمين ديباجات سهلة ومطروقة، يمكن تكرارها دون جهد، أو حاجة لكثير من الإبداع. ومن جديد يبقى الحال على ما هو عليه، ويتم الحفاظ على الهرمية الاجتماعية وعلاقات القوة السائدة.
لا يعني هذا أن المظالم ليست موجودة أو مختلقة بالكامل، بل يشير إلى أنه تم استيعاب مشاعر الشكوى والتذمّر ضمن الأيديولوجيا السائدة، فصارت عاملاً ضرورياً لإعادة إنتاج النظام الاجتماعي المسبب للمظالم، بدلاً من مساءلته بنيوياً. وهذا ما لم يكن عليه الحال في أزمنة الخطباء العموميين، حين كان الفعل السياسي في الحيز العام يعني أن يتقدم صاحب القضية أو متبنيها بخطاب متكامل، موجه للعموم، يتخذ فيه مسافة عن معاناته الخاصة، ليقدم للناس تصوراً شاملاً عن قضيته، والبراهين العقلية والمنطقية والحدسية على عدالتها.. مسائلاً القيم والمُثل السائدة، ومحاولاً إعادة تعريفها من البداية، لتغيير شيء ما في الوضع العام، لمصلحة ما يراه أكثر حقاً وعدلاً، أو حتى نصرةً لمجموعة ينتمي إليها، ويعتقد أن تحقيق سيادتها سيكون الأفضل للجميع.

فلسفة المرافعة

قد يكون تعريب مفردة Plädoyer الألمانية مدخلاً جيداً لفهم النموذج التاريخي للخطيب العمومي بشكل أوضح، والترجمة الأقرب لها هي «المرافعة». إلا أن معنى الكلمة في اللغة الألمانية لا يقتصر على المجال الحقوقي والقضائي حسب، ولذلك لا يمكن اعتبارها نظيراً بسيطاً لتعبير Closing argument الإنكليزي مثلاً، الذي يعني المرافعة الختامية، التي يقدمها المحامي للدفاع عن قضيته، مستعرضاً حجته العامة، دون الدخول عادةً إلى التفاصيل الجزئية لملابسات القضية أو شهادات الشهود.
تستخدم المفردة في السياق الثقافي الألماني للدلالة على مرافعة عمومية، يقدمها كاتب ما، مدعّمة بحجج وبراهين عقلانية، للدفاع عن قضية سياسية أو ثقافية معينة، والتأثير في الرأي العام لتبنيها، باعتبارها محققةً للصالح العام. والأهم أن المرافعة تقوم دائماً على أشكلة البديهيات، أي أن المترافع يبدأ بتحويل ما يبدو مألوفاً وصحيحاً بذاته إلى سؤال متعدد الأوجه والدلالات، ويعمل على مناقشته من زوايا مختلفة. لا مجال للذاتية الضيقة في هذا النوع من المرافعات، بل يجب أن تكون «بين ذاتية» أي كامنة في المستوى التواصلي بين كل المشاركين في الحيز العام.
ربما كانت مسرحية «يوليوس قيصر» لشكسبير أحد أهم التعبيرات الأدبية الكلاسيكية عن مفهوم كلمة Plädoyer، فجثة قيصر، القائد الروماني العظيم المغدور، باتت بحد ذاتها سؤالاً إشكالياً لعامة روما. هنا يقدم «بروتوس» صديق قيصر وأحد قاتليه، مرافعة طويلة أمام العامة، يعرّف فيها الاستبداد والعدالة والصالح العام، مبرراً مشاركته في المؤامرة التي أودت بقيصر. ليأتي بعده «مارك أنطوني» مقدماً مرافعة مضادة، لا تعتبر الاستبداد رذيلة بحد ذاته، معيدةً تعريف القيم مرة أخرى. لتتصاعد بعدها الأحداث المعروفة للمسرحية.

عالم بلا مترافعين

في هذا المثال الشكسبيري عناصر شديدة الأهمية حول المنطق الكامن للمرافعة: أولها نزع تعالي القيم، فحتى مناهضة الاستبداد لا يمكن اعتبارها فضيلة بديهية، بل لا بد من تقديم الحجج لنصرتها؛ وثانيها الاعتراف بسلطة العامة، فهم من توجه لهم المرافعات، واقتناعهم بمرافعة «مارك أنطوني» أجبر أشراف روما المتآمرين على الهرب من المدينة؛ وثالثها أن الذات الفردية، مهما بلغت معاناتها أو فضيلتها، ليست برهاناً بحد ذاتها. «بروتوس قال هذا، وبروتوس رجل فاضل، فلا بد أنه صادق» كما يقول الأشراف في حوارات المسرحية، دون أن يجديهم هذا نفعاً في إقناع العامة.
في عالم لا مترافعين فيه، ويعتبر الشكوى والتظلّم الذاتي بديلاً عن المرافعة المنطقية العمومية، ينتفي الفعل السياسي، ويسود السلوك الاجتماعي الذي لا يخلو من النفاق، لأن القيم تصبح جامدة وقمعية؛ فتصبح السلطة لسدنتها والمستفيدين منها، وليس لعامة الناس؛ وتصير الذات الفردية الضيقة، لمن يتمتعون بحماية تلك القيم، برهاناً بحد ذاتها. باختصار عالمٌ معادٍ للديمقراطية والتداول الحر للحجج والأفكار في الحيز العام، قيمه محافظة حتى لو سمّت نفسها «تقدمية». وربما لهذا يجب السعي لاستعادة قدرتنا على تقديم المرافعات.

القدس العربي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى