الخوف النقدي
سلطة التلقي بديلا عن سلطة العلم
- الخوف النقدي - 2023-11-22
- جوائز الثقافة والأدب.. أين الخلل؟ - 2022-11-01
- في الأصل والفصل - 2022-04-11
الخوف عملية نفسية تحدث داخل الإنسان، نتيجة لاستشعاره أن شيئا ما يهدده على أي مستوى من المستويات (النفسية، أو الاجتماعية، أو المادية)، وهو ما يؤدي لرد فعل “انفعالي” يتخذ أشكالا عديدة تبعا لقوة ودرجة تأثير الخوف عليه.
ومنذ صار “الخوف” تخصصا علميا له دراساته وأبحاثه وأدواته، فقد تم تصنيفه في ثلاثة حقول: أولها الخوف الناتج عن جموح الطبيعة، وثانيها الخوف الناتج عن هشاشة جسد الإنسان، وثالثها الخوف الناتج عن العدوان البشري على اختلاف أنواعه، وستضاف إليها بالطبع أنواع عديدة ناتجة عن السياقات الثقافية، منها الخوف الأخروي الناتج عن التدين، والخوف من التطور التكنولوجي مثلا – لمن يمتلكون الوعي بتفاصيله، ولمن ينتمون للشعوب المستهلكة وليست المنتجة- وهكذا.
أما الخوف النقدي، فالمقصود به هو حالة الخوف التي تصيب المشتغلين بالنقد (النقاد والباحثين) في عصرنا الحاضر، فتعيقهم عن إبداء رأيهم النقدي، وكذلك حالة الخوف التي تصيب المبدع فتعيقه عن حرية الإبداع والتجريب، وهو ما ينتمي في تصنيفه -إجمالا- إلى “الخوف الاجتماعي” الناتج عن العدوان البشري، لأن النقد في نهاية الأمر هو عملية علمية تعتمد على تحليل عمل أدبي أو فكري (نص) أنتجه مبدع، أو عمل فني (سينما، مسرح، دراما، غناء، نحت، تصوير، عمارة) اشترك في إنتاجه مجموعة من البشر، وكل هذه العملية تتم بهدف الوقوف على الدلالات والمعاني اللغوية وغير اللغوية (الرموز والإشارات) في العمل الأدبي أو الفني، والكشف عن أبعاد البناء الفني، وجمالياتها، والحكم على جودتها وقيمتها وقدرتها على التعبير بالصيغ الفنية أو الإضافة والابتكار للنوع الأدبي أو الفني (التجريب والتجديد)، وهو ما سيتحكم بدوره في توجيه ذائقة التلقي، وبالتالي فإن عملية النقد إجمالا عرضة لتدخل الخوف فيها، وبخاصة خوف الناقد في ظل تطور حياتنا المعاصرة، وآليات تداول الثقافة فيها، وفي ظل الأزمات المتعددة التي يواجهها النقد مما زحزح مكانته للوراء.
فحتى زمن قريب، قبل سيادة فلسفات التفكيك والسيولة (الانتقال من الصلابة الممثلة في الأسس والقواعد والقيم والتقاليد إلى السيولة والميوعة)، كانت عمليات النقد تحتكم إلى نظريات ومداخل، حكمتها أطر علمية وأسس منهجية، مثل “نظرية الأدب” وما أنتجته من مناهج نقدية يتم تصنيف منجزها في ثلاثة حقول كبري، ترتبط بالوسيط الثلاثي المشترك في كل الآداب والفنون، وهي المرسل (المؤلف)، والنص (سواء أكان مكتوبا أم مسموعا أم مرئيا)، والمتلقي أو مستقبل العمل.
وبالتالي كانت هناك مناهج ومداخل نقدية تتعلق بالمرسل، منها المنهج النفسي في تحليل الآداب والفنون، والمنهج الاجتماعي، والمنهج التاريخي، وكانت هناك مناهج تتعلق بالنص، منها البنيوية والأسلوبية والتفكيكية، ثم مناهج تتعلق بالتلقي، مثل النقد الثقافي والنقد الأيديولوجي والنقد البيئي، وهكذا.
