“المقهى”.. زمن متخثر في أقداح الشاي


الجسرة الثقافية الالكترونية

*عطيل الجفال

 

يخرج المتفرّج من مسرحيّة “المقهى” التي عرضت أخيراً على خشبة “مسرح الرافدين” في بغداد، وهو يعرف جيداً أنها تبعث رسالة احتجاج على الوضع السياسي والاجتماعي المتأزّم منذ عقود، وتحاول أن تجمع الزمن منذ تأسيس الدولة العراقية في عشرينيات القرن الماضي حتى اللحظة، بلغة ومشهدية حداثية.

تفتتح مسرحيّة الكاتب والمخرج تحرير الأسدي، التي أنتجتها “الفرقة الوطنية للتمثيل”، بمشهد انتظار متمثل بصوت بندول الساعة وصوت اصطدام الملعقة بقدحي الشاي المتجمدين في يدي الممثلين الجالسين على أريكة المقهى. رائحة النراجيل تملأ قاعة المسرح. هكذا يصبح الجمهور جزءاً من العرض، ويكسر الممثلون الحاجز أحياناً ليشيروا إلى صمتهم بأصابع الاتهام.

يتكئ مخرج وكاتب العمل على الواقع المرير الذي يمرَّ فيه العراق ليؤثث فضاء عرضه المسرحي. فوضى المقهى التي تمثل البلاد متراكمة. سبعة آلاف عام من الفوضى هي نتيجة المزاد الزمني الذي يفتتحه الرجلان اللذان يمثلان الضمير القلق لمجتمع يبحث عن ملامحه، في لحظة، قد تكون هي “الآن” الذي يتوه في الاتجاهات.

يكرر الممثلان الرئيسيان جملة “نحنا ما علينا” التي تجسّد ضمير الشخصيات وصوتها الداخلي. وفي الوقت الذي تبحث فيه الشخصيّات الست عن مؤلف ليرسم ملامحها ويبني علاقاتها مع بعض، يبني الأسدي بينها حواجز من زمن وأدوار اجتماعية ومواقف.

استعارت مسرحية “المقهى”، التي تُعرض في “مهرجان المسرح العربي” في المغرب في كانون الثاني/ يناير المقبل، عدّة حقب سياسية لتدين الحاضر، إذ حاكم العرض سلطة اليوم عبر محاكمة سلطة الأمس، الأمر الذي أعاد إلى الأذهان سلطة الرقيب، في التسعينيات، التي كانت خانقة للأعمال المسرحيّة.

ولا شك أن استعارة المقهى كمكان لأحداث العرض أمر له دلالاته في العراق، فهو المكان الشاهد على عصر الانقلابات والتحوّلات السياسية الكبيرة منذ مطلع القرن الماضي، إذ بدأت الثورات والاحتجاجات منها، بينما تمر المقاهي، حالياً، في أسوأ مراحلها بعد أن فُجّرت أكثر من عشرة منها خلال العام الجاري.

نهاية العرض لا بد أن تكون متوقّعة، فأرائك المقهى تتحوّل إلى توابيت لمرتاديها، ويتحوّل فضاؤه إلى مقبرة. صوت رقّاص الساعة هو نهاية العرض المفتوحة على بدايته، كأن العمل برمته تدوير للفاجعة التي لا تبدأ من نقطة حتى تنطلق مجدداً من ذات النقطة. هكذا ينتقل الزمن العراقي المتخثر في أقداح الشاي إلى رواد المقهى، ليصنع من رؤوسهم رقاصات ساعة متحركة بدلاً من البندول.

 

ـــــــــــــــــــــــــــــــ

العربي الجديد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى