قوة الغرب وضعفه في ميزان الفلسفة

 

 

 

يمكن تعريف الغرب في مقاربة أولى، بدولة القانون والديموقراطية والحريات الفردية والعقلانية النقدية والعلم والاقتصاد. ويمكن تعريف الغرب في مقاربة ثانية بأنه ذلك الحيّز الجغرافي الذي قام أبناؤه بإبادة شعوب القارة الأميركية، وإشعال المحرقة اليهودية، مروراً بالاسترقاق والاستغلال والاضطهاد الاستعماري، وأخيراً الحروب القومية والعرقية والإيديولوجية التي استشرت خلال الحرب العالمية الأولى والثانية بين الدول الغربية.

من الممكن مضاعفة الأمثلة على مسار الغرب سواء تمّ اعتماد المسار العسكري، أم المسار السلمي على المستوى الفكري، أم على المستوى الأدبي والفني، فما من شيء في العالم إلاّ وتأثّر بالغرب.

استثار مسار الغرب عبر التاريخ الإعجاب والكراهية في الآن نفسه. لقد تساءل العديد من المؤرخين والمفكرين: هل ما زالت أوروبا اليوم محركاً من المحرّكات المهمّة في تاريخ العالم؟ وهل أنها بعد الإخفاقات المدوية في محاولات التوحيد، ومساعي المجانسة سواء بقوة السلاح، أم بقوة الأفكار، وفي أغلب الأحيان بالقوتين معاً، ستتوصّل إلى تحقيق النجاح من خلال سوق اقتصادية مشتركة؟ وهل ستستمرّ في قيامها مقام النموذج المثال، أو النموذج المصدر للتقدّم والرقيّ والنجاح؟ ذاك النموذج السياسي والفلسفي والثقافي الذي يؤثّر في ما تبقّى من العالم؟ علماً أن بعضهم أطروا عليه، فرفعوه إلى الأوج، وجعلوا منه مثالاً يحتذى، فيما طاوله آخرون بالقدح والذم. وهذا ما يعبّر عنه كتاب ريجيس دوبريه ورينو جيرار المعنون «ماذا بقي من الغرب؟» (منشورات غراسيه). الكاتبان رفيقا دراسة، لكن كل واحد منهما سلك طريقاً مختلفاً عن الآخر. دوبريه فيلسوف ملتزم، كاتب ومفكر. أما جيرار فهو صحافي عالمي مختصّ في شؤون الشرق الأوسط، وأستاذ العلوم السياسية في جامعة باريس، ومراسل لجريدة الفيغارو.

ينهج دوبريه في الحوار الذي أجراه مع جيرار نهجاً ديالكتيكياً مقارناً بين نجاحات الغرب وإخفاقاته في خمس نقاط: أوّلها أن الغرب متماسك عسكرياً بانخراطه في الحلف الأطلسي، فواحد وعشرون دولة من دوله تنتمي إلى هذا الحلف، وأبناء هذه الدول ما عادوا يفاخرون بانتمائهم الديني والإتني والثقافي، وإنما بانتمائهم إلى أوطان تتعاون معاً من أجل الخير العام لأوروبا، الاسم الآخر للغرب. بينما الدول الآسيوية لا شيء يوحّدها. فالهند لا تعترف بالصين قائداً ومتكلماً باسم الشعوب الآسيوية. واليابان لا تتفاهم مع الصين، ولا تستمرئ كثيراً كوريا الشمالية. وثانيها، الاستئثار الكوني بالحرب والسلم، فالغرب بعكس بقية الدول (الصين، اليابان، الهند) يرى أن مصالحه الخاصة هي تعبير عن المصالح الكونية (الحرية، الانعتاق، التقدّم)، وهذا ما ترعاه منظمة الأمم المتحدة التي اتخذت لها مكاناً على أرض أكبر قوة عسكرية هي الولايات المتحدة التي تحميها وتغذّيها مالياً، لتحفظ دائماً حقّها بالنقض والموافقة. وثالثها أن الغرب هو الذي يساهم بصنع النخب العالمية، من خلال جامعاته ومؤسّساته المالية ومدارسه العسكرية ومراكزه الخيرية. هذه النخب التي تعلمّت في الغرب تعمل بعد عودتها إلى بلادها، على نشر ثقافة الغرب، وتقليد نظمه المالية والعسكرية والاجتماعية، وتعطي الأفضلية للتعامل مع دوله. ورابعها أن الغرب هو الذي يخلق نوعاً معينّاً من الحساسيات تتعلّق بطريقة التفكير، وطريقة العيش، من خلال سيطرته على وسائل الاتصال التي تبرز كيف يفكّر الفرنسي، وكيف يأكل الأميركي (الهمبرغر والكوكاكولا)، وكيف يتعلّم الإنكليزي في جامعاته، وكيف ينشط الألماني صناعياً. لقد غدا الغرب مثالاً يحتذى في كل وجوهه. مثال لا يستطيع أبناء الصين والهند والدول الصغيرة ومن بينها الدول العربية إلاّ أن يقتدوا به في ملبسهم ومأكلهم وتفكيرهم. وخامسها أن الغرب يتقدّم على كل دول العالم بابتكاراته العلمية والتقنية. لذلك كانت لائحة الفائزين بجائزة نوبل تحتوي على أكثرية من الغربيين، وكانت لائحة المهندسين المخترعين تفوق بعدد أسمائها لائحة أي بلاد أخرى. وأبرز دليل ثورة الإعلام والاتصالات واكتشاف الذرة، والاختراعات الميكانيكية، والطبية والتكنولوجية.

