الخوف في الصِغر!
- الخوف في الصِغر! - 2023-11-18
- المسخ - 2022-05-14
الخوف أحد الانفعالات الأساسية عند الإنسان كما صنفه هيدجر، لذا شغل مساحة كبيرة في الوعي الإنساني وفي الحكي الشفهى الذي لعب دورًا حيويًا ليس فقط في نقل التجارب البشريه من جيل لآخر، وإنما أيضا في تشكيل الوجدان الإنساني كما لاحظ جوناثان جوتشال يعتقد معظمنا أننا نفرق بين الواقع والخيال عند سماع الحكايات وأننا نحتفظ بالمعلومات المستقاة من الحكايات الخيالية في مناطق معزولة في عقولنا ولكن الدراسات أثبتت أن ذلك لا يحدث في جميع الأحوال بل تختلط في عقولنا النصوص الخيالية بالواقعية وتأسر القصص الخيالية أرواحنا على حد تعبير جوليا كريستوفا.
وكما لاحظ أرسطو يمثل الصراع عنصرًا أساسيًا في الحكي وفي الحكايات الخيالية ويرتبط بالخوف والعنف الذي يحقق الطرح العجائبي بما يضفى سحرًا خاصًا على الحكاية ويحدث حالة الدهشة الممزوجة بالهول في نفس المستمع، لذا حفلت الحكايات الشعبية القديمة بالكائنات المخيفة من ساحرات شريرات وذئاب وغابات معقدة يسكنها الغيلان، وهي عناصر حققت وظائف مهمة مثل جذب انتباه السامع وإثارة فضوله وشحذ للخيال حين يتماهى السامع مع أبطال الحكايات ويبحث عن حلول لصراعهم، ومن خلالها يواجه البشر مخاوفهم وينتصرون عليها. أما في الأطفال، فهي وسيلة من وسائل التربية التي استخدمتها الجدات والأمهات منذ القدم وساعدت على تنمية قدراتهم على التعرف على العالم من حولهم وغرس الحذر في نفوسهم.
كما لاحظ أرسطو يمثل الصراع عنصرًا أساسيًا في الحكي وفي الحكايات الخيالية ويرتبط بالخوف والعنف الذي يحقق الطرح العجائبي بما يضفى سحرًا خاصًا على الحكاية
الأطفال لايعرفون الخطر و تنقصهم المعرفة والقدرة على الاستدلال التي يكتسبها الإنسان بالخبرة التي تمكنه من ربط الاسباب بالنتائج، لذا تلعب الحكايات الشعبية دورًا حيويًا في المجتمعات الريفية والبدوية مثل مساعدة الأطفال على تحري السلامة، كما في حكايات أبو رجل مسلوخة وأمنا الغولة التي يذخر بها تراثنا الشعبي في مصر والتي تحذر الأطفال من الغرباء والابتعاد عن البيت والحكايات الافريقية عن أم المياة وهي حكاية الأم التي غرق كل أولادها في النهر فتحولت إلى جنية تسكن المجاري المائية وتلتهم كل طفل يقترب منها.
تصور الخوف لدى كالفينو قريب من فهم جان بول سارتر الذي وصفه بأنه انفعال يجعلنا نبحث عن الحلول الممكنة لتغييرالعالم بصورة سحرية
وقد أدركت الأمهات التي تردد على مسامع الأطفال هذه الحكاية أن انفعال الخوف يحفز على سلوك يميل إلى تجنب الحدث الذي نخاف منه، أو نعتبره مصدر تهديد لذا ساعدت هذه الحكاية على إنقاذ العديد من الأطفال في القبائل الافريقية وحمايتهم من الموت غرقًا في الأنهار والآبار. والحكايات الشعبية إرث ثقافي يستحق الاهتمام به والمحافظة عليه من الاندثار وفي حين لم تشعر الثقافة العربية بالحاجة لجمع التراث الشعبي بعد كتاب ألف ليلة وليلة، شهدت الثقافة الغربية محاولات مختلفة لجمع تراثها الشعبي وتنقيحه.
الأطفال لايعرفون الخطر، وتنقصهم المعرفة والقدرة على الاستدلال التي يكتسبها الإنسان بالخبرة التي تمكنه من ربط الاسباب بالنتائج
ظهرت أولها في ايطاليا عندما قام الكاتب الإيطالي جوفاني فرانشيسكو سترابولا بجمع خمس وسبعين حكاية ونشرها في فينسيا عام 1550 تحت عنوان الليالي الممتعة ثم قام جايمبتسيتا بازيلي بجمع خمسين حكاية باللهجة المحلية لمدينة نابولي ونشرها عام 1635 وترجمها بعد ذلك الفيلسوف الإيطالي بينديتو كروتشي. لم تخل هذه الحكايات من مشاعر الخوف وتجسيده وإن اختلفت قسوة التعبير عنه من شعب لآخر وربما تعد حكايات الأخوين جريم التي جمعها الأخوان جريم في المانيا عام 1822 من أكثر الحكايات الشعبية ثراء بمظاهر القسوة والعنف لدرجة ربط بعض علماء النفس بين عنف هذه الحكايات والمذابح المرتكبة في معسكرات النازية وزعمت بعض الدراسات أن حكايات جريم أسست للفكر الإجرامي والعنصري لهتلر ولهذا منعت قوات الحلفاء لفترة وجيزة بعد عام 1945 نشر حكايات جريم في ألمانيا لأنهم ربطوا الفظائع التي تم التعبير عنها في العديد من القصص الخيالية بالعنف في معسكرات الموت.
لذا تلعب الحكايات الشعبية دورًا حيويًا في المجتمعات الريفية والبدوية مثل مساعدة الأطفال على تحري السلامة
وللبروفيسور بيتر أرند دراسة مثيرة للاهتمام عن استعانة أدباء ما بعد الحرب في المانيا من أمثال أرنو شميدث وجونتر جراس بحكايات جريم واستلهام الحكايات المرعبة في التعبير عن جرائم النازية. وبعد صدور حكايات جريم بمئة عام ظهرت في إيطاليا حكايات كالفينو الشعبية عام 1956. على الرغم من تأثر كالفينو بحكايات جريم وطريقة جمعها وعدد الحكايات وقد اختار أيضًا مائتي حكاية كما فعل الاخوان جريم، إلا أن القسوة والعنف التي اتسمت بها تلك الحكايات خفتت كثيرًا في الحكايات الشعبية الإيطالية التي جمعها كاتب إيطاليا الأشهر إيتالو كالفينو والذي يتزامن هذا العام مع مرور مئة عام على مولده. كان كالفينو واعيًا تمامًا بالمسافة الزمنية التي تفصله عن حكايات الأخوين جريم، وأن ما كان يمكن تقبله من عنف وقسوة في القرن التاسع عشر لن يتقبله القارىء في القرن العشرين. حكايات إيتالو كالفينو الشعبية تروض الخوف وتضفي عليه تناغمًا وتوازنًا، فلا نجد بها أنهار الدماء المسفوكة كما في الأخوين جريم، لاتسهب في الحديث عن التفاصيل الوحشية وإنما توظفها في الحكاية التي تنتهي غالبا بتحقق العدل والقضاء على الشر.
عالجت معظم الحكايات تيمة الخوف في صور مختلفة، وكان تصور الخوف لدى كالفينو قريبا من فهم جان بول سارتر الذي وصفه بأنه انفعال يجعلنا نبحث عن الحلول الممكنة لتغييرالعالم بصورة سحرية. أبطال حكايات كالفينو انتصروا على الخوف وقهروه بل جعلهم الخوف أكثر يقظة وأكثر تنظيما (سقراط) مثل حكاية عقلة الاصبع وأخوته الذين استطاعوا رغم الرعب الشديد الذي انتابهم عندما انتهت رحلتهم داخل بيت الغول، الهرب والنجاة عن طريق وضع تيجان أبناء الغول فوق رؤوسهم فأكل الغول أبنائه بدلا منهم وعادوا سالمين إلى أبويهم. ومن أكثر الحكايات التى عالجت الخوف بصورة فريدة، الحكاية الأولى، والتي وضعها كالفينو في بداية مجلده الضخم الذي تجاوز ألف مائتي صفحة، وهي حكاية ترجمها الفيلسوف الايطالي انطونيو جرامشي من كتاب الاخوان جريم اثناء فترة سجنه وكان عنوانها بالالمانية Märchen von einem, der auszog das Fürchten zu lernen“ وتحولت في الايطالية إلى حكاية جوفانني الذي لايخاف. بطل الحكاية الصبي المغامر جوفانني الذي يحب السفر والترحال، طاف ببلدان مختلفة حتى وصل إلى بلدة بها قصر مسكون، كان المكان الوحيد الذي وجده لقضاء الليلة.
زعمت بعض الدراسات أن حكايات جريم أسست للفكر الإجرامي والعنصري لهتلر ولهذا منعت قوات الحلفاء لفترة وجيزة بعد عام 1945 نشر حكايات جريم في ألمانيا
حذره الجميع من مغامرة قضاء ليلة بذلك القصر الذي لم يخرج منه أحد حيًا، لكن جوفانني تحدى الخوف ودخل إلى القصر، وظل رابط الجأش عندما رأى أجزاء جسد الشبح العملاق تسقط من ماسورة المدفأة و تلتحم أمامه، وأثناء ذلك كان يتناول طعام العشاء بكل هدوء، بل كان يعلق مازحا ويغني. لم يملك الشبح أمام شجاعته سوى أن يترك له القصر بكل ما فيه من ذهب وأموال. فاز جوفانني بالقصر وكل ما يحويه من ذهب وعاش سعيدًا إلى أن رأى خياله ذات يوم فشعر بالخوف الشديد ومات من شدة الخوف.
هل نستطيع النجاة من الخوف وهو قدرنا منذ بدء الخليقة عندما شعر به أبو البشر آدم بعد أكل الفاكهة المحرمة؟
هذه النهاية التي تبدو عبثية، تمنح الحكاية عمقا وحكمة إنسانية كبيرة. تجعلنا ندرك حدود القدرة الإنسانية، السخرية من شجاعة جوفانني المفرطة وإبراز سلطة الخوف فهو قدر المرء الذي لا يمكنه الهرب منه مهما تحلى بالشجاعة وقد شغل مفهوم الخوف كالفينو منذ أول رواياته “درب اعشاش العنكبوت” يحمل الإنسان مخاوفه الصغيرة طيلة حياته ويصبح هدفه الأخير أن ينجو من الخوف نفسه. ولكن هل نستطيع النجاة من الخوف وهو قدرنا منذ بدء الخليقة عندما شعر به أبو البشر آدم بعد أكل الفاكهة المحرمة فسبقت مشاعر الخوف شعوره بالخزي من عريه.