الخوف النقدي، حالة تصيب النقاد والباحثين في عصرنا الحاضر، فتعيقهم عن إبداء رأيهم النقدي، وكذلك حالة الخوف التي تصيب المبدع فتعيقه عن حرية الإبداع
وعبر ذلك جميعه كانت لهذه المناهج إجراءات نقدية يتم الاحتكام إليها في تحليل وقراءة الأعمال الأدبية والفنون، وهو ما كان يمنح النقد سلطة في الحكم على هذه الأعمال بالجودة من عدمه، وسلطة في تحليلها والكشف عن جمالياتها من منظور المدخل النقدي الذي يتم تبنيه، وكلما كان الناقد متمكنا من أدواته تأسست مكانته في هذا السياق، فشاعت في النقد العربي تحليلات طه حسين النقدية ودعوته للنقد الحضاري، وقراءات غنيمي هلال من منظور الأدب المقارن، وتحليلات عز الدين إسماعيل من منظور النقد النفسي، وإسهامات شكري عياد من مدخل النقد الحضاري والنقد الأسلوبي، وكتابات سيزا قاسم في تبني التحليل السردي، والسيميائيات، وغيرهم.
لكن في العقود الأخيرة، ومع تزايد هيمنة فلسفة السيولة بما أقرته من تأكيد على الحرية الفردية والسعي نحو التحرر من أي شيء وكل شيء، تم نقل السلطة من هيمنة العلم إلى هيمنة التلقي -كما تكشف عنه دراسات السيولة والهمينة ومجتمعات ما بعد الحداثة-، وتحول النقد من مفهوم “العلمية” إلى مفهوم “وجهات النظر”، ومن مفهوم القراءة المنظمة علميا، إلى مفهوم القراءة التأويلية الحرة (وليس التأويلية بالمفهوم العلمي الهرمنيوطيقي)، وغدا الناقد الجاد يعرف “الخوف” للمرة الأولى بعد أن كان يمتلك سلطة الحكم على العمل الأدبي أو الفني بشكل أو بآخر، وبعد أن كان هو العين المستبصرة المحللة لنصوص هذه الأعمال والكاشفة عن أبعادها.
وقد تأسس هذا الخوف انطلاقا من سيادة “الجهل الجديد” كما استعرضته دراسات توما دو كونانك وأوليفيه رووا، ومن هيمنة “الخفة والتفاهة” كما بحثها آلان دونو وغيره، ومن اعتماد فلسفة السيولة بديلا عن الصلابة، كما ناقشته أعمال زيجمونت باومان الخمسة، ومن سلطة الإعلام البديل كما استعرضته ليا ليفرو وغيرهم ممن نددوا بانحرافات مسار البشرية في عصرنا من أمثال أمين معلوف وسمير أمين وإدوارد سعيد وديفيد رجل الكهف وغيرهم.
كانت عمليات النقد تحتكم إلى نظريات ومداخل، حكمتها أطر علمية وأسس منهجية، مثل “نظرية الأدب” وما أنتجته من مناهج نقدية يتم تصنيف منجزها في ثلاثة حقول كبري
فعلى سبيل المثال.. حتى سنوات قريبة كان العرف المتبع في أي مناقشات فكرية أو نقدية – ينشأ فيها اختلاف في الرأي- أن يتم الاحتكام للصلابة، أي للعلم ونظرياته ومداخله المتعددة.. وهي المنهج النقدي هنا بما يشمله من ضبط للأسس العلمية والنظرية، ومنجزات البحث والجهود العلمية المبذولة في هذا المنهج، وصولا إلى آخر المستحدثات والمستجدات، مع مراعاة مرونة هذه الأسس بما يتناسب ومرونة الآداب والفنون واعتمادها التجريب على الدوام، وهو ما يجعل النقد يتطور (كما أن العلم يتطور)، ويجعله قابلا لتغيير الأطر الأساسية فيه لكن بشرط التأسيس لمنهجية بديلة تمتلك منطقها، وقادرة على الإقناع، وتتحقق فيها الواقعية للتطبيق، وتقبل الجدال في ذات الوقت، انطلاقا مما أقره العلم بأن “أي فرضية لا تقبل الدحض، هي فرضية زائفة من الأساس”.
وفي سياق ذلك كله كان من المعروف والثابت لأي عقل يمتلك أدنى قدرات الوعي والعلم، أنه توجد فروق شاسعة بين وجهات النظر المحتكمة للخلفيات العلمية والمعرفية، ووجهات النظر المحتكمة للمعرفة القشرية المحدودة، كأن يكون صاحبها مثلا قد اطلع على أوليات هذا التخصص ولا يعرف تطوراته ومستجداته النظرية والتطبيقية الآن.. وهنا يتحقق الخوف عند الناقد الجاد والباحث الجاد في مواجهة سيادة الخفة والتفاهة والجهل الجديد، الذي غدا اليوم يتقول ويقول ما يشاء بدعوى أنه يمثل وجهة نظر، وأنه من حق الجميع احترام واستيعاب وجهات النظر، حتى لو كانت مغايرة (قبول الآخر المختلف).
وإذا كانت الثقافة العربية قد عاشت عقودا تعاني من هذا الفريق الثاني أصحاب المعرفة القشرية، وحجم ما ارتكبوه من تضليل الوعي العام ونشر الجهل باسم العلم، فإن ما يحدث الآن هو نوع ثالث لم يسبق للبشرية أن عاشته، وهو نسف الأسس العلمية تماما تحت مسمى وجهات نظر.. وهو ما يندرج على النقد، وخوف الناقد بصيغه الجديدة التي ظهرت، وبخاصة مع تمثيل هؤلاء لما يشبه اتجاها غدا يشمل كثيرين من الذين اجترأوا على ممارسة النقد دون خلفيات علمية أو معرفية كافية، ومن الذين يدعون لاحترام مفهوم وجهة النظر، لكنهم إذا تعرضوا لنقاش يقتضي الموضوعية في الطرح فإنهم يحولونه لمعارك شخصية يحشدون لها ما يقدرون عليه، وهنا يتحولون هم لسلطة تخويف تردع الناقد الذي يحترم مكانه ومكانته.
مع هيمنة فلسفة السيولة بما أقرته من تأكيد على الحرية الفردية والسعي نحو التحرر من أي شيء وكل شيء، تم نقل السلطة من هيمنة العلم إلى هيمنة التلقي
ثم يأتي شكل ثانٍ من أشكال الخوف النقدي، متمثلا فيما يطلق عليه “النقد الأكاديمي” الذي لا يفرق من البداية بين تدريس النقد (أستاذ النقد)، واحتراف النقد (الناقد)، فليس كل أستاذ يعطي دروسا في تاريخ الأدب والنقد، هو ناقد، وليس كل مشرف على رسالة بحثية في تخصص الأدب والنقد هو ناقد، وليس كل باحث يدرس موضوعا علميا في التخصص هو ناقد.. وهؤلاء جميعا من المشتغلين بتدريس النقد دون ممارسته، يمثلون الآن سلطة تمارس التخويف على الآخرين من أجيال الباحثين والنقاد الجادين، ويهاجمونهم إذا لم يسيروا على دربهم المدرسي الذي لا يستطيع التذكر أن كل نظريات ومداخل وممارسات النقد – عبر التاريخ- جاءت من خارج المؤسسة الأكاديمية وليس من داخلها، بدءا من حلقة براغ اللغوية، ومرورا بالشكلانية الروسية، وانتهاء بالدراسات الثقافية المعاصرة.
والأمثلة في المؤسسة الأكاديمية -الكليات والمعاهد والجامعات- كثيرة، يمكن الوقوف عليها في الصيغ البائدة لتدريس النقد وممارسة سلطة التخويف لكل من يحاول الخروج على هذه الصيغ، وبالتالي في تخريج أجيال هي أبعد ما تكون عن النقد، لكنهم يحملون لقب “نقاد”.
كما يمكن الوقوف عليها في تيارات الهجوم على التوجهات النقدية الجديدة ومنع الباحثين والنقاد المتنورين من دراستها، واستخدام سياسات التخويف ضدهم (بحجة المحافظة على العلم والانتصار له)، وقد شهدنا ذلك كثيرا في الهجوم الذي تعرض له كل من حاول الدراسة النقدية المبكرة للأشكال الأدبية الجديدة عند ظهورها، مثل قصيدة النثر، والرواية الجديدة، والقصة القصيرة جدا، والقصة الومضة، وغيرها، كما شهدناه في الهجوم على كل من حاول التحرر من سلطة المنهج النقدي المستورد والالتزام بحرفيته، والأمثلة على ذلك عشرات من حولنا.
ويمكن الوقوف -أيضا- على هذه الأمثلة في الاتجاهات الرجعية لمحاولة ربط مفاهيم الحداثة وما بعدها بالعودة إلى التراث والتوقف عنده فقط دون محاولة تطويره، والضرب عرض الحائط بكل الفلسفات التي تكامل فيها السياسي بالاقتصادي بالاجتماعي بالميديا المعاصرة والتي أسهمت جميعها في إنتاج هذه المفاهيم، وبالتالي فإن القراءات النقدية الناتجة عن كل ذلك تنحرف عن مساراتها، بل تكون مضللة ومفسدة للنصوص، ومرتفعة بقيمة نصوص غثة على حساب النصوص الجيدة، وعند التصدي لذلك أو محاولة تبيان الخلل، تتم ممارسة سلطة التخويف ضد الناقد باسم “الانتصار لقيم التراث” الذي هو الأصل والهوية (وهذا من قبيل كلمة الحق التي يراد بها باطل) !
وهناك شكل ثالث وجديد من أشكال الخوف النقدي الآن، وهو المرتبط بمستجدات الميديا وتدخلها في تلقي الأعمال الأدبية والفنية، وبالتالي اعتماد الحكم على جودة هذه الأعمال من عدمه بمدى شيوعها وانتشارها وليس بقيمتها الفنية أو الجمالية، فهنا، وعبر ذلك جميعه يمكن شرح الخوف الذي يعيشه الناقد بالمعنى الذي نشير إليه..
فالخوف غدا يواجه الناقد الجاد والباحث الجاد عندما تحيطه وتواجهه ثقافة المجاملة التي لا تميز بين الغث والثمين إلا بمعيار المصلحة والاستفادة، وبخاصة مع تعدد وسائل النشر عبر وسائط التواصل الاجتماعي والمدونات وصفحات الفيس بوك ومنصات التواصل المجانية مثل الزوم والمايكروسوفت تيمز التي تسمح باجتماع وتجمع الهواة لمديح عمل أدبي أو فني، وهو ما عززه في الواقع شيوع ثقافة النقد الاحتفائي الاحتفالي وحفلات التوقيع المجامِلة.
عاشت الثقافة العربية عقودا تعاني من أصحاب المعرفة القشرية، وحجم ما ارتكبوه من تضليل الوعي العام ونشر الجهل باسم العلم، فإن ما يحدث الآن هو نوع ثالث لم يسبق للبشرية أن عاشته
والخوف غدا يحاصر الناقد الجاد بفعل تراجع الاهتمام بالمضمون والقيمة، وتسييل العالم بمعطياته وأفكاره لصالح الميديا والسوق وظواهر الأكثر مبيعا “البيست سيلر” وغيرها من مستجدات العصر، وكل ذلك حدث نتيجة للوقوع في فلك استيراد المناهج والمداخل النقدية الغربية التي تحلل الإبداع والفن دون الإشارة من قريب أو من بعيد لقيمتها أو مستواها، مثل منجز كل المداخل البنيوية ونموذج جيرارد جينيت وخلافه.. وهنا تراجع دور النقد المحتكم للعلم والعلمية، في مواجهة هذا السيل الجارف من عدم الدراية بأوليات ومقتضيات العِلمية النقدية، وتم خلط الأوراق، فغدت المنهجية والمنهج تهمة بالتخلف والرجعية دون أن يعي المتهمون ماذا يعني المنهج وماذا تعني المنهجية؟
ثم يأتي الخوف الرابع الذي تسبب فيه مفهوم هو في الأساس يمثل مبدأ من مبادئ الإبداع وضرورة من ضروراته، وهو “التجريب” الذي غدا يُساء استعماله عربيا، فانتقل من كونه تحديثا وتطويرا في حركة الآداب والفنون إلى كونه -عند كثيرين- ممارسات لحرية مطلقة في انتهاك مفهوم النوع الأدبي أو الفني وعمل أي شيء في أي شيء دون ضوابط أو شروط، وهو ما أخل بالأدبية والفنية في إجمالها.
