حسام الدين محمد يكتب السيرة شعراً

الجسرة الثقافية الالكترونية
*محمد المطرود
المصدر: الحياة
ينحو الشعر بفعل صانعيه لأن يكون مغامرة، فكل شاعر حقيقي، غير موهوم، هو مشروع حياة بتقديمه اجتراحات، تكون بدائل عن السقطات النفسية والوجدانية، تلك التي تصيب مجموع الإنسان وليس الشاعر فحسب. ولينجو هذا الكائن ومعه خلاصه الفردي، ومن ثمّ مساهمته في تخليص المجموع، وهو عموماً محاولة غير مفكّر فيها، لأنَّ الشاعر ينظر إلى قصيدته كفعل خارج منه عليه، وهو «قضية بحد ذاته»، على الأقل وفق تعبير الفرنسي رينيه شار، فإنَّ هذا «الصانع»، الكائن المخلّص يسعى إلى أن يكون كائن اللغة، ولغته تقربه من لا شعور يسكنه، ومن وسط يحيط به، ويشكل ذاته المشروخة إلى نصفين: ذاته الشاعرة وذاته الإنسان. من هنا، تأتي مغامرته المفكّر فيها فيما لو نزلنا إلى قاعه وحاورنا تلك القاع، لنعرفَ الطرائق والصياغات والقدرة على تدويرِ المستهلك والمُقال.
أقدّم لكتابتي بهذا الكلام الأشبَه بالتنظير، لا سيما أني أقرأ عملاً، فيما لو تطرقتُ إلى عتبتهِ النصية، سأجدُ مخاتلة ومواربة في اقتناص المتلقي، وجره للبحث، واستبيان العلاقة بين عنوان مكوّن من مبتدأ وخبر وآخر ثانوي، يعرّف بالصنعةِ ويدلُّ عليها، كما لو أنَّ هناك خوفاً أكبر من المخاتلة، والتي تتم عن سابق علم ومعرفة. قارئ «مكحلة مسمومة» لن يذهب في المتن، ليصدّق مَسعىَ العنوان، فالمكحلة تحيلُ إلى العين، أما مكحلة مسمومة كشبه جملة، تحيلُ إلى فعل وقائعي – جنائي، وهو ما لا يمكن تلمسهُ بالقراءة المجردة في النصوص الحاملة أسماءً – بدورها – تحيلُ إلى الواقعي لا المتخيّل، إلّا إذا أسلمنا ببدهية العلاقة بين العين والمكحلة، وكانَ الصانع هنا الرائي، وعينهُ هي الساردة. وهذا يتبدّى بوضوح في المشهد أو لنقل المشاهد – الصور، التي تحيط بالمكان والزمان، وتعطيهما دلالة واضحة من خلال سينمائية الأحداث وتجسيدها، لتكون حية ومعاشة، وتفاصيلها تقترب من التصديق. بل تلتقي في أحايين كثيرة مع قصص أبطال آخرين، ربما يكون المتلقي بطلاً، ويجد نفسه بكثافة في مفصل ما، ولعلي أشرتُ أيضاً إلى عنونةٍ فرعية – ساندةٍ، وهي بالتأكيد محاولة للتخلص من وسم النصوص بجنس أدبي محدد، (سيرة شعرية في ست حركات)، هكذا جاء الثانوي، ليدغم السيرة بالشعر، ويعطي للنصوص التي أخذت طابعاً قصصياً مرتبة أعلى بشعرنتها، بحيث يتم اختراق الجنس، كما تمَّ اختراق الشخصياتِ المؤنثة في الحركات. فستيلا المومس موضوع شعري أكثر مما هي المشتهاة وأسُ حرب بين السارد وصديقه. وإضافة إلى اشتغال النص أو مجموع النصوص على مخالفةِ الذهنية أو الانطباعِ الأولي بأنَّ استعراضاً للفحولةِ يسرح ويمرح على حسابِ الفنيةِ بمعناها التقني بالذي يخص التراكيب والمعالجة الدرامية للحدث وبالذي يخصّ قيمَاً وجوانيات، تبينها الحركات الست بأسماء (الستات) وتظهر أيضاً عقل السارد، هذا الشرقي المقبل من حارة في دمشق إلى ممكنات أوروبا وصدماتها، من الصدمة الحضارية إلى الصدمة بموت الروح في البرودة طقساً وناساً.
مكان وثقافة
الجميل أنَّ الكاتب هنا لا يحمل رضاً نفسياً، يُقرأ ذلك من خلو النص من النجوى المجانية أو الشكوى، ربما قلل من ذلك أنَّ بطلات «مكحلة مسمومة» فيهنَّ التي لم تتغاير عن السارد مكاناً بوصفهن عربيات أو تلك الأوروبيات بعلاقتهن الوثيقة بالعربية مكاناً وثقافة، ما جعل حدة الصدمة أخف إن وجدت أصلاً.
حسام الدين محمد و«مكحلة مسمومة» مغامرته، تأتي على منحيين في كتابه الصادر عن دار نون 2013:
1- العتبة النصية من الغلاف الأول في عنوان رئيسي وآخر ثانوي ولوحة الغلافلعدنان فرزات وكتابة على الغلاف الأخير، تشير إلى ما ذهبت إليه عن التوازي بين الشعر والسرد، أو ما تمكن تسميته بشعرنة السرد وسردنة الشعر.
2- المتن وعملية الإخراج، إذ يلحظ وجود النص السردي بعلامة الاسم ستيلا أو أوفيليا أو هيلين وساندرا أو عايدة أو ميرفت وكريستيانا إلى جانب النص الشعري الخالص كفراقيات ورأوك فيما يرى اليائس وزرّ الوردة وسيف دمشقي على نخب لايبزغ، ويمكن القول أن هذا الشعري الخالص يتوازى مع السردي المشعرن الحامل قصته، خالقاً نوعًا من التوازن وضابطاً الخلخلة التي أحدثها الالتباس أو التحايل المتعمّد من السارد في محاولة تقديمه نفسه في هذا الشكل المغامرة، يقول: «حزينٌ لأنكِ لستِ هنا/ رغم أنَّا معاً/ وحزينٌ لأني خسرت الخسارة/ حزينٌ لأن الشجر/ سيصعد في صيف نهدكِ/ نحو شمال البحار/ حزين لأن طيور المطر/ ستنقرُ آثارَ أحلامنا الراحلة/ بعدنا». تطمحُ النصوص بدأبٍ لأن تتفلّتَ من الوقائعي لمصلحة اللغةِ والتهويم الذي تحدثه حولها، فلا تأتي حكاية صرفةً ولا هي قصيدة صرفة، وإنما تنوس بين الاثنين، ولا يعني انتصار أحدهما على الآخر قتلاً له. بل تتعاضد الثيمتان لتوطيد أطروحة السارد، والذي لا يقدم نفسه كفحل وكنموذج كازانوفي، بخاصة إذا وجدنا أن «الإروس» يكاد يكون متغيباً لمصلحة حكايات شفيفة تتجهُ إلى تفاصيل مهملة وغائبة، قيمتها في أنها متخفية ولا يتعثر بها إلّا من يجدُّ في البحث عنها، فالنساء باستثناء ستيلا الرومانية يعتبرن ذوات تعليم ومتحدّرات من أسرٍ مثقفة، وهو ما رفعَ من سوية السرد، الآخذ شكل الحوار أحياناً. وربما يحسب للانتقاء هذا إدارة اللغة لتخلق المتخيّل كشرط للشعرية، إضافة إلى الواقعية المتمثلة بذكر الأسماء والأمكنة الحقيقية، والتي أوجدت بدورها الجانب المتعوي، ليس كقص فيه من الإروسية ما يكفي، بل كقص فيه من الحكايةِ، حكاية اللغةِ والأشخاص معاً. وإذا كانت المتعةُ كثيمة ملازمة لنجاح عمل ما، فهي في الوقت نفسه شرط للشعرية وفق إليوت.
بساط اللغة
لا يمكن المتلقي أن يمدَّ روحه طويلاً على بساط اللغة الباذخ فيما لو لم تعمل هذه اللغة وباستمرار على تبديل مائها ودمها باقتراحات وبدائل، وقد يكون حسام الدين محمد في مكحلة مسمومة قدّم بديلاً بصرياً – سينمائياً إلى جانب لغته، وفِق في أماكن حيث تخلّص من هيمنة الحكاية وبوجودها، وانكسرَ في أماكنَ أخرىَ بطغيانها. «إننا نبتعدُ/ يسير قطار الشمالات بنا/ من غرفة النوم في سانت فيلانز/ ومن سرّة البيت/ نحو قرى لم يزرها غريبان/ سنسيرُ علىَ غبشِ البحر/ ونعلو بطائرة/ تطير بروحنا الواحدة في اتجاهين».
يقول هيدغر في كتابه «التقنية – الحقيقة – الوجود»: «إننا كلما تساءلنا عن ماهية التقنية، أصبحت ماهية الفن غامضة». وإذا قلت في بدء كتابتي، والتي تدعي أنها ناقدة، وتدخلُ الكتاب بما يمنح من مفاتيح: اجتراح. ثم عرجتُ على تسميةِ كتابة حسام الدين محمد في كتابه «مكحلة مسمومة» بالمغامرة، وقلت أيضاً عن تقديم بديل بصري راءٍ، بيّنته المكحلة المرتبطة بالعين حكماً، فإنني ضمناً عنيت وعن معرفة: التقنية، ووجدت في كتاب هيدغر ما يسندُ جرتي، فالسؤال القلق هنا لم يتجه وضوحاً إلى طريقة الكتابة والمسالك التي سار فيها السارد بنصيه المتوازيين، لأنّ في ذلك تعمية للوجود العفوي وغير المفكّر به، لمصلحة المفكّر به والباحث عن ماهية الفن وبالتالي تغميضه، كما في دأب مارتن هيدغر في توصيفه التقنية.
حسام الدين محمد في «مكحلة مسمومة» (سيرة شعرية في ست حركات) هامش المتخيل لديه فضفاض، لذلك يبدو مرتاحاً في سردِ الحكاية وشعرنتها، وإعطائها شرعية الواقعي شرط عدم الوقوع في المباشرة أو المستهلك لغة وحكاية، يعالج قضية نفسية ووجدانية ومن زاويته الخاصة البحتة، وإن كان يعرض بهذا التعالق الوجداني قضية ما، فهو لا يحمّلها فوق طاقتها، ولا يسيّسها ولا يلوي عنقها لتجيّر لمصلحة قضية إعلانية يدعو لها، إنما يشعر المتلقي بأن الحكاية خلقت لتقال هكذا وأي طريقة أخرى هي مقتل لها.