محمد موباغر سار.. مفاجأة أعلى الجوائز الفرنسية
- مشاهد من ذاكرة الخوف - 2023-12-04
- رسائل مُلتهبة في بريد الرواية العربية - 2022-04-16
- محمد موباغر سار.. مفاجأة أعلى الجوائز الفرنسية - 2022-02-09
في الحادية والثلاثين من عمره، استطاع الكاتب السنغالي محمد موباغر سار، أن يحقق لنفسه مكانة راسخة في الساحة الأدبية على مستوى العالم ككل بعد فوزه بجائزة الغونكور لهذا العام عن روايته الرابعة ” ذاكرة الرجال الأكثر سرية”، متخطيًا لائحة من الأسماء الأدبية المكرسة في الوسط الثقافي الفرنسي.
وصف نقاد فرنسيون روايته الفائزة بالتحفة الأدبية، إنها من نوع الروايات العظيمة، التي من الممكن أن تضم داخلها عدة روايات، ضمن حبكة روائية واحدة، وترتحل بالقارئ بين أمكنة وأزمنة عديدة، مع شخوص يحمل كل منها دلالته الفريدة.
إنها رواية نجد فيها: الحب، الأدب، المنفى، الزمن، المستقبل، الحرب العالمية الأولى والثانية، باريس، بوينس آيرس، داكا، برلين، الاستعمار، المحرقة، الكوابيس، السحر، الموت، الحياة الأدبية في الثلاثينيات، الترحال، الاستبصار، الفقد. وإلى جانب هذا كله يحضر السؤال المقلق: لماذا نكتب ولماذا نقرأ؟ ثم تأتي الإجابات منثورة على صفحات الرواية البالغة 420 صفحة، والمقسمة إلى ثلاثة أجزاء، عنونها المؤلف بـ ” الكتاب الأول” وفيه ثلاثة فصول، و”الكتاب الثاني” ويتضمن خمسة فصول، و”الكتاب الثالث” وفيه ثلاثة فصول وخاتمة.
إدراك مأساوي
الكتابة كما يرى موبغار سار”تمنح الوعي والإدراك المأساوي بما لا يمكن تغييره أو اصلاحه، إنه الماضي الذي لا يتزعزع ولعله أكثر ما يقلق الإنسان”.
لم تكن ردود الفعل في السنغال موحدة على فوز محمد موباغز سار بجائزة الغونكور
البطل الرئيسي في رواية “ذاكرة الرجال الأكثر سرية” هو كاتب شاب يدعى “ديجان لاتير فاي” مفتون بكاتب آخر يدعى “تي سي إلمان” الذي نشر عمله “متاهة اللا إنسانية ” في عام 1938، ثم اختفى عن الساحة الثقافية، بعد اتهامه بالسرقة الأدبية عن كتاب آخرين، هذا هو المحور الرئيسي الذي تتفرع منه الرواية في اتجاهات شتى.
وفي كل فصل من فصولها ينقل “سار” القارئ إلى محور جديد مختلف، تتنوع الخطوط، ثم تتداخل في تشابك مثير، تتصادم الأساطير والوقائع مع بعضها البعض، ويتم دمج القصص، وتختلط في محاولة تقفي شبح الكاتب المختفي، مما يؤدي بشكل تدريجي إلى تكوين صورة غامضة ومجزأة. لكن تبدو الحقيقة دائمًا متوارية ضمن هذا الهيكل المتعدد الأصوات الذي لا يؤكد أبدًا أي حدث ولا ينفيه، لكنه يترك كل المجالات مفتوحة أمام القارئ للتخيل والتكهن والشك، دون أن يفقد الخيط الجاذب رغم انتقاله من عصر إلى آخر وفي أماكن مختلفة، مع تنوع مثير في الأسلوب واللغة، بين التساؤلات الفلسفية، والأسئلة البوليسية بغرض الوصول للحقيقة.
ينطلق بطل الرواية ديجان مأخوذا بالمضي على درب الكاتب تي سي إليمان الغامض؛ يستدعي في رحلته المآسي الكبرى للاستعمار والمحرقة، من السنغال إلى فرنسا والأرجنتين، أي حقيقة تنتظره وسط هذه المتاهة؟ وماذا سيجد بعد كل هذا البحث؟
مثل هذه الأسئلة تجذب القارئ لعالم “سار”، وسرده المضفر والمتلاعب في الوقائع والافتراضات والخيالات؛ دون أن يفقد خيط المسعى الأول لحكاية الكاتب المختفي. يتردد ديجان في باريس على مجموعة من المؤلفين الأفارقة الشباب: جميعهم يراقبون بعضهم البعض، ويتناقشون ويشربون ويمارسون الحب كثيرًا ويتساءلون عن الحاجة إلى الإبداع في المنفى. يركز ديجان بشكل خاص على امرأتين: سيجا المثيرة حافظة الأسرار، والمصورة الصحفية عايدة.
تبتعد الشخصيات في هذه الرواية عن النمطية، وتخلو من السطحية وهذا ما يبرره “سار” في أحد حواراته قائلا: ” كل شخصية لها عالمها الداخلي المحتدم، حتى في حال وجود شخصيات مسطحة في الواقع إلا أنه لا مجال لوجودها في الأدب”
يكشف سار أنه استلهم روايته هذه مما حصل مع الكاتب المالي يامبو أوولوجويم، الذي كان أول روائي أفريقي يحصل على جائزة “رينو” الفرنسية الرفيعة، لكن لم يمر عام على حصوله على الجائزة حتى اتهم بسرقة أدبيات من جراهام جرين وأندريه شوارتز بارت.
لا يؤكد الكاتب أبدًا أي حدث ولا ينفيه، لكنه يترك كل المجالات مفتوحة أمام القارئ للتخيل والتكهن والشك
يصف سار تجربة قراءته للكاتب المالي مثل الاقتراب من جسم متوهج محاط بإشعاعات قوية، هناك شيء سحري فيه، إنطلاقا من هذا التشبيه بدا له أن تجربة القراءة عند التعامل مع نص رائع تغيرنا بشكل عميق، تلامس أعماقنا. محمد مبوغار سار اعترف أيضا بأنه “لعب كثيرا بالحكاية الأصلية وبالأفكار المسبقة عن الأدب”. بالنسبة له: ” يجب أن تكون الكتابة “مساحة للحرية، حيث يمكن للمرء أن يتوقع أي شيء، وأن يفاجأ بأي حدث، ويثق بتفرد الكاتب واختياراته، دون المضي في تصنيف مسيء”.
لذلك يسخر “سار” من التصنيفات خاصة عندما تنطبق على كاتب فرانكوفوني أو أسود. إنها فرصة للتساؤل عن التاريخ السياسي والأدبي والمعاملة التي خصصها الغرب للشعراء الزنوج، وما تجسده من فضول غريب نحو الكتاب القادمين من مستعمرات سابقة، والتردد في الاعتراف بموهبتهم الأدبية.
يجسد السرد المتشابك أيضا التاريخ المعقد للعلاقات الفرنسية الأفريقية، لكن الرواية تتجاوز ببراعة السؤال الخانق للغرب وإفريقيا وتتشعب في الحديث عن العلاقة مع الأدب وحالة الكاتب الرائع والبائس في آن واحد.