تلك كانت نقاط القوّة التي يفاخر بها الغرب بحسب دوبريه، فما هي بالتالي نقاط الضعف؟

أوّل نقاط الضعف هي التكبّر. قبل غوغل والإنترنت، أعلن الغرب في أكثر من مجال عن شعوره بالكبرياء، فهو الذي يربّي نخب دول العالم، وهو يبسط سلطانه على مدى الكون، يتدخّل ساعة يشاء ويتراجع عن التدخّل، لاعتباره أنه هو بوليس العالم ومدبّره وقائده. وثانيها، إظهار العظمة في أكثر من مجال، في الموازنة العسكرية والموازنة العلمية، وفي العمل على نشر قيمه معتبراً نفسه بأنه يحمل رسالة ربّانية إلى كل دول العالم، مفادها أنّ عليه مساعدة الدول المتخلفة كي تترقّى وتتقدّم، وثالثها نكران التضحية. ففيما كان يرسل جنوده لمقاتلة الأعداء، صار اليوم يقاتل من بعيد بواسطة التكنولوجيا التي تحملها طائراته وسفنه البحرية خوفاً من التضحية بجنوده. أما حملاته العسكرية التي كان يسميها حرباً على العدو صار يسميّها اليوم «حماية المواطنين»، كما فعل في الكويت والعراق. ورابعها اعتماد مبدأ الوقت القصير. لقد بيّنت الأحداث التي شارك فيها الغرب في السنوات الأخيرة عن رغبته في إنهاء الأمور بسرعة قصوى، كما حدث في الكويت وبغداد، وعن تفضيله للضربات الدقيقة على الحرب الطويلة الأمد كما في فيتنام، وخامسها زرع الشقاق بين القوى المقاومة للدولة الواقعة تحت هيمنة الغرب، بين ثوّار يبغون الوصول إلى السلطة، وسلطة بحاجة لمساعدة دول الغرب، لتبقى في مكانها تمارس القهر والاستبداد على شعوبها.

بدل أن يعلّق جيرار في الكتاب على أراء دوبريه، نراه يقترح في لغة أقلّ حماسة تحليلاً لبعض النقاط التي تصبّ في مصلحة الغرب، وهي: قيام دولة القانون، سيادة النقاش الديموقراطي، بداية تكوّن اقتصاد تعاوني. ولكن لا يتورّع جيرار عن ذكر بعض الأخطاء التي ارتكبها الغرب، منها خلطه بين مسؤولية الحكم والحق في التدخّل، الأمر الذي أدّى إلى تدخّلات عسكرية كارثية، وإلى قراءة سياسية تفصل بين الأخيار والأشرار، وترى أنّ من الممكن قيام طريق ثالث يفصل بين ديكتاتورية العسكر وأصوليّة المتديّنين.

لا يختلف المفكران الفرنسيان في تعظيم نقاط القوة التي تميّز الغرب، وفي التقليل من نقاط ضعفه. وعلى رغم ذلك، يذكران بخفر أن غربهما الأوروبي في حالة تأخّر بالنسبة إلى الغرب الأميركي. والتأخر الملاحظ يذهب بهما إلى التساؤل عما بقي من الغرب الاستعماري غرب القوة والعظمة، غرب الحرية والتقدّم والانعتاق، فيجدان أن الانحدار سمة الواقع الحالي، وإذا كان لا بدّ من الصعود فالحركة الدافعة تكمن في اللجوء إلى جذور الغرب الثقافية وإعادة استثمارها في أي نهضة محتملة.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى