المَسْجِدُ الأَعْظَم .. رُوح قُرْطُبَة / محمد محمد الخطابي ( اسبانيا )

الجسرة اثقافية الالكترونية – خاص –
مختلف المؤتمرات الدّولية المنعقدة حول المدن التاريخية المسجّلة كَتُرَاث عالمي للبشرية جمعاء، تُوصى جميعَ بلدان العالم بضرورة الحفاظ على المباني الأثرية والتاريخية، والمعالم العمرانية والحضارية القديمة التي أعلنت اليونسكو أنّها تراث للإنسانية جمعاء، تُرى هل تمّ إحترام هذه التوصية والعمل بها في مدينة قرطبة الإسبانية وهي المدينة التي إستضافت فى العديد من المناسبات فى تواريخ متفاوتة مؤتمرات،ولقاءات، وتظاهرات من هذا القبيل…؟ هل تمّ إحترامها بالنسبة لأحد أعظم المعالم الحضارية والعمرانية للإنسانية جمعاء الموجود بهذه المدينة وهو مسجد قرطبة الأعظم.. ؟ الجواب ووأسفاه ..لا.
حتّى المَحَارِيبُ تَبْكِي.
وكان مركز فرع منظمة اليونسكو للثقافة والعلوم والتربية الذي يوجد مقره بالأندلس قد عبّر صراحة فى المدّة الأخيرة أنّ مسجد قرطبة الأعظم ينبغي أن يكون مِلْكاً للبشرية جمعاء ، وقد إنضمّت هذه المنظمة إلى مختلف الجمعيات التي تسنكر حيازةَ هذا المسجد الجامع من طرف الكنيسة بثمن رمزي زهيد وهزيل ومضحك وهو (30 أورو..)حيث تمّ بالفعل تحويل هذه المعلمة التاريخية الفريدة إلى الكنيسة ولم تفلح لا صيحات، و لا إحتجاجات، ولا نداءات العديد من الجمعيات الإسبانية لإيقاف هذه المهزلة بما فيها مناشدة وزير العدل الإسباني الحالي ألبرتو رويث غاياردُون الذي لم يحرّك ساكناً فى هذا الإتجاه متواطئا ومتضامنا مع الكنيسة فى حيازتها لملكية هذا المسجد العظيم ، بل إنّ النقاش حول هذا الموضوع كان قد وصل حتى إلى قبّة مجلس االشيوخ الإسباني. وقد عابت بعض الأحزاب الإسبانية على الدولة الإسبانية عدم وضع حدّ للإمتيازات التي ما فتئت تحظى بها الكنيسة الإسبانية حتى اليوم، والتي تعود للقرون الوسطى حيث كانت الكنيسة قد سجّلت ملكية هذه المعلمة الخالدة عام 2006،وحازت ويا للعُجب هذه المعلمة التاريخية المعمارية الفريدة التي تبلغ مساحتها 23.400 متر مربّع ،علماً أنّ هذه المعلمة يزورها ما يقاربُ مليونيْ زائر سنويا مقابل 18 أورو للتذكرة الواحدة للدخول ليلاً إليها،ناهيك عن الزيارات السياحية التي تتمّ خلال النّهار، والتي تذرّ على الدولة الإسبانية أرباحاً ومداخيلَ طائلة لا حصر لها ،
ولقد برّر مركز اليونسكو فى الأندلس دفاعَه عن المسجد كتراث عالمي لكونه إعتُبر دائما شاهدا على نشر وتبادل القيم والمبادئ الإنسانية العليا.هذا فضلاً عن هندسته المعمارية والفنية الفريدة، ورمزيته العميقة، ورسالته الثقافية والتاريخية والدينية الساميه، وبإعتباره بوتقة للمعتقدات والحضارات التي تعاقبت على قرطبة، بناء على هذه المعطيات وسواها فانّ منظمة اليونسكو بإقليم الأندلس إنضمّت إلى النداءات التي تلحّ على الحفاظ على الإسم الأصلي لهذا المسجد هو “مسجد قرطبة” بدل إسم ” الكاتدرائية” الذي أصبحت تُنعت به هذه المعلمة الحضارية اليوم، .
وقبل أن َيفتتح مسجد قرطبة الأعظم أبوابه في وجه السياح ليلاً باستعمال الصّوت والضوء، والتكنولوجيات المتطوّرة الحديثة لأول مرّة ، كانت زيارة هذه المعلمة الإسلامية العظيمة تتمّ من قبل نهاراً فقط. وتستغرق الزيارة الليلية اليوم حوالي السّاعة بإستعمال ثماني لغات حيّة بما فيها اللّغة العربية . ( أهلاً بكم في كاتدرائية قرطبة… ) هكذا تَفتتح المسؤولةُ عن تقديم الشروح والتفاسيرالتي تُقدَّم للزائر . ثم يُبثّ فيديو لمدّة عشر دقائق حول المراحل التاريخية التي عرفتها قرطبة ومسجدها الذائع الصّيت.أوّل صورة وآخر صورة تظهر في هذا الفيديوعند إفتتاحه وعند إختتامه هي صورة الصّليب على أنغام موسيقية ذات طابع كَنَسي غريغورياني.
تراثٌ للإنسَانيَة جَمْعَاء
وخلال التفاسير التي تقدّم للزوّار يُشار إلى المسجد باسم الكاتدرائية. وكانت المستعربة الاسبانية” فرخينيا لوكي” قد أكّدت أنّ هذا يتنافى مع المبادئ التي صادقت عليها” اليونسكو” التي تقرّ بالطابع الاسلامي المحض لهذا المسجد الفريد، حيث كانت هذه المنظّمة العالمية قد أعلنت عام 1984بأنه “تراث ثقافي عالمي للإنسانية جمعاء”. كما عبّر المستشرق الاسباني “أنطونيو شافيس” من جامعة إشبيلية من جانبه عن إستغرابه ودهشته حيث أنه تحت ذريعة إبراز الطابع الإسباني للمسجد تتمّ الإشارة في هذا الفيديو إلي التأثيرات الهلينية والبيزنطية، ولا تتمّ الاشارة الي الطابع الاسلامي لهذه المعلمة التاريخية الشهيرة.كما أنه خلال الجولات الليلية داخل المسجد ، كل التفاسير والشروح تبرز الطابع الكاثوليكي الذي أُقْحِمَ على المسجد، بل حتّى على تذاكر الدخول تتكرّر كلمة الكاتدرائية، أو كاتدرائية قرطبة عدّة مرّات. ويأسف هذا المستعرب كذلك كيف أنّ قرطبة ومسجدها كانا دائما رمزاً ومثالاً للتسامح والتعايش بين الثقافات والديانات في أبهى صورهما على إمتداد التاريخ، ولا يظهر ذلك خلال هذه الجولات الليلية لهذا المشروع الثقافي، والتاريخي، والسياحي الضّخم الذي أطلق عليه إسم (روح قرطبة ) حيث يتمّ التركيز فقط خلال هذه التفاسيرعلى كلّ ما هو معماري ومادي ملموس ،دون إستغوار أو إستبطان أو إستكناه أو إبراز روح هذه المعلمة الخالدة والدور الحضاري، والثقافي، والعلمي، والديني الذي إضطلع به هذا المسجد العظيم الذي طبّقت شهرته الآفاق،منذ تأسيسه عام 785 م ( 92 هجرية)على يد الأمير عبد الرحمن الأوّل الدّاخل الملقب بصقر قريش ، والذي تمّ تجديده وتوسيعه في عدّة تواريخ لاحقة من طرف الأمراء والخلفاء الذين تعاقبوا بعده، أي أنّ هذا المسجد الجامع قائم ومعروف بهذه الصّفة منذ ما ينيف على ثلاثة عشر قرنا. وكان أسقف قرطبة المسمّى “مونسنيور ديميتريو فيرنانديس غونساليس” قد طالب قبل إنطلاق تدشين هذا المشروع السياحي التاريخي إستبدال إسم “المسجد” ب “الكاتدرائية”، وقد أثار هذا التصريح ردود فعل عديدة من لدن مواطنين عاديين إسبان من سكّان قرطبة على وجه الخصوص، وكذا من مختلف شرائح المجتمع الاسباني من سياسيّين، ومثقفين، وكتّاب،وشعراء، ومؤرّخين، ومستعربين وسواهم الذين إستنكروا برمّتهم هذه التصريحات الموغلة في التزمّت ، وإنكماش في التفكير، بل إنّها تصريحات لا تنتمي الى عصرنا بقدر ما تؤوب الي عصور مظلمة غابرة ولّت وإنقضت ، إذ كيف يمكن تغيير إسم معلمة تاريخية ذائعة الصّيت تحمل إسم ( مسجد) منذ القرن الثامن الميلادي إلى إسم آخر.؟
مدينة الظّلال والجَمَال
قرطبة مدينة الجمال والظلال، والألوان والأحلام، والشوارع الفسيحة، والأزقّة الضيقة الناصعة البياض، أشهر المعاقل والحواضرالإسلامية في شبه الجزيرة الإيبرية على إمتداد العصور.
عنها قال شاعر أندلسي مشيدا بفضلها على باقي الأمصار الأندلسية الأخرى أيام عزّها:
بأربع فاقتِ الأمصارَ قرطبةٌ هي قنطرةُ الوادي وجامعُها
هاتان ثنتان و الزَّهراءُ ثالثةٌ والعلمُ أعظمُ شيء وهو رابعُها
ﻫذه المدينة التي كانت تحفل بالمكتبات، وأروقة العلم، و بيوت الحكمة، كانت تزيّن خزانة «الحَكَم المُستنصر» بها (861-976 م) أزيد من أربعمائة ألف مخطوط. شوارعها، أزقتها الضيقة الصامتة المرصوفة بالحجارة تنبض بالحركة والحياة، كل ركن من أركانها يعانق التاريخ. صمتها يشيع السكينة والطمأنينة في النفوس، و يبعث على التأمل وإعمال النظر، نافوراتها التي تقذف المياه العذبة البلّورية الصافية التي تـتـفجّر من الينابيع القديمة، و تنشر السعادة والحبور والرذاذ المنعش في كل مكان، هذه المدينة الساحرة عنها يقـول شاعرها الكبير” لويس دي غُونْغُورا”( 1561-1627) :
آه أيها الجدار الشامخ …..آه أيتها الأبراج المتوّجة
بالشرف و الجلال و الشهامة …أيّها الوادي الكبير
إرث الأندلس العظيم … ذو الرمال النبيلة
التي لم تعد ذهبية ! …أيها السّهل الخصب
أيتها الجبال الشاهقة …التي جلّلتها السماء
و أكسبها المساء لون الذهب.. آه يا بلدي المجيد
بالأقلام و السيوف.. بين تلك المعالم والمآثر
التي يزيّنها نهر شَنيل.. ويغسلها نهر الدارّو
ذاكرتك ليست غذائي.. وعيناي الغائرتان ليستا جديرتين
برؤية جَمالك، و جِدارك، و أبراجك.. وأنهارك وسهولك وجبالك
آه يا بلدي يا زَهرة الأندلس**.
إنّ الشاعرعندما يتحدّث عن الجدران والأبراج، لابدّ أنه رآها بأمّ عينيه في هذه المدينة التي هي مسقط رأسه، إلا أنه لم يعد لها وجود ، ومن شأن ذلك ان يضاعف من مقدار شعوره بالألم والحسرة والمرارة.، وهوعندما يتحدّث عن السيوف لابد أنه كان يفكر في أبطال هذه المدينة ذات الروح والجسد العربيين.
وعندما يتحدّث عن الأقلام ، فلابدّ أنه كان يفكربعلماء هذه المدينة وشعرائها، وفقهائها، وحكمائها، وفلاسفتها بدءا بالعهد الإسلامي المجيد حتى العهد الرّوماني القديم للمدينة أيّ وصولا إلى فيلسوفها وحكيمها” سِنيكا.”
بيزنطة الغرب
كلّ شيء في هذه المدينة يذكّرنا بعصر الخلافة إبّان مجدها في القرن العاشر حيث كانت قرطبة تعتبر بيزنطة الغـرب في ذلك العصر، و كانت اللغة العربية في ذلك الوقت تُعتبر بمثابة اللغة الانجليزية في عصرنا ، ولا شك أن عظمة هذه المدينة تأتي من عظمة مسجدها الأعظم.وعبقرية المكان الذي بنيت فيه هذه المعلمة الخالدة، يقول” ميشيل بوطور”: “إنه من سَخف الأقدار أن يعمل الإنسان على إضفاء الطابع المسيحي على المسجد وهو ذو طابع إسلامي محض، إنّ ذلك في نظره بمثابة إختراق رمح أو خنجر لقلب مؤمن تقيّ ورع، إن الإضافات التي ألحقت بالمسجد كانت من السّخف حتى أمست أضحوكة في أعين كل من زار هذه التحفة المعمارية الفريدة ، فقد أقحمت كاتدرائية في قلب المسجد التي تبدو وكأنها غارقة في غابة من الأقواس والأعمدة ذات الرّونق العجيب التي شيّدت بأشكال هندسية بديعة تحيّر الناظرين، وقد أصبحت هذه الكاتدرائية الدخيلة كحجرة وقد رمي بها وسط غدير جميل فغطتها المياه..! إنها تحول دون رؤية جمالية البناء، والاستمتاع بسحره، وروعته، وجلاله، إنها تبدو كفقاعة من ملل تفسد هيبة المكان.”
إنّ الندم والتأسّف لابد أنهما قد صاحبا العديد من سكان المدينة من القرطبيين على إمتداد التاريخ حكّاما كانوا أم مواطنين عاديين ، من جراء محاولات إفساد أجمل معلمة حضارية في مدينتهم، بل أجمل المعالم التي شيّدتها يد شريفة في التاريخ.
الملك الاسباني” كارلوس الخامس” (1500-1558) هوالذي سمح من بعيد ورخّص ببناء هذه الكاتدرائية وسط المسجد الجامع، و لكنه عندما حضر إلى قرطبة وقام بزيارة المسجد لأوّل مرّة ورأى النتيجة، نتيجة الصراع. إستشاط غضبا و لم يكن في وسعه إلاّ أن يعلن هـزيمة الحزب الذي ساند وأيّد، سجّل له ذلك التاريخ في كلمات مأثورة، ومشهورة، ومؤثّرة في هذا المقام، قال: ” ويحكم ماذا فعلتم ؟! و الله لو كنت علمت بما كنتم تنوون القيام به لما سمحت لكم بذلك، لأنّ الذي شيّدتم هنا يوجد في كل مكان، و أمّا الذي كان موجودا هنا، فهو فريد وليس له نظير في أيّ مكان”… !
الشاعرالأندلسي أبو البقاء الرّندي فى نونيته الشهيرة التي مطلهعا : لكلّ شئ إذا ما تمّ نقصانُ …فلا يُغَرُّ بطيب العيش إنسانُ ، صدقَ عندما قال فى آخر بيت من هذه القصيدة : لـمثل هـذا يذوبُ القلبُ من كمدٍ …. إن كـان فـي القلبِ إسلامٌ وإيمانُ .
————————————————————————-
كاتب من المغرب،عضو الأكاديمية الإسبانية الأمريكية للآداب والعلوم (كولومبيا).*
** أبيات الشاعر ” لْوِيسْ دِي غُونْغُورَا” من ترجمة كاتب هذه السطور عن الاسبانية.