فماذا يفعل المفكر والناقد الجاد في مواجهة كل ذلك من أشكال الخوف؟ هل يعتزل الحياة ويكتفي بقلمه ونشر فكره في الجهات التي تسمح له بذلك – وما أقلها- ؟
فعلى سبيل المثال فيما يتعلق بالسرد (الروائي والقصصي والمسرحي)، من المعروف أن الحكاية هي البنية الأساسية التي يدور حولها السرد، انطلاقا من مفهومه الذي يعني طريقة الحكي، أو الكيفية التي تتم بها الحكاية، ذلك أن الحكاية الواحدة يمكن حكيها بعدة طرق ومن مناظير مختلفة ومن نقاط بداية مختلفة، وزوايا مختلفة كذلك.. لكن أن نجد – تحت مسمى التجريب- كتابات لا تضمها حبكة ولا تشتمل على حكاية وليس فيها تنامي أو تصاعد درامي وتفتقر لغتها إلى أدنى مستويات اللغة الأدبية، بما يخل بالسرد والتجريب معا.. وحين يتوقف النقد أمام ذلك لمحاولة تحليله والكشف عن أبعاده، يتم الهجوم على الناقد واتهامه بالرجعية والتخلف والحكم عليه بالإقصاء، لأنه يقف في طريق ومسارات التجريب.
أليس هذا ممارسة من ممارسات التخويف، التي قد تجعل الكثير من النقاد يحجمون من البداية عن إبداء رأيهم العلمي في الأمر من أساسه، وقد سألت بنفسي نقادا كبارا في الوطن العربي، بعضهم رحل عن عالمنا وبعضهم ما يزال حيا: لماذا لم نر لهم في حياتهم مرة واحدة نقدا لعمل إبداعي أو فني يكشفون فيه عن جوانب القصور مثلا أو ينتقدون مسلكا أو اتجاها كان يمكن تداركه من البداية لو تصدوا له؟، فكانت إجاباتهم جميعا تدور حول خوفهم على مكانهم ومكانتهم وخشيتهم الإقصاء عن وسائل الإعلام وجوائز ولجان التحكيم والفعاليات والمؤتمرات، لأن المجتمع الثقافي لن يتقبل المتشددين في أحكامهم النقدية، وإنما، وعلى حد قولهم: ابحث عن الجوانب الإيجابية فيما تحلل وتحدث عنها، ولا داعي من أساسه للتوقف أمام الجوانب السلبية..
الخوف يحاصر الناقد الجاد بفعل تراجع الاهتمام بالمضمون والقيمة، وتسييل العالم بمعطياته وأفكاره لصالح الميديا والسوق وظواهر الأكثر مبيعا “البيست سيلر“
هذا التوجه -الذي لخصناه سريعا- هيمن على الحالة النقدية منذ منتصف سبعينات القرن الماضي وصولا إلى مراحلنا الراهنة، ويمكن في ذلك مطالعة المدونة النقدية العربية بحثا عن أي ممارسة نقدية توقفت أمام أي نص لمحاولة تحليله كشفا عن مواطن ضعفه أو إخلاله بالأصول الأدبية والفنية.. ثم يزداد الأمر سوءا مع ما أسهموا فيه جميعا من تراجع في كثير من الفنون والآداب بمنحهم الجوائز لبعض الأعمال الرديئة، واتباع نهج المجاملة، ومراعاة المصالح الخاصة، ومنه مثلا ما حدث من انحراف للشعرية العربية مؤخرا بسبب مشاركتهم وتكسبهم من وراء سقوطها في فخ الإيقاعية الرنانة الخالية تماما من المضمون والمعنى والقيمة في كثير من النماذج التي يطلق عليها “العمودية الجديدة” والتي تصفق لها عموم الجماهير في الآن نفسه، لأنها راجت وانتشرت عندما لم تجد من يكشف عن خوائها.
ألم يكن خوف النقاد من سلطة دعاة التجريب غير المقنن، والخوف على شواغلهم، هو المتسبب الأول في مثل هذه الممارسات النقدية التي أساءت للآداب والفنون العربية، ولم تميز على أدنى تقدير -كما يحدث في كل أنحاء العالم- بين الآداب والفنون “الشعبوية” التي يتم إنتاجها من الأساس في سياق التسلية اليومية، والآداب والفنون المعتمدة على الأسس، وأن العالم لا يضع النوع الأول منها في التصنيفات والأنواع الأدبية والفنية، ولا يجعلها تزاحمها كما يحدث في واقعنا العربي، التي نجد فيها الكتابة البوليسية وكتابة الرعب تنافس الكتابة السردية الفنية، على الرغم من أن (البوليسية والرعب) تقع خارج تصنيف الآداب عالميا، فلم يحدث يوما أن كانت روايات أجاثا كريستي وأرسين لوبين داخلة في التصنيف مع أعمال شكسبير وهوجو وديستويفسكي.
وهل هناك غير الخوف، هو الذي منع النقاد العرب في العقود الأخيرة من أن يقولوا كلمتهم ويؤكدوا – دون خوف- على أن التجديد في أساسه وعي ودراية تامة بالأسس، ومن ثم امتلاك القدرة على التطوير فيها ومخالفتها، وهو ما قامت عليه كل حركات التطوير والمغايرة عبر التاريخ، وأما ما عدا ذلك فإنه لا يعول عليه، حتى لو حقق البيست سيلر أو نال التصفيق والاستحسان، ذلك أن معيار الانتشار ليس هو المحك، وهو ما يمكن التدليل عليه بظواهر الفن والأدب في ثمانينات القرن الماضي التي حققت الانتشار والشهرة ولكنها اختفت بعد قليل من الزمان، في حين بقي الكثيرون ممن أدركوا أصول الفن واستطاعوا التجديد.
ليس كل أستاذ يعطي دروسا في تاريخ الأدب والنقد، هو ناقد، وليس كل مشرف على رسالة بحثية في تخصص الأدب والنقد هو ناقد
الأمثلة عديدة في الفنون والآداب والفكر والثقافة، مما كان يمكن للنقد أن يتصدى له لولا الخوف من أو على، وهو ما أوصلنا لما نحن فيه الآن من مجانية في الوقت الذي يحكتم فيه العالم أجمع إلى رؤى واضحة ومنهجيات علمية تعي وتدرك ما تفعل، وتنطلق من فلسفات ومداخل فكرية تضمن وجود الحد الأدنى من مسارات التطور والتجريب والتجديد.
فماذا يفعل المفكر والناقد الجاد في مواجهة كل ذلك من أشكال الخوف؟
هل يعتزل الحياة ويكتفي بقلمه ونشر فكره في الجهات التي تسمح له بذلك – وما أقلها- ؟ أم يشتبك في معارك هو يعرف من البداية أنه سيخسرها لأن صوته هو الأضعف وصوت العموم هو الأقوى؟ وبخاصة في ظل تحول الجميع على شبكات التواصل الاجتماعي إلى علماء ومحللين ونقاد ومفكرين، وكما قالها سقراط منذ عصور ما قبل التاريخ: ديموقراطية العامة غوغاء.
أم هل يسجل الناقد شهادته على التاريخ ويواجه في ذلك مصيره من النفي والإقصاء في واقع يصدق الادعاءات والشائعات ويروجها دون أدنى محاولة للاستيثاق أو البحث عن مرجعيات لتأكيدها أو نفيها؟
وعلى الرغم من ذلك سيظل هناك القليلون ممن يحتفظون لأنفسهم بما يعرفونه جيدا ويعيشون من أجله لأنفسهم فقط: إنه الاحترام وأمانة الكلمة، وهذا هو الأمل المرتجى.
المصدر. مجلة الجسرة الثقافية. العدد: 62