الغزو الثقافي

تختلف أنواع الغزو، لكن التاريخ أثبت أن أكثرها صعوبة في التخلص من آثاره هو الغزو الثقافي، والشواهد المحيطة بنا في دولنا العربية أو في العالم كثيرة، والغزو الثقافي عملية تفرض من خلالها ثقافة مُهيمنة – غالباً من قِبل دولة أو مجموعة ذات نفوذ اقتصادي وسياسي – قيمها وعاداتها وأفكارها على مجتمع أو ثقافة أخرى. يُمكن أن يتم هذا الفرض بطرق مباشرة أو غير مباشرة، من خلال وسائل الإعلام، التكنولوجيا، التعليم، السياحة، التبادل الثقافي، وحتى الضغط السياسي أو الاقتصادي أو الاحتلال العسكري وما يتبعه من شروط هيمنة عن بعد تتبع الانسحاب.
ولعل واحدة من أبرز التحديات هي تآكل الهوية الثقافية للمجتمعات المستهدفة. عندما تُفرض قيم ومفاهيم ثقافية جديدة، فقد يشعر الأفراد بأن تراثهم الثقافي يصبح بلا قيمة أو مُهدداً، مما يؤدي إلى فقدان التميز الثقافي والهوية الفريدة. وهنا يأتي دور القيادة السياسية في هذه الدولة، المجموعة المقاومة في فترات الاحتلال أو المثقفين في كل الأوقات، عبر مقاومة هذه الاستعمار الفكري وتبيان خطره في المجتمع، ولعل نموذج الخليج أحد النماذج الجيدة حيث استفاد من الاستعمار البريطاني على مستوى العلاقات التجارية والاقتصادية ولم يخضع له ثقافياً فحافظ على الدين والعادات والتقاليد الإسلامية والعربية الأصيلة، لكنه كان بشعاً في أفريقيا التي فرضت فرنسا الاستعمارية ثقافتها فأصبحت كثير منها دولاً فرانكوفونية تعاني ضياع هوية أبنائها وصراعهم المستمر مع ذاتهم، ومن المهم التأكيد على أن التغلغل الأوروبي في أفريقيا بشكل رئيسي من خلال بعثات الاستكشاف والتجارة في القرون الوسطى، لكنه اتخذ شكلاً أكثر تنظيماً وتأثيراً خلال القرن التاسع عشر، مع «التدافع من أجل أفريقيا» (Scramble for Africa) الذي شهد تقسيم القارة بين القوى الأوروبية مثل بريطانيا، فرنسا، بلجيكا، ألمانيا، والبرتغال. ولم يكن الهدف من هذا التدافع فقط السيطرة على الموارد الطبيعية والأراضي، بل أيضاً فرض النفوذ الثقافي على الشعوب الأفريقية.
وتأتي خطورة الغزو الثقافي من كونه غير ملموس ويتمثل في الإعلام والترفيه والتعليم، مما يجعله من الصعب مقاومته. يمكن أن يؤدي إلى استبدال اللغة والعادات والقيم المحلية بعادات وقيم أجنبية، مما يُضعف الهوية الثقافية للأفراد والمجتمع، كما أن خطورته تتمثل على تأثيره الأساسي على اللغة الأصلية واستخداماتها وقدرته على خلق صراع مجتمعي مستمر بين من ينبطح لثقافة المستعمر وبين من يتمسك بهويته الوطنية.
وعندما نتحدث عن الغزو الثقافي يجب أن نفرق بين التأثير الثقافي الأمريكي الذي كان الأكثر تأثيراً عن بعد وحرص على ترويج ثقافة الاستهلاك ونشر سلوكيات تساهم في تعزيز العلامات التجارية الأمريكية ونشر صورة أمريكا العظمى في العالم وكانت هوليوود طبعاً هي الذراع الناشر لهذه الثقافة، بينما حرصت فرنسا على أن تكون دولة تغزو ثقافياً كل بلد بحيث تكون الفرنسية لغة رسمية تدرس في المدارس وتستخدم في الأعمال وتكون القوانين الفرنسية في القضاء والاعلام وغيرها من المؤسسات الرسمية في الدولة، بينما حرصت بريطانيا مثلاً على نشر فكرة التحدث باللغة الإنجليزية واعتبارها لغة ثانية في الدول وإن لم تضغط لتكون رسمية حرصاً منها على استمرار العلاقة مع الأجيال المتعاقبة في هذه الدول.
الغزو الثقافي ظاهرة معقدة تحمل في طياتها تحديات كبيرة وتأثيرات واسعة النطاق. في عالم مترابط، يُصبح من المهم أكثر من أي وقت مضى أن نحمي الثقافات المحلية ونحافظ على التنوع الثقافي الذي يُعتبر جزءاً من ثراء البشرية، وهنا من المهم أن نشير أن التبادل الثقافي والانفتاح على ثقافة الآخر بهدف المعرفة والاطلاع وتبادل الخبرات تختلف تماماً عن فرض ثقافة أجنبية تعارض الدين والعادات المرتبطة ببلد ما وتؤدي لانسلاخه الفكري والعملي عن لغته الأصلية.

** المصدر: جريدة”الشرق” 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى