الهامش .. متن غارق في التأويل / محمد أبو عرب

الجسرة الثقافية الالكترونية – خاص – 

*الحذاء

 

لم تتوقف البشرية عن تكريس الحذاء في الذاكرة الجمعية بوصفه مرموزا للأدنى والأسفل، حتى بات في الثقافة العربية شتيمة لا يتذرع البعض عن نعت الأشخاص بها ليشير بذلك إلى قيمته المتدنية وقذارته الأخلاقية وغيرها من الدلالات التي لا يوجد لها مبرر سوى الذاكرة الجمعية التي نشترك بها ولا نتساءل يوما من وضع حجر الأساس فيها. 

في غمرة ذلك يجد الواقف على الطرف البعيد من هذه الفوضى أن الحذاء حمّال دلالات شاسعة يمكنها أن تعيد الاعتبار إليه بوصفه “شيء” ذو مقام مهم، فالحذاء في اللغة يعود في جذره إلى الفعل حذو، وهو بمعنى سلك في طريق أو مشى في مسلك معبد، ومنه قولنا (هذا مثال يحتذى به) أي يمكن السير على طريقه أو نهجه. 

وهنا يبدأ الحذاء يأخذ طريقه نحو مساحة أخرى، أي نحو فضاء تأويلي جديد، إذ يصبح تكثيفا لفكرة النهج، واختزالا للمسار المرتبط بالمشي، والتفكير، والمضي في المشروع، بكل ما تشير إليه المفردات من معان.

ربما لا يلتفت الكثير من المتوقفين عند تاريخ الأشياء وتتبع سيرتها كرونولوجيا، إلى أن الحذاء أخذ دلالته الجاهزة هذه (الدونية) مما يترسب في أذهاننا حول العلاقة المتأصلة للأسفل والأعلى. 

وهذا يشرع بابا شاسعا على العلاقة بين العلوي والسفلى بكل ما يتجلى له من أشكال، جغرافية، فكرية، دينية، سياسية، قومية، عرقية، ..الخ.

لهذا يدخل الحذاء في مساحة أكثر شساعة، تثير تساؤلات لم يعاد الإجابة عليها منذ بداية البشرية، فالحذاء هنا صيغة مواربة لكل ما يركن في الأسفل، والسؤال يبدو ضرورة هنا: فمن قرر أن العلوي أفضل، وأسمى، وأقدس، وفي المقابل من قرر السفلي أرذل، وأدنى، وأبأس، وأحقر؟

الإجابة ستظل رهن الرؤية، فربما ذلك كله نتاج علاقة البشري مع السماء: تلك المساحة التي ظلت عصية على الوصول، ومصدرا لما هو غيبي، مقابل الأرض: البقعة الملموسة القريبة من الحواس، ومصدر الفاني، والمادي.

أو ربما هذا عائد إلى المخيال الأسطوري أو الديني الذي أورث البشري علاقة واضحة المعالم بين الأعلى والأدنى، فعلى صعيد المنظور الإسلامي لسرد سيرة الوجود البشري على الأرض، يقول الله تعالى في القرآن، بعد أن يروي الخطيئة التي استحق على أثرها آدم العقاب؛ “قال اهبطا منها جميعا بعضكم لبعض عدو”. 

وكذلك الحال في الكتاب المقدس “الإنجيل” إذ تسرد الحكاية كما هي في النص القرآني مع زيادة في التفاصيل والتأويل، فيرد: “ملعونة الأرض بسببك، بالتعب تأكل منها كل أيام حياتك، وشوكًا وحسكًا تنبت لك وتأكل عشب الحقل. بعرق وجهك تأكل خبزًا حتى تعود إلى الأرض التي أخذت منها، لأنك تراب وإلى تراب تعود”.

والحال ذاته في النص التوراتي، من حيث فكرة الهبوط، والنزل إلى الأرض، ففي النصوص الثلاث ترد الإشارة واضحة في توصيف الهبوط، سواء أكانت في ظاهرة في اللفظة أو مستترة في السياق.

ويتجلى هذا التحديد الصارم اتجاه العلاقة بين الأعلى والأسفل في النص القرآني تحديداً، فمنذ استخدام فعل “الهبوط” مع آدم، حتى قصص الأنبياء والرسل، فالهبوط أو النزول سواء على الصعيد الجغرافي أو القيمي، أو المعرفي، هو توصيف للعلاقة الجاهزة والصورة المرسومة، للأدنى، بمعنى الأقل، والأحقر، والأفقر، والأبأس، والأرذل، وغيرها من التوصيفات. 

يحيل هذا التوصيف إلى النظرة التي لم يتوقف التأكيد عليها وزرعها في الوعي، واللاوعي الجمعي، فإن كان المجتمع يوصف بأنه جسد واحد، فمنزلة الجزء العلوي فيه هي منزلة السلطة، ومنزلة السفلي منه هي منزلة المسحوقين والكادحين.

ليس ذلك ما يمكن للحذاء أن يثيره، فالحذاء شاسعاً بالقدر الذي يصبح فيه تكاثفاً للهوية، إذ يتنوع شكل الحذاء وتصميمه بصورة يمكن من خلالها استكناه، هوية الجسد الذي يرتديه، فلا يمكن لعاهرة في نادٍ ليلي أن ترتدي حذاءً عسكراً بساق طويل، وكذلك الحال بالنسبة للاعب كرة القدم، فمن غير المعقول أن يجري في مستطيل أخضر بكعب عالي. 

انطلاقاً من هذا وذاك، فإن الحذاء، صار صورة واضحة عن هوية الجسد الذي يرتديه، وربما هو انعكاس لما يجري في أعلى الجسد، أي في الرأس، فالعلاقة بينهما شائكة للحد الذي لا يمكن الفصل فيها، وباتت من الممكن القول: “قلي ما شكل حذائك، أقلك من أنت”. 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى