المفكر والأديب المغربي بنسالم حـِمِّيش لـ”الجسرة الثقافية”: أنا رائد الرواية الفلسفية
ألفيتُني بين الوجود والإيجاد أجوبُ فضاءات أبرزها الأدب والفكر واللغة والثقافة
بنسالم حـِمِّيش؛ من أبرز الأسماء العربية الوازنة. فليسوف التكوين والسلوك، أديب حتى النخاع، ويدرج في الأدب الرواية والشعر وكتابة السيناريو، وهو حفاظة للشعر العربي والأجنبي، ولوع بالرياضتين البدنية والذهنية. يكتب باللغتين العربية والفرنسية، وله فيهما معا قدم راسخة ويحسن ثلاث لغات والسادسة – كما يقول – في طور النشوء. ومن يستكثر عليه تنوعه – ولو أنه يسهر على جعل هذا التنوع خلاقًا لا خراقًا – يدعوه إلى الاكتفاء من إنتاجه ببعض ما يختاره ويطيب له. يجانس ما بين أصناف الأدب والثقافة الواسعة وما يلح على تسميته التحصيل الثقافي، ويسعى جادًّا في هذا الجناس إلى أن يكون مشخِّصًا ومثلا… يأتي، مغربيًّا، في طليعة المترجَمين إلى عدة لغات (آخرها الأندنوسية والصربية والصينية)، كما يتقدم بين الحاصلين على جوائز عربية وأجنبية آخرها جائزة الشيخ زايد العالمية (2019). ورفض جائزة معمّر القذافي.
تقلَّد مناصب مهمة: وزيرًا للثقافة ومسؤولا حزبيًّا، وفي قطاع السينما. وهو في هذه الشؤون وسواها يرى أنه إنما يجرب قدرته على التعلم والاستفادة، فلا يغترّ ولا يباهي. وهذا لعمري يترجم تواضع الرجل المركوز في طبعه.
في باب الصداقة ألحظ أنه مقلٌّ، ولو أنه يستثني صداقة من يصفهن بـ “الذكيات المستحقات”.
يبدو دومًا هادئًا وميالًا إلى الإنصات والتأمّل، لكن في الباطن، كما أسرَّ إليّ، يغلي ويفور جرّاء ما يسميه “آمالي المجهضة”، وتصدُّع الوضع العربي وتدنِّي الثقافة واللغة، وأيضًا جرّاء ما يسميه الاحتباس السياسي الطاغي، وغلبة خطابات الجهل وأفول المثقفين في مجتمعات التفكك واللامعرفة.
حاورتُه حول عالمه الفكري والروائي مع تلمس جوانب من بنسالم حميش الإنسان والتعرّف على أفكاره ومواقفه في قضايا شتى متواصلة.
* * *
- نبدأ بحدث السنة 2019: فوزك بجائزة الشيخ زايد العالمية في الآداب، الدورة الثالثة عشرة. فهنيئًا لك بجائزة كبيرة وقيمة نلتها بشهادة الكثيرين عن جدارة واستحقاق؛ وهي الجائزة الإماراتية الثانية التي نلتها بعد جائزة الشارقة – اليونسكو سنة 2008.
- بعد الشكر، إنه فعلًا حدثٌ مباركٌ سار سيحفزني، ولا شك على مضاعفة جهودي في التحصيل والإبداع.
- طلبتَ مني لإجراء هذا الحوار أن أعفيك من التحدث عن حياتك الخاصة ومراحلها، سيما وأنك في كتابك الفائز “الذات بين الوجود والإيجاد” قد آثرت الكلام عما أسميته السيرة الذاتية الفكرية أو الذهنية…
- نعم، أي على شاكلة “المقاربات” لمونتاين و”هذا الإنسان” لنيتشه و”المذكرات المضادة” لمالرو.
- لكني أريد منك في بيوغرافيتك رأس الخيط فقط لا الخيط كله.
- لقد عرفت طفولةً صعبة ومراهقة بين الجِدّ والإضطراب وشبابًا ثائرًا. وأحسب أن هذه الأطوار بما لها وما عليها هيأتني لدخول غمار الكهولة بقدرٍ غير يسير من رباطة الجأش وقدرة على الإستماتة في المصابرة وبذل الجهد، فألفيتُني بين الوجود والإيجاد أجوب فضاءات أبرزها الأدب والفكر واللغة والثقافة، عملت على أن تكون بمثابة أوعية متواصلة أو قطاعات متداخلة متكاملة، أي مجردة عن أي نشاز أو تنافر.
- أسألك عن روايتك الجديدة “جرحى الحياة”، هل أنت في عداد هؤلاء؟
- السارد، الذي قد يكون أنا إلى حدٍّ ما، لا شك أنه منهم مع وجود الفارق والتفاوت، إذ جعلته حياتهُ من فئة الصامدين المقاومين. جرحه الأنكى مثلته في إصابته ككاتب بالعجز المكين عن الكتابة وبالقلق الشديد جرّاء ذلك. والرواية في مجملها تروي هذا الجرح وتطوراته وتداعياته النفسية والإجتماعية…
- على ذكر الكتابة، ماذا يمثل عندك فعلها، تصورًا وممارسة؟
- «الكتابة – حسب كافكا – ضرب من الصلاة»، ولا ريب أنه قصد بهذا التشبيه البعد الروحي الذي على الكاتب – المصلِّي أن يجده ويوجده في علاقته بالمطلق، أي أن يتحدث في الحب، مثلا، كما لو أنه أولُّ المحبين، أن يكتب في ما يشاء ويريد، لكن من دون أن يفقد شعوره، ولو ظلَّ هذا الشعور مبهمًا، أنَّ ثمة بين ثنايا كتابته تحديا للموت وذرة ًمن السرمد. سيرتي في الكتابة إجمالًا أن أنفتح على رياحِ الحياة وأمدادها، أن أترك الأشياء ومسمياتها تأتي إليَّ في لحظاتِ يقظتي وانتباهي، وحتى في لحظات سهوي وشرودي، فإني آخذ في إلقائها على الورق لكي لا تتبدد وتذهب سُدى، ثم أرجع إليها المرة تلو الأخرى من أجل صقلها وتشذيبها في ضوء فكرة أو رؤيا أحدس جدارتها وبلاغتها…
- ككل الكتاب، لا شك أن لك في إنجاز الفعل الإبداعي طقوسًا وعادات، فما هي؟
- إني معها أحاول تحقيق ما أقدر عليه من الاستغوار الذاتي في فضائي المعتاد، وأن أُهيّئ للكتابة ما تستلزمه من عزلة وتوحد، فلا لاغية ولا ضوضاء ولا انشغال بشيء آخر سواها. وفي حالة الإعياء أو نضوب القلم، أقضي لحظات استرخاء في انتظار عودة المداد إلى مدده ومجراه، منصتا إلى موسيقاي الأثيرة صحبة القهوة أو الشاي.
- علمت أنك تشتغل على روايتك الرابعة عشرة “إسماعيل المولى”، ولكي تنتج بهذه الغزارة، لا ريب أنك تجد في الكتابة متعة أكيدة، أليس كذلك؟
- معك حق. متعة الكتابة عندي تكمن أساسا في علاقتي مع نفسي، ومع كيانات الكلمات والأشياء، إنها الثمرة المطلوبة والمجتناة. إنها كنبض حي من طبيعتها أن تتجلّى عبر لمعٍ وبوارق، ثم تخبو أو تزول. لذا أراني أقضي أقسى أوقاتي عند تواري المتعة، أي بعد اقتنائها واستهلاكها، كما أني أقضي في ترقب عودتها وتجددها لحظات يُتْمٍ وقلق. وقد أتلهَّى في حالتي هاته بتسويد بياض الانتظار بما يعنُّ لي من الكتابات التعويضية، التي قد تجلب لي بعض المتع الصغيرة، لكن ما إن تتلاشى تلهيتي هاته حتى أعود إلى طلب النشوة الحقيقية والعليا، التي يوقنني زخمها وتوهجها أنها مُعدية، أي قادرة على أن تمسَّ بقبساتها بعض الآخرين.
- علاوة على المتعة، أفترض أنك في عطفك على الرواية واحتفالك بها عثرت على ضالة منشودة وقيمة فاعلة..
- إنها بعبارة واحدة الحريَّة. وجدتُني أثبتها في الكتابة الروائية بقدر ما أقف على تعثرها في الشعر السائد عموما. ففي تلك الكتابة لا هراوات عروضية تلاحقك، ولا لزوميات السجع والقوافي تحرس حساسيتك وخيالك. إن الصفحات معها تبدو كمساحة حرث يأتيها المبدع متى وأنَّى شاء، أو كأرض فلحٍ يبذرها بما يريد ويوصي بها كل الفصول. وبهذا المفهوم أعلم الآن أني إنما أقيم بجوار الاختيار الداعي إلى الرواية ككتابة تجريبية كلية، تتحرك في خضم الحياة والأشياء، وبالتالي في ملتقى الأصناف القولية وتقاطعها التفاعلي الإبداعي.
- الحرية، كما فهمت من نتاجك، هي والحداثة توأمان ووجهان لعملة واحدة قوية. حدثني عن هذا الوجه الثاني ولو قليلًا.
- الحداثة، كما أراها، إبداع متجدد لحلقات القيم النيرة المضافة، وكتعبير حيّ عن الوجود والحضور الفاعلين في حقول الإبداع والسؤال، بعيدا عن مسالك التقليد والاتباع. أقول بهذا مع اقتناعي التجريبي المعاش أن الحداثة ليست ما يقوم وينحصر في الزمن المعاصر وحده، بل هي أيضا من أرقى محاصيل التألقات والإشراقات الإبداعية العابرة للأزمنة والأمكنة. وبهذا المعنى يتظاهر تاريخ الإبداع في صنف الرواية تخصيصا كتاريخ لحداثتها. أما من يحدُّ الحداثة بالعصر والعصرية ويلجمها بهما، محولا إياها إلى حركة إشهارية أو ديانة، فعليه أن يتمثل، ولو من باب التأمل فقط، بيتا لأبي الطيب المتنبي:
“إذا كان ما تنويهِ فعلا مضارعًا / مضى قبلَ أن تُلقى عليهِ الجوازمُ”.
- الملاحظ في مجمل شعرك ورواياتك هو حضور المرأة بنحو لافتٍ دال. ولا شك أن لك في هذا قصدًا وتبريرًا؟
- النساء أمهات وأخوات وحبيبات وقوارير. وهنَّ في مأثوراتنا شقائق الرجال، وهن يرفعن نصف أعمدة السماء، كما قال ماوو تسي تونگ… فكيف لا أحتفي بهن وأخصهن بمساحتهن المستحقة!
- كثيرا ما تصل الإبداع الأدبي بالثقافة والتحصيل الثقافي. هل من إضاءة في هذا الشأن؟
- إن زمرًا من أدباء العرب، وخصوصا منهم الممعنين إلى حد الإدمان في كتابة السير الذاتية، ما زالوا إجمالًا يعيشون ثقافيًّا على الفطرة، أو ليس لهم بالثقافة المستوعَبة، القوية الفاعلة إلا علاقات رخوة، فاترة، متداعية. وفي جو تصاعد الذاتيات والنرجسيات تولد كمية من الأعمال هشّة المتن الثقافي والفكري، أو تطفو على السطح إلى حين بالإشهار والجعجعة الإعلامية. هذا في حين أن الكتابة الأدبية أصبحت اليوم، أكثر من ذي قبل، مرتكزة على دعامة أو مرجعية، هي الثقافة بمعناها الواسع والعميق المنفتح. لكن، إيَّاكِ أن تستخلصي أني أدعو إلى اعتماد الرواية الموسوعية التي تثقل كاهل النص بالمعارف المتكثرة المتنوعة، كما هو الحال عند أومبيرتو إيكو بعد رائعته “اسم الوردة” في أعماله التالية عليها، منها بندول دي فوكو وجزيرة اليوم السابق، وكما في مجمل أعمال إبراهيم الكوني مثلا، بل إني أرى أن البناء السردي في علاقته بالموسوعية يحسن أن يقوم على الخفة والليونة وتدقيق المقادير والتضمينات المعرفية، عملًا بالمثل “الشيء إذا زاد عن حده انقلب إلى ضده”، وكذلك بشغل الكيميائي والصيدلاني.
- من النقاد، على قلتهم، من يعتبرونك رائد الرواية الفلسفية. فهل تقرّ بأن تكوينك الفلسفي طبع أدبك روايةً وشعرا وأثر فيه؟
- لا شك في ذلك. فإيماني أو قولي تعلقي بالفرد، ومن ثم بالفلسفات الوجودية، هو الذي حدا بي، على صعيد الكتابة، إلى إدراك إمكانات الرواية التعبيرية ونجاعتها التبليغية في مجال خلق شخوص، وتتبع منحنيات حياتهم من خلال أنسجة العلاقات والعقد التي يتحركون فيها. وبالطبع يكون الفرد – الشخصية، لا بالمعنى الملحمي أو حتى البطولي للكلمة، هو من يتظاهر كعنصر حيٍّ متكلمٍ عاملٍ داخل مجموعة بشرية، يتفاعل معها وينتج، أو كصاحب شهادة تستحق في نظر الروائي الإلتقاط والحكي. بمعانٍ عديدة، أدرك إذن أن للرواية علائق مدلولية وثيقة بالفلسفة اللانسقية، الوجودية والحيوية، التي تحفل بأخصب مراتع التفكير في قضايا الإنسان، وهي في صيغتها الدينامية والحدية تتعلق أساسا بإشكال المعنى (واللامعنى) في جدلية الحياة والموت، المتمظهرة مثلا في ثيمات دوستويفسكي وتولستوي البارزة: الإنسان والشر/ الإنسان والحرية/ الإنسان والله، وهي ثيمات أمهات تتفرع عنها أخرى كثيرة، كالحرب والثورة والسلطة، أو كالحب والقلق والانهيار النفسي وتدهور القيم الإنسانية، وسوى ذلك.
- من سيمات سيرتك الثقافية تعدد اهتماماتك وتنوع حضورك في مجالات شتى منها اللغات، أضفت إليها مؤخرًا كتابة السيناريو. فكيف تدير كل ذلك وتُلائم بين تلابيبه وأطرافه؟
- من شعاراتي في ذلك: نعم للتعدد التواصلي ذي الخيوط الناسجةِ الناظمة، لا للتقدد أو القددية (من القديد)؛ نعم للتنوع الخلاق وليس الخراق. إن وسطنا الثقافي العربي ينزع عمومًا إلى رفض تنوع الإنشغالات والمواهب عند الكاتب الواحد، ويعمل بالشح والتقتير، أي بمنطق ما يمكن تسميته ثقافة الندرة. وهناك مفهوم حِرفيٌّ نقابوي عن الثقافة ما زال يعشعش في أدمغة عديد من الفاعلين والمتلقين والنقاد. فالشعر – كما تقرر وتكرر قوله – هو ديوان العرب، والغالب على ظن الكثيرين اليوم أن الرواية صارت هي سجل إبداع العرب المعاصر، وأن الشعر والنثر نوعان متضادان متنافران لا يمكن ولا يجوز أن يلتقيا في حقل التجاذب والتناسل والتكامل، وهذا في نظري اعتقاد تُظهر معاطبَه أمهاتُ الأعمال الإبداعية، أذكر منها على سبيل المثال لا الحصر الإلياذة والأوديسا لهوميروس، والكوميديا الإلهية لدانتي، ومسرحيات شكسبير، وكتابات ﭼوته، إضافة إلى أعمال معاصرة حققت فيها ضروبُ الفكر والأدب زواجًا رائعًا سعيدًا، واغتنى معها السرد بالصورة وأفانين التخييل، والفكرة بالشعرية…
- يعرف عنك أن لك علاقة قوية باليونان، فقد درّست في الجامعة الفلسفة اليونانية مدة سنوات وتملكت أيضا لغة الإغريق، لكن علاوة على هذا تزوجت بيونانية وأنشأت معها أسرة. فهل من كلمات ولو قصار عن هذا الشق الثاني؟
- الحال كما تفضلتِ… كان تعرفي عليها بفعل المصادفة العجيبة والأمر الغريب لا يتسع الحيز هنا لذكر مجراه وتفاصيله، فحسبي أن أقول: بعد تعرفي على بانايوطى ارتأينا أن نرسِّم زواجنا، ومن ثم تعلمت هي بفضلي الفرنسية والعامية المغربية، وقويت أنا بفضلها يونانيتي، كما حبّبتُ لها بلادي بقدر ما حبّبت لي بلادها. وفي عشرتها وقفت على الحكمة في حديث نبوي شريف: «اغتربوا ولا تضووا»، وفيه قال الشاعر:
«تجاوزتُ بنتَ العمِّ وهيَ عزيزةٌ / مخافةَ أن يضوى عليَّ سليلي»
كما أن إقاماتي الصيفية بين الإغريق قد ألهبت توقي إلى الإستزادة في معرفة تاريخهم وفلسفتهم العريقة، وألهمتني في بعض أعمالي الفكرية والأدبية.
- من ميزاتك المعترف بها اهتمامك باللغة العربية أيما اهتمام ودفاعك عنها، مع أنك تكتب أيضا بالفرنسية التي أنتجت فيها أعمالًا كثيرة نالت جوائز وتنويهات، فما قولك في هذا الشق؟
- اللغة العربية، حسب تجربتي وشهادتي، هي ذخيرتي الحيوية في عالم الجماد والنبات والحيوان والإنسان. بها أسمي وأصف وأصور، وبها أقطِّع وأركِّب، وبها ألتقط وأُمشهد، وبها أكبِّر وأصغر، وبها أنحت وأحرِّك وأوقِّع. هذا فضلا عن أنها مالكة هويتي وبوتقة حساسيتي وأحاسيسي وحتى وعيي بعالم الناس والأشياء. إن القول بمطلقية اللغة مستمدٌ من نظرية قوامها أن الآداب تنتمي إلى لغاتها روحًا وقلبًا وقالبًا وحسًّا ومعنى. فالإشتغال الحق باللغة هو اشتغال عليها بقصد تطويرها وتطويعها حداثيا، أي تحقيق حرية اللفظ والمعنى معًا على نحو جدلي وثيق، كما دعا إليه التوحيدي وغيره من كبار كتابنا. فكيف لا أدافع عن حوزة العربية وعلو شأنها، وقد خلّفت لنا وطورت، قبل الإسلام وطوال حقبه المديدة، آدابًا خارج دائرة القدسي، وأحيانا بمنأى عن مصرفي سلطته، وهي ما نقرأه في المعلقات وشعر الصعاليك والمولدين، وفي شتى أغراض شعر الغزل والخمريات، كما في الأزجال والموشحات، هذا فضلا عمَّا يطالعنا في مصنفات “أدب الدنيا” و”الإمتاع والمؤانسة” والتصوف، إلخ. أما في الأدب العربي الحديث فحدثي ولا حرج مع أدباء مبدعين في شتى الأصناف.
