ابتلاء شاب

د.زينب المحمود
Latest posts by د.زينب المحمود (see all)

ما بين أزمة الفكرة، وأزمة الكتابة، قفزت إلى صفحتي هذه حكاية شاب في ربيع عمره، بارٌّ بوالديه، خلوق في تعامله مع أهل بيته ومع سواهم، ولا يكاد المنادي ينادي بـ «حي على الصلاة، حي على الفلاح» حتى تجده يهرع إلى الوضوء، ثم يخطو خطواته ذاكرًا الله، يُسمعُ قرعُ نعليه وهو متجه نحو المسجد المحاذي بيته، ثمّ إذا فرغ من صلاته وأذكاره، عاد إلى بيته فسلّم على من فيه وحياهم تحية طيبة. شاب تخلّق بجُلّ أخلاق المسلم، وسلَّم أهل بيته بوجوده، وسُرّوا بمحياه، هاشًّا وباشًّا، لا يتكلَّمُ إلا بخير، ولا يتعرض لأحد بأي أذى، بل إنَّ قلبه عامرٌ بالقيم والأخلاق السمحة. يقضي وقته مع إخوته متحدثًا بلسانٍ رطِبٍ بقولٍ معروفٍ ليّنٍ. وهو مثالٌ للإنسان المتفوق في أموره جميعًا، فالطهر جوهره ومضمونه، والحفظ ديدنه، سواءٌ أكان حفظًا ماديًّا؛ يحفظ أسرته بغيرةٍ محمودةٍ لا يعكِّر صفوها شكّ ولا ريبة، أم حفظه الأسرار؛ فلا يكاد أحد يودعه سرًّا إِلا كتمه، ملتمسًا النُّبل السامي. إضافةً إلى استحضاره نعمة الشكر في كل حين، ويشهد له من حوله بالصفات الكريمة، والخصال القويمة. فجأةً، يُبتلى هذا الشابُّ بالحزن الذي خيَّم عليهِ كستارٍ مظلم، ادلهمَّ به، واجتاح نفسه البريئة، فلا يكاد يقوى على شيء من أموره، فحارت أفكاره، وغزته وسوسة في أكثر الأمور القريبة من قلبه، وتحديدًا فيما يتعلَّق بدينه الذي استقام عليه، فبات يعيش كابوسًا يرى خيالاته التي تعثَّر بها، فلا يميز الصواب من الخطأ، وفقد همته في المذاكرة بعد أن كان من المتفوقين علمًا وعملًا. إن أبصرته، خلْتَه في صومعته باكيًا، وقد تساورت إليه شكوكٌ صمّاء في كلّ ما حوله، تركَتْه عاجزًا لا يقوى على عيش يومه بثبات ووضوح، ما جعل الحزن يستحوذ عليه سالبًا إياه ابتسامته وصفاءه.

وعلى الرغم من محاولات البذل المستمرة في وجوه الخير، فإنَّ الوساوس الشيطانية بقيت تحيط به من كلّ جانب، لتصبح عذابًا ملازمًا، يستوجب مغفرة الله، ثمّ صار الرجاء بالمغفرة في نفسه لغزًا يحيره، حتى استحكمت حلقات أفكاره المبعثرة، وصار أسيرًا للأوهام التي تحيط به والتي تتقاذفه يمنة ويسرة. إن هذه الحالة النادرة دفعت أهل بيته إلى عرضه على الأطباء، لعلهم يجدون له علاجًا ناجعًا، فشخّصوه بالانفصام والجنون، ووصفوا له دواءً أوهنه وأضعفه جسديًّا، بدلًا من حلِّ مشكلته، وهو رغم ذلك كلّه، بقي محتفظًا برصيد الخير؛ من صلاة وتلاوة، وذكر وغيره، فضلًا عن تعامل كريم مع أهل بيته.

في هذا السياق المربك، يقفز إلى أذهاننا أسئلة ملحّة، مفادها: هل استطاع الشيطان تحقيق مآربه بغرس الحزن والقلق في جسد هذا الشاب وروحه؟ هل حقق تلبيسه عندما عجز عن غوايته في دينه واستقامته! إنّ هدف الشيطان ماثل ومتحقق في هذا الشاب الجميل في كيانه وكينونته، وإن حالته هي مراد الشيطان في كل نفس سوية طاهرة مستقيمة. كم هو مؤلم أن ترى الشيطان يحكم قبضته على شخص يفيض خيرًا وبرًّا، ويسعى إلى الذهاب به نحو المجهول الذي يعجز الأطباء الماهرون عن تشخيصه تشخيصًا دقيقًا، فيميلون إلى الظن والتخمين وفق نظرياتٍ ودراساتٍ قد أثبتها العلم البشري تغليبًا وميلًا وربما ظنًّا.

إنّ مردّ علاج هذه الحالة، وما يشابهها، إلى الله وحده الذي يعلم ما في السموات وما في الأرض، ويعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور. وحينما تعجز حلول الأرض تبقى حلول السماء حاضرة، فلنجعل صيدلية الرحمن خالق الطب والدواء، بكل ما تحويه من حصانة وصيانة وشفاء هي وجهتنا، وعين يقين قرارنا، «فما بين غمضة عين وانتباهتها… يغير الله من حال إلى حال» وإنّ أدعية الشفاء والسبع المثاني تنتظر تفعيلها؛ لتكون أجملَ مصيرٍ في هذه الحكاية، فأمر من نرجوه وندعوه بين كاف ونون. فليكن ما شاء الله أن يكون، وحاشاه جلّ في علاه أن يرد يدي عبده صفرًا خائبتين. فهو حق، والإيمان القطعي بقدرته حق، والإيمان بأنه الشافي المعافي حق. وما اجتمع اليقين بالحق في قلب عبد إلا نجا وسَلِم.

@zainabalmahmoud @

zalmahmoud@outlook.com

**المصدر: جريدة”العرب” 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى