قالت له العيون

مات وحيدًا مغتربًا في باريس وفى القاهرة كان الجيران ينتظرونه ويدعون له بالشفاء، لكنه غاب وطالت غيبته وحافظت صاحبة البيت على مسكنه مغلقًا كما تركه، إلى أن جاءتها لجنة من الكنيسة لحصر متعلقاته فوجدت كمية من الأوراق والرسوم وصور الجيران ومناظر من حارات القاهرة القديمة لم تعرف قيمتها إلا بعد عقود، بالتحديد عام 1997 حين عرضت لوحاته وعرف الكنز الفنى الذى خلفه الفنان الارمنى المصرى أرفاند توروس ديمرجيان.

تعرض الأرمن لموجات متتالية من العُدوان والتعصب العنصرى العثمانى، واتجه الجيش التركى لتصفيتهم في مذابح جماعية فقد فيها (أرفاند) أفراد عائلته وأفلت منها بالصدفة عندما فر مع مئات الهاربين الى ان وصل الاسكندرية عام 1896 لايملك قوت يومه، مع أنه كان ينتمى الى عائلة ميسورة أتاحت له فرصة تلقى العلم في القسطنطينية ودراسة الفنون في باريس بأكاديمية ( جوليان بوليان ) وتدرب على نسخ الأعمال الكلاسيكية في متحف اللوفر، وما أن عاد الى أهله عام 1894 حتى اشتدت الحملات التركية ضدهم.

بورتريه رسمه الفنان لنفسه

على النقيض كان الأرمن في مصر يُشكِّلون جالية كبيرة تعايشت في وفاق مع المصريين منذ العصور الوسطى حين تمتعوا بحريات دينية وثقافية وتجارية في العهد الفاطمى فكان منهم الوزير بدرالدين الجمالى الذى يطلق اسمه على أحد أحياء القاهرة ( الجمالية )، ثم استعان بهم الوالى محمدعلى في مشروع بناء الدولة الحديثة لمعرفتهم.
بشئون الإدارة المالية والمصارف وإجادة اللغات والصنايع، فكان منهم الوجهاء ورجال المال وأول رئيس للوزراء في مصر (نوبار باشا ). التحق عدد محدود من الأرمن بأعلى شرائح المجتمع، أما الغالبية فلاجئون فروا من مطاردات الجيش التركى ،وتعاطف المصريون معهم فاستقبلوهم في معسكرات مؤقتة في بورسعيد والإسكندرية.
تآلف المصريون والأرمن سريعا لعدة أسباب، أولها المصالح المشتركة للطرفين، فالأرمن أصحاب خبرات ومهارات حرفية في الصناعة والطباعة والأجهزة الطبية والكهربائية والتصوير الفوتوغرافى، مشروعاتهم وورشهم تحقق لهم الربح وتفتح آفاقًا جديدة للتعليم والعمل أمام المصريين.
من جانب آخرلعبت الثقافة الاجتماعية دورًا في تشكيل نظرة المواطن المصرى تجاه الأرمن،إذ تشابهت الأوضاع بين الجماعتين : الأرمن ظلمهم الأتراك والمصريون ظلمهم الانجليز، فجمع الشعور بالمظلومية الجانبين (غدر بهما الزمان ) وسلبهما مكانة أبناء الأصول . جمعت الندية والتماثل الجماعتين في إطار من التفاعل المُثمر.

تآلف المصريون والأرمن سريعًا لعدة أسباب، أولها المصالح المشتركة للطرفين، فالأرمن أصحاب خبرات ومهارات حرفية في الصناعة والطباعة والأجهزة الطبية والكهربائية والتصوير الفوتوغرافي

خالط الأرمن سكان الأحياء الشعبية في بين السورين وعابدين والموسكى والجمالية والدرب الاحمر وشارع محمد على، حيث أقاموا الورش والمحلات واندمجوا في علاقات مشتركة متنوعة ،فلم يكن صعبًا أن يجد أرفاند مسكنًا بأحد بيوت شارع محمد على حيث ورش الزنكوغراف والمطابع عله يلتقط رزقه منها كرسام .و بمساعدة أبناء الجالية حصل على وظيفة مدرس رسم بمدرسة كالوسديان الأرمنية الوطنية في بولاق.


من سطح البيت رقم 155 بشارع محمد على كان (أرفاند ) يطل على الأفق الممتد، قباب ومآذن القاهرة الفاطمية وأسطح بيوت الجيران عامرة بالأولاد والبنات والطيور وحبال الغسيل، تابع من بعيد حياة سُكان الأسطح والحارات المجاورة، كان حزينًا وحيدًا لايعرف ما تضمره الأيام له، إلى أن غامر بالهبوط من السطوح إلى الشارع معتمدًا على حسه الإنسانى وذكائه الفطرى ليطالع وجوه الجيران ويقرأ ما تقوله عيونهم ،و قبل أن يتعلم لغتهم قالت له العيون : أهلًا بك .. البيت بيتك، اعتبروه ( جدع وحدانى يتيم ). أحاطوه بمشاعر ود صادق يخفف من أحزانه وعاونوه على الخروج من مأساته الشخصية والتغلب على خجله وانطوائه، ليتقاسم معهم العيش والملح وشاى العصر، فامتدت جسور المودة بينه وبينهم بكلام العين للعين قبل أن يعرف ويجيد لغتهم، فعاد له الأمل في مواصلة الحياة رغم كوارثها وصعوباتها . انكسر جدار الغُربة والعُزلة ووجد وسط الناس تعويضًا نفسيًا عن مشاعر الفقد والوحدة والاغتراب .
رسم الفنان لوحات تخلو من البهجة والمرح لكنها تنبض بالحب الذى يكنه الرسام للشخصيات المرسومة، لوحات كثيرة رسمها لجيرانه تشى بمحبته وامتنانه، فهو لم يرسمها ليكسب مالًا أو شهرة، بل احتفظ بمعظمها بغرفته كأنها صور بعض أفراد عائلته، وهى نموذج مثالى للتمييز بين الجمال الطبيعى والجمال الفنى فالأول من صُنع الخالق والطبيعة نجده في صورة فتاة حسناء أو امرأة فاتنة أو شاب وسيم أو منظر خلوى، كلها صور لايختلف على الاعجاب بها شخصان، أما الجمال الفنى فهو من إبداع الفنان المصور يثير الإعجاب في نفوسنا حتى لو صوَّر بنتًا غير جميلة الملامح أو زقاقًا ضيقًا غير نظيف، لأنه يضفى في هذه الحالة قيمًا جمالية نابعة من داخله، تُعبِّر عن مشاعره وأحاسيسه الذاتية تجاه الشكل الذى صوَّره ،و باستخدام الخطوط والمساحات والألوان فإن الفنان يحيل اللوحة المُسطحة الصماء إلى شحنات عاطفية كامنة الى أن تصادف عين الرائى فتُحرك مشاعره كما تتحرك الأوتار بلمسات العازف . وأول ما يُميِّز لوحات (ارفاند) أنها لشخصيات عادية نساء في ملابس تقليدية بسيطة أو رجال فقراء بعضهم يصلى وبعضهم انحنى ظهره من التعب فأى جمالٍ يمكن أن تعكسه هذه الصور؟

رسم الفنان لوحات تخلو من البهجة والمرح، لكنها تنبض بالحب الذي يكنه الرسام للشخصيات المرسومة، لوحات كثيرة رسمها لجيرانه تشي بمحبته وامتنانه، فهو لم يرسمها ليكسب مالًا أو شهرة، بل احتفظ بمعظمها بغرفته

أول معالم الجمال الفنى في هذه اللوحات، كما أظن، تأثيرها الدرامى الذى يُغلِّف كل واحدة منها كأنها عنوان أو جزء من حكاية تثير فضول الرائى ليبحث عن سر العيون التى تظهر من خلف البُرقع، وما الذى يشغل بال المرأة التى تسند رأسها إلى كفها ؟ ولمن تتطلع ذات الصدر المكشوف ؟ وتزيد درامية اللوحات بتأثير صراع الظل والنور أو الغامق والفاتح، لم يستخدم الفنان سوى ألوان قليلة غلب عليها اللون البنى بدرجاته وهو خليط من الأسود والأحمر صبغ معظم المساحات بلون قاتم فتصبح مساحات النور في اللوحة كالشهب تخطف البصر وتشد الانتباه . ذلك الاسلوب الواقعى في التصوير يعكس اهتمام الفنان بالفحص الدقيق لملامح الشخصية والتعرف على أغوارها، كأنه يحاول فك شفرات الوجوه والاقتراب من أصحابها.


استجابة لطلب الكنيسة رسم ارفاند مجموعة من لوحات القصص الدينية بمساحات كبيرة على نسق أعمال أساتذة عصر النهضة الإيطاليين، واستنسخ لوحة العشاء الأخير لليوناردو دافنشى بنفس المساحة بدقة مُذهلة . واستمرت هذه اللوحات معروضة في كنيسة الأرمن الأرثوذكس 179 شارع رمسيس، القاهرة.
أصبح ارفاند واحدًا من أهل الشارع، يُجيد لغتهم ويعيش عيشهم لعقود حتى عام 1938، أحل عليه المرض وتبين أنه بحاجة إلى جراحة لاستئصال ورم سرطانى فسافر إلى باريس للعلاج لكنه توفى ودُفن هناك . ثم قامت لجنة من البطريركية الأرمنية بالقاهرة بحصر ممتلكاته لعدم وجود ورثة له، ووفقًا لسجلات البطريركية وُجد بمسكنه 229 لوحة زيتية، و50 صورة شخصية، 163 قطعة من المناظر الطبيعية والخلوية و16 صورة ثابتة و7 لوحات بألوان مائية.
بقيت أعمال الفنان ارفاند توروس ديميرجيان خفية عن عيون النُقاد والدارسين حتى طوى النسيان سيرته، إلى أن بدأ التفكير في بيع بعض أعماله بمزاد خيرى لأعمال البر ،وسعى بعض العارفين بقيمة تراثه الفنى لإقامة معرض استيعادى بالمركز الثقافى في أوبرا القاهرة عام 1997، وهو ما كان إعلانًا عن خروج فنان كبير من قبو النسيان.

مجلة الجسرة الثقافية – العدد 60

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى