رسائل الشاعر المغربي الراحل محمد خير الدين إلى زوجته

الجسرة الثقافية الالكترونية
عبدالله كرمون
استطاع باحث الأنثربولوجيا المغربي بوعزة بن عاشر أن يصل إلى بعض مسودات الرسائل التي كان الكاتب والشاعر المغربي محمد خير الدين (1941- 1995) يبعث بها إلى زوجته زهور جندي، في الفترة الممتدة ما بين أواسط الثمانينات وسنة رحيله، بأن تسلمها من يد الأخيرة وأصدرها مؤخرا عن منشورات مرسم مع قصائد للشاعر لم يسبق لها أن نُشرت من قبل، بالإضافة إلى رسوم له وصور مع زهور.
لم يعد محمد خير الدين مجهولا لدى عموم القراء، بمن فيهم الذين لا يقرأون الفرنسية، لأن جل أعماله ترجمت أيضا إلى العربية، أما زوجته فهي امرأة نكرة، حتى الرسائل الموجهة إليها، والتي هي بين أيدينا، لا تقدم عونا كافيا للتعرف عليها بشكل أفضل، إذا ما استثنينا ما يمكن التقاطه فيها من نُتف قليلة.
إن لخطوة بوعزة بن عاشر في نشر هذه الرسائل فضائلها العميمة، وإن كان لم يحطنا علما بشكل وافٍ بالحيثيات التي اكتنفت ما قاده من تحريات إليها وإلى صاحبتها، وكيف قبلت هذه الأخيرة نشرَ جزء من حياتها على الناس، بغض النظر عن تعلق الأمر برسائل كاتب كبير، ثم إنه لم يحدثنا كذلك عن المهنة التي كانت تزاولها، خاصة عن الظروف التي أحاطت لقاءَها بشاعرنا، أكان ذلك في إطار العمل، عندما كان خير الدين يزاول مهنتها نفسها تقريبا أم متى؟
كان من الأجدر بكل هذا أن يساعدنا أكثر، مثلما أفادتنا الرسائل، في فهم أفضل لحياة الرجل وللملابسات التي أحاطت كتابَته وقتئذ جملةً من أعماله.
ما عدا رسالة أفشت بأن زهور جندي تعمل في «مكتب» معين، وثانية يخبرها فيها بأنه سوف يتصل بها في المكتب، وبطاقة أخرى تحمل عنوان مكتب التأمينات في مدينة البيضاء، فإن مجمل الرسائل لا تعكس سوى خطابات مركبة لها، كانت أحكاما يطلقها الشاعر عليها، أو انطباعات عاطفية تقدم صورا ليس من يقين في مصداقيتها مادامت صادرة عن حال ذاتٍ مغرقة في ذاتيتها.
إن السيدة زهور إذن امرأة لا تكتب، أو لا ترد ببساطة على خطابات الشاعر، إذ يتردد في أغلبية رسائله صدى استعطافاته لها بأن تخط له ولو جوابا واحدا، إلا أنها امرأة نائية، لا تبذل أي جهد كي تستحق الحب الذي صرح خير الدين في رسائله بأنه كان يبذله لها، حتى وصل به الأمر إلى أن يهددها بأن ينشر على الملأ بأنها امرأة أمية!
علينا أن نبعد، منذ البدء، قول من قد يطعن في أهمية الرسائل، بل في جدوى تلك التفاصيل الشخصية التي تحفل بها، لأنها وثائق مهمة تضيء جوانب شخصية من حياة مهجة شاعر إشكالي.
تغطي الرسائل، في غالبيتها، سنة 1985، بُعيد رجوعه إلى المغرب بعد أن أمضى سنوات طويلة في اغترابه الباريسي، إذ صار تواردُها نادرا بعد انقضاء ذلك العام.
إن قراءة عميقة للرسائل كفيلة بأن تبرز لنا الملامح الأساسية لما كان يخلخل حياة خير الدين في تلك الفترة بالذات، فلقاؤه بتلك المرأة، مع جهلنا بما قد كانت تنفرد به، كان له التأثير الكبير على شاعرنا.
لاحظنا أن خير الدين عاد مرة أخرى إلى باريس، بعيد زواجه، ما سوف نجد له تفسيرات في مادة الرسائل، إذا ما افترضنا أن العناصر التي حفّزته على الهجرة من جديد تكمن في ارتباطه بهذه المرأة، فما الذي يدفعنا إلى بناء هذا الافتراض؟
إذا سلمنا، مثلما أشرنا إليه في البدء، بأن زهور جندي لا ترد على الرسائل، فإن حضور صدى صوتها جلي في رسائل خير الدين، لأنها اختارت وسائل أخرى، كالهاتف مثلا، لإيصال صوتها إليه. أجد أن خير الدين كان يكتب عبر هذه الرسائل، من دون أن أدعي قراءة نفسانية لها، قصة تمزق حاد، مفاده أنه وقع في فخ امرأة استعصى في علاقته معها الفصل بين الرغبة فيها من جهة، والرغبة عنها من جهة أخرى. لأنه ظل مشدودا بين إرادة الفعل (الحرية) وعدم قدرة الفعل، المتمثل في استمرائه جناب امرأة تؤلبه على ذاته كي يتنازل عن أناه الطليقة وعن الخصال و»اللاخصال» التي تشكل شخصية خير الدين، باعتباره مبدعا، في تمرده، عنفه وكرمه.
كان على خير الدين أن يعود ثانية إلى باريس كي ينتقم لنفسه من سنوات الضياع والتشرد والغربة القاتلة التي ذاق مرارتها في فترة نفيه الأولى. نستشف من بين سطور الرسائل كم كانت المرسلة إليها تسعى، من خلال تأنيب، نتلمس ردود أفعاله لدى خير الدين، إلى خلق ظروف مواتية كي ينهض الفينيق من رماده، لكن جناحيه احترقا في الواقع ولم ينهض من رماده قط.
لقد كان ضربا من المستحيل على زهور، إذا ما كانت قد جربت ذلك فعلا، أن تجعل من خير الدين مجرد عامل مهاجر يعود إليها محملا بالغنائم. كان الرجل يسعى، على الدوام، إلى نوع من الاعتراف به ضمن كوكبة المثقفين، من دون أن يتحقق له ذلك، إلى نوع من الاستقرار بكل معانيه، كي يكتب ويكون ذاته في الأشكال المثلى لما قد تكون عليه كينونة حقيقية.
من هنا نجد هذه الرسائل التي لا تكتسي قيمة أدبية حقيقية، إذ لم يخطر على بال خير الدين يوم كان يخطها بأنها سوف تصل إلى أيدي القراء، تتأرجح بين خطابين: يتمثل الأول في رغبته في إرضاء زوجته، موهما إياها بأنه منشغل في بناء الصورة التي تريد أن تكتمل لديه تقاسيمها، وبأنه لا ينقصه من أجل ذلك إلا القليل اليسير. بينما يحيل الثاني الى تحركاته في أرض الثقافة في باريس، ساعيا إلى الكتابة والنشر، وتحقيق الاعتراف به في الأخير. رغم أن الخطابين ملتئمان يصب الواحد منهما في الآخر، ويشكلان في النهاية، خطاب الصراع من أجل تثبيت جذور الذات في الفضاء اللائق بها.
دأب خير الدين في رسائل سنة 1985 على بناء صورة جديدة له، كان يلزم عليه أن تكون ناصعة لا تشوبها أي بقع سوداء، ذلك أن خطابات زوجته، التي لا تصله مكتوبة، مضمخة وهي مستترة، في رسائل شاعرنا، بلوم مثقل بالتوبيخ. وكما لا يكاد يجهل أحد بعد، فإن خير الدين كان معروفا بحياته البوهيمية في الحي اللاتيني وفي غيره، وقد طبقت شهرة معاقرته الكحول المفرطة، الآفاق. نستشعر، من هنا، مؤاخذات زوجته عليه، ونستنبط من رسائله أيضا أنها كانت تحثه على أن يكذِّب آراء الناس فيه، وينزع عنه ذلك الجلد السيئ ذائع الصيت.
من المحتمل أن خير الدين كان يختلق الكثير من الأشياء التي درج على كتابتها إلى زوجته، المقالات المفترض أنه تقاضى عنها مالا. استعداده لنشر كتاب معين أو لإعادة إصداره، وأمور أخرى متعلقة بلقاءاته، وبالمواقف الغريبة التي كان يصادفها.
تتفق شهادات كثيرين في الإشادة بكرم الرجل وسخائه، إلا أنه كثيرا ما كان يبالغ على ما يبدو، تماشيا مع بعض حاجته إلى نشيد الأبهة والعظمة، في حديثه عن جيوب مليئة بالنقود، وفي تباهيه بأنه يشرب أجود خمور فرنسا، وفي اعتبار نفسه أميرا في محافل الأدب والفكر بباريس.
كان خير الدين يسعى لاستبقاء زوجته قربه وإلى حفاظه عليها من دون أن يمسك، في الآن نفسه، عن كل الذي نُهي عنه، كي يتألق أمام ناظريها، إلا أنه كان يعيش كذلك ضغطا قاهرا في قرانهما. كم من رسالة من رسائله أبانت جهارا عن تبرمه من سجنه في قفص الزوجية، هو الذي لا يطيق مواضعات تلك الحياة في القيد، بل يجدها مخالفة وقاهرة للذات المبدعة. فكثيرا ما كان يتضرع إليها بأن تكف عن التنغيص عليه، وأن تدعه يخلد في اطمئنان لازم إلى الكتابة: همه الأساسي.
ساءت علاقتهما كثيرا بعيد انصرام حَوْل على زواجهما، إذ استفحلت مؤاخذات كلا الطرفين على بعضهما، حتى أن خير الدين نفسه كان يذكّرها بصبواتها المتكررة واتخاذها كل مرة لعشاق متباينين. ولما حل اليوم المعلوم الذي حدث فيه بينه وبين زوجته شقاق لم يكن له جبر افترقا. تسكع خير الدين بعدها في مدن كثيرة، والتجأ إلى أصدقاء كُثر استضافوه، لكنه لم يتوان قط عن الكتابة إلى زهور، التي لم تجمع في اسمها، كما كتب يوما، كل الزهرات عن مجرد مصادفة واتفاق.
لم ينتج خير الدين شيئا ذا شأن في الفترة التي عرفت اشتداد التحامه بزهور، ويعود سبب ذلك مرة أخرى إلى ما أسلفنا ذكره. لكنه لم ينسها حتى بعدما استؤصلت كل أسباب الائتلاف من نفسيهما، إذ داوم على تذكيرها بحبه لها، وبنفض الغبار عن فضائلها، بل إنه لم يفوت أدنى فرصة لكي يذكرها بأنه على أتم الاستعداد لأن يقدم لها العون اللازم متى كانت في حاجة إليه، مثلما فعل في السابق، بأن جعلها تستفيد مباشرة من مكافآته الصحافية في المغرب. كما أنه عمل كل ما بوسعه من أجل بناتها، رغم ما تعرض له من سوء معاملة خاصة من البنت الكبرى.
لما اكتشف خير الدين في بداية التسعينيات الداء الذي عصف بحياته، صار يكتب بحمية حماسية هائلة، كأنه ندم ندما على السنوات التي كان يؤجل فيها، مكرها أو متهاونا، مشاريعه الإبداعية.
إذا كان خير الدين هو الذي خط هذه الرسائل المحملة بالشحنات التي أتينا على ذكر البعض منها، فإنها ليست هنا عملا من أعماله، بل إنها وبشكل غير مباشر، عمل اضطلع به الباحث الأنثربولوجي بوعزة بن عاشر، إذ نشره، قدم له ووضع حواشيه.
إذا كنا لا نهتم بسبر ما في نفس يعقوب من النوايا كلها، فإن أي مجال ثقافي مهما كان لا يمكنه أن يكون موصدا في وجه الأنثربولوجيا، ذلك أن خير الدين كان صديقا له وصنوا في الكتابة والأصل «النوميدي» المشترك، بل ربما لأسباب أخرى.
تلمسنا في المقدمة كيف أن بن عاشر كان يخشى أن يندرج ضمن الذين كان خير الدين يبغض خطاباتهم الجامعية، وهو يكتب نوعا من التقديم الأكاديمي حول رسائل الرجل.
إن الخطاب العالم لبن عاشر كان ضروريا بالنسبة إليه من أجل الربط بين متن الرسائل والأعمال التي أنجزها خير الدين في تلك الفترة بعينها، سواء من جهة ذكرها في الرسائل أو من خلال ترك بصمة الحياة التي أتت عليها في أعمال الرجل.
لن يكون بوسعنا أن نحيط بكل المناحي التي أثارتها رسائل خير الدين الموجهة إلى زوجته، لكننا نلفت النظر إلى أنها تبرز الملامح الغائرة لشخصيته، وترفع القدسية التي لفته لأزمان، كي نقف على البطل الإشكالي الذي كانه، بأن نكف عن التمجيد الأعمى لشخصه، ثم نقرر قراءة كتب الرجل منذ اليوم!
القدس العربي