- ومن ثمة تلك العداوة الشرسة التي يضمرها لك كتاب فرنكفون، ولا يتوانون في الجهر بها…
- تقصدين منهم المستأسدين والمستقوين بالهيمنة الفرنسية ولوبياتها الاقتصادية والثقافية والإعلامية. ولكل هؤلاء أقول إني فرنكوگراف وفرنكوفيل أي كاتب بالفرنسية ومحبٌّ لها، لكني أعارض الفرنكوفونية كنظام لغوي ثقافي ذي نزوع هيجيموني افتراسي. وقد حق المفكر عبدالله العروي (المتضلع في اللغة الفرنسية) حين اعتبر أدب أولئك الكتاب أدبًا فرنسيًّا بأقلام مغربية.
- ومن جهة أخرى وفي السياق نفسه يهاجمك غلاة الأمازيغية ويعادونك.
- والمفارقة العجيبة الصارخة أنهم في هجوماتهم العنيفة على اللغة العربية وثقافتها لا يجدون بديلا عن استعمالها والنهل من مقدراتها البيانية والبلاغية، فيكون الواحد منهم كمن يضرب مرضعته أو يأكلُ الغلّة ويلعنُ الملّة. وأقصد بهذه الفئة غلاة الأمازيغية (ولكل حركة ولو كانت مشروعة متطرفوها)، وهم من حجاج إسرائيل والداعين إلى التطبيع معها؛ وهم من واصفي القيّمين على “المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية” بأمازيغيي المخزن المدجنين؛ وهم أيضا من متعبدي الغلِّ والحسيفة، يركبون القضية عوجًا، ومن حيث لا يدرون ينسفونها نسفًا وينفّرون الناس منها، فيضحون من أعدائها الأحماء…
- قضيتَ على رأس وزارة الثقافة ثلاثين شهرا (2009-2012)، فماذا كانت الصعوبات والمنجزات؟
- نعم، كان ذلك قبل حل الحكومة والبرلمان وإصدار دستور جديد وإجراء انتخابات تشريعية سابقة لأوانها إبان 2011، أي عقب حراك الربيع العربي المتمثل في حركة 20 فبراير. وحين عُينت وزيرًا باسم حزب “الاتحاد الإشتراكي”، وجدت قطاع الثقافة عبارة عن حقل أنقاض وألغام أشرفت عليه من قبلي سيدة لا حول لها ولا كفاءة، أصيبت خلال ولايتها القصيرة بانهيارات عصبية، تمّ إعفاؤها على إثرها… ففي هذه الوزارة: ما العمل حيال ميزانية هزيلة وكثرة الأذرع المكسورة والموظفين الأشباح؟ ما العمل مع جمعيات تطالب بالدعوم وتـحصل عليها بشتى الضغوطات وبالرغم من وجودها في وضعية غير قانونية؟ وما العمل مع أخرى تمتنع عن تقديم تقارير أدبية ومالية، غير عابئة بوجود مؤسسة اسمها المجلس الأعلى للحسابات؟ وغير ذلك كثير، إنها اختلالات وخروقات هي بمثابة صورة مصغرة لوضع الإدارة العمومية الفاسدة وما تعرفه من أزمة هيكلية ووظيفية؛ وقد واجهتُ نصيب الوزارة من ذلك الوضع بكل ما أوتيت به من طاقة وجهد، فأنجزت ما استطعته خلال ولايتي المـجتزئة، وضمَّنت حصيلتها موثقةً في كتيب عنونته “والإصلاح الثقافي أيضا”، إطلع عليه وزكّاه أناس ثقات نزهاء.
مجلة الجسرة الثقافية – العدد 58 – ربيع وصيف 2021