البحث عن المطلق
يبدو واضحا في رواية “سار” أن بطله “ديجان” الذي يتقاطع معه شخصيا في العديد من التفاصيل فهو مثله كاتب سنغالي يعيش في فرنسا ومفتون بالأدب، ويمضي في رحلته باحثا عن اجابات لتساؤلاته. إنه كاتب شاب متعطش للمطلق، يؤمن بأن الأدب احدى الطرق لفك رموز العالم ومصير الإنسان الغامض وعذاباته الوجودية. إن لوثة الأدب تطغى على النص لأنها تتقاطع مع سؤال الحياة في جوهرها الأعمق، ديجان هنا، وكذلك البطل الآخر البعيد “إلمان”، منغمسان تماما في العلاقة الذهنية مع فعلي القراءة والكتابة. وهذا يتضح من الأسئلة التي يطرحها “ديجان”، مع نفسه وضمن حواراته مع الآخرين. يقول: “ولكن ما معنى أن تُكرس نفسك للكتابة مثل الراهب المعتكف في صومعته، عندما يصرخ عليك العالم الواقعي أو المعارك السياسية أو حتى حصار محبة المقربين إليك؟” مثل هذا النوع من الأسئلة يتم تنظيمها عبر الحوارات بين الشخصيات، كُتاب وفنانون يعيشون في أوروبا، ويواجهون تناقضات العالم، وخيباتهم الشخصية، وطموحاتهم التي يلهثون ورائها.
ولعله لهذا السبب وجه بعض النقاد ملاحظة بشأن الرواية بأنها نخبوية بعض الشيء، إنها لا تشبه روايات الغونكور الفائزة من قبل، تلك التي من الممكن للقارئ الفرنسي المثقف والرجل العادي قراءتها بدون مشقة، رواية “سار” تجنح إلى التركيب ويغيب عنها الوضوح. جوهر العمل كله يتعلق بالكتب والكتابة وعلاقتنا الحميمة بالأدب وطريقتنا في القراءة وتلقي النصوص. لنقرأ: ” هل يمكن الحكم على رواية بتجاهل هوية مؤلفها أو لونه أو أصوله؟ هل يمكن أن يؤدي بنا نص للشعور بالثمل عبر تحرير أنفسنا من المكان والزمان؟”.
كل شخصية لها عالمها الداخلي المحتدم، حتى في حال وجود شخصيات مسطحة في الواقع إلا أنه لا مجال لوجودها في الأدب
يحقق ديجان في حياة “إلمان” ويتساءل: ” من هو؟ هل هو كاتب منتحل، أم قاتل صوفي، مفترس للأرواح؟ أم رحالة أبدي”؟ هكذا تُشكل حياته وكتابته الساحرة في “متاهة اللا إنسانية” إطارًا لرواية أخرى تمضي في متاهتها كما لو أنها تحقيق ليس في حياة إلمان وحسب، بل في الحياة والإبداع والحب والاغتراب، والنفي الأدبي والتشكيك بالكتابة، كأن يقول “سار” عن الأدب: ” لم نفكر إطلاقا في أنه سينقذ العالم، بل على النقيض لقد اعتقدنا أن هذه هي الطريقة الوحيدة لعدم الهروب من الحياة”.
لقد أراد “سار” عبر روايته هذه معالجة عدة مواضيع تهم الإنسان عموما، وتشغل بطله ديجان بشكل خاص؛ لذا يُعبر عما يدور في ذهن كاتب ينتمي إلى عالمين كما هو الحال مع محمد موبغار سار. يواجه قلق الاعتراف به من نظرائه الكُتاب الغربيين، ذلك أن هذا الكاتب الفرنكوفوني اختار مواضيع تجمع بين التركيب والبساطة وضفرها معا من أجل معالجة قضايا كبرى تخص الإنسان ومصيره المحفوف بالغموض، وعبر شخوص الرواية يناقش مسألة أن يقامر المرء بحياته من أجل شيء ما، هذه المقامرة غالبا ما تنتهي بالخيبة والمرارة، كما حدث في النص مع “إلمان”، المتهم بالسرقة الأدبية والذي اختار الانسحاب تماما من الحياة الثقافية.
كاتب مثير للجدل
لم تكن ردود الفعل في السنغال موحدة على فوز محمد موبغار سار بجائزة الغونكور، في البداية هلل كثيرون في الأوساط الأدبية وخارجها لهذا الفوز مع عبارة تقول بأن “موبغار سار هو فخر وطني للسنغال. لكن سرعان ما تعالت العديد من الأصوات، تصل إلى حملة تشهير اتهمته بأنه في روايته السابقة ” رجال أنقياء” التي صدرت عام 2018 دافع بشدة عن المثليين من خلال قصة أستاذ جامعي يواجه العنف المعتاد لرهاب المثلية المنتشر في السنغال.
البعض الآخر رأى أن سار ينتقد في شكل واضح تأثير الدين على القرار السياسي في السنغال. امتدت هذه الحملة لصفحات التواصل الإجتماعي مع عبارة: “مبروك” ملحقة بالأسف، أو كلمة ” أسحب تهنئتي تماما وأنا آسف جدا لذلك”، أو عبارات مثل: ” هذا الرجل يسعى لتشويه مجتمعنا” مع الملاحظة بأن جمهور “السوشال ميديا”، يخلط بين الرواية الفائزة بالغونكور، والرواية السابقة. جميع هذه الانتقادات جاءت نتيجة حوار أجراه سار في عام 2018، مع صحيفة ” اللوموند” الباريسية، انتقد فيه وضع المثليين في بلاده، معبرا عن أسفه لتخلي النخبة السياسية عنهم.
موبغار سار في تعليقه على هذه الانتقادات قال: ” لا أعرف إذا كان لدي أي شيء لأقوله عن ذلك. أنا كاتب وأحاول القيام بعملي، ككاتب أحترم جميع الانتقادات طالما أنها تبذل جهدها لتكون عادلة قدر الإمكان، أنا فقط أطلب قراءة ما كتبته، أيضا معرفة كيفية القراءة، وهذا شيء يمكن تعلمه قبل اطلاق الأحكام”.
مقطع من رواية “ذاكرة الرجال الأكثر سرية”
27 اغسطس 2018
في العلاقة بين الكاتب وعمله، يمكننا على الأقل معرفة أن كليهما يمضيان معا في أفضل متاهة يمكن تخيلها، طريق دائري طويل وملتف، حيث يندمج مسارهما مع الجذر الأساسي لهما: الوحدة.
سوف أغادر أمستردام. على الرغم مما تعلمته فيها، مازلت غير مدرك ما إذ كنت عرفت إلمان جيدا، أم أن لغزه يزداد تعقيدا. يمكنني هنا استدعاء المفارقة لكل محاولة بحث.. كلما اكتشفنا جزءا من العالم، كلما رأينا جهلنا وضخامة المجهول، لكن هذه المعادلة تُعبر بشكل ناقص عن شعوري إزاء هذا الرجل.
تتطلب حكايته صياغة أكثر عمقا، مما يعني مزيدا من التشاؤم حول إمكانية معرفة الروح الإنسانية. حالته تشبه نجما ساطعا يجذب ويبتلع كل ما يقترب منه. ننظر إلى حياتنا لبعض الوقت، ثم نتنبه إلى أننا أصبحنا متقدمين في السن ومستسلمين، وربما حتى في حالة اليأس نهمس لأنفسنا عن الروح البشرية: لا يمكن معرفة أي شي، ذلك لأنه لا يوجد شيء ممكن معرفته حقا.
إلمان غرق في ليله، تسحرني سهولة وداعه للشمس، وافتراض حضور ظله، ويستحوذ علي غموض غيابه. لا أعرف لماذا ظل صامتا، بينما مازال لديه الكثير ليقوله. لكن فوق كل شيء، بالنسبة لي أعاني من عدم القدرة على الاحتذاء به، عبر الصمت، الصمت الحقيقي، وأتساءل إذا ما كانت الحاجة ملحة لهذه الكلمات، أم أنها مجرد ثرثرة مزعجة”.
مجلة الجسرة الثقافية – العدد 59