كمال داود يقسم المثقفين الجزائريين في مواجهة الرقابة الأصولية

الجسرة الثقافية الالكترونية

*ابراهيم صحراوي

المصدر: الحياة

مرة أخرى ينحرف النِّقاش في الجزائر بفعل ما بات يعرف بـ «قضية داود – حمداش». الأول، كمال داود صحافي يكتب باللغة الفرنسية ويحرر منذ خمسة عشر عاماً عموداً انتقادياً في صحيفة تصدر في مدينة وهران (غرب البلاد)، وروائي أصدر قبل سنة تقريباً رواية بالفرنسية بعنوان «ميرسو، تحقيق مضادّ» (دار اكت سود، باريس). وميرسو هنا هو الشخصية الرئيسة في رواية «الغريب» لألبير كامو وهو فاز لأجلها بجائزة نوبل عام 1957. أصبحت هذه الرواية في الفترة الأخيرة حديث العامّ والخاصّ وبيعتْ منها عشرات آلاف النسخ في الجزائر وفرنسا وكانت قاب قوسين أو أدنى من الفوز بجائزة غونكور الشهيرة قبل أسابيع قليلة. وقد اتهمت جهات اصولية الكاتب، لا سيما بعد أحاديث صحافية ادلى بها ومنها مقابلة تلفزيونية أجرتها معه قناة «فرانس2» الفرنسية، بالتطاول على الرموز الدينية و إهانة العرب واللغة العربية.

اما الثاني، عبدالفتّاح حمداش، فهو أحد «شيوخ» السلفية في الجزائر ورئيس حزب (غير معتمد) وأهدر دم الأول ودعا الدولة إلى إعدامه بناء على الاتهامات المشار إليها. أثارت الفتوى زوبعة في الجزائر وجدلاً في وسائل الإعلام والمنتديات ومواقع التواصل الاجتماعي، وسارعت النخب على اختلافها إلى الانخراط فيه مصطفّة في هذا الجانب أو ذاك اصطفافاً انجرافياً هستيرياً لا واعياً دونما طرح جدي للمشكلة وفتح نقاش واسع حول حيثياتها وجوانبها المختلفة. نقاش لا يُسطِّح المشكلات والقضايا ويبترها باعتبار نتائجها فقط بل ينظر فيها وفي أسبابها على امتداد مساراتها ومراحل تطوُّرها المختلفة.

وبهذا الاصطفاف وهذه الخفّة في المعالجة تُخلِف النُّخب الجزائريةُ موعداً آخر مع التاريخ وتعجز مرتين. الأولى في قصورها عن وعي التاريخ القريب منه والبعيد، والثانية عن تأمين دورها المُوجِّه للفئات العريضة من النّاس وإنتاج خطاب مُوحِّد في حدِّه الأدنى يؤطِّر الجموع ويُنتِج قيما تلتفُّ حولها المجموعة الوطنية، ولا تكتفي بالبيانات المُنتصرة لأحد طرفَيْ المشكلة فتؤجِّجها بدل البحث عن حلول لها.

من أسباب انحراف النِّقاش وتحوله إلى صراع ديكة أو صراخ عجائز هو الإحجام عن تحديد المفاهيم تحديدا دقيقا أو تعمُّد تحريف دلالاتها وجعلها رجراجة زئبقية تتغير أبعادُها عند الضّرورة بما يخدم المصلحة الضيِّقة، الآنية والفئوية، لغوياً وجهوياً وإتنياً وسياسياً ودينياً. ولا تخفى انتهازية هذا التصرُّف وزبائنيتُه، ولا آثاره السلبية الوخيمة واقعياً. وبديهي أنّ أهمّ المصطلحات إلحاحاً في هذا السياق هي في مرحلة أولى «الذات» و«الهوية» ودور النُّخب في الإجابات القطعية الصريحة (ولم لا النهائية؟) عن أسئلتها المحرجة، على رغم حسْمها عندنا في مستوى النّصوص.

وفي مرحلة ثانية «حرية التعبير» وحدودها سواء أكانت شفوية أم كتابية عادية أو فنية وبأي أسلوب من أساليب او وسائط التبليغ، ممّا يُعرُف عادة بالإبداع، وما يلزم عنه من احترام للآخر جملة وتفصيلاً ومراعاة لوعيه ومشاعره وكماله المعنوي فرداً وجماعة ومن ثمّ قبوله كمكوِّنٍ أساسي للمجموعة.

صحيح إنّ أزمة الهوية تُطرح عند الإنسان التابع بصورة عامّة، لكنّها تطرح بحِدّة أكثر عند الإنسان المثقّف النخبوي (الخاصّة) من الأمّة التابعة أو التي لم تُحدِّد أو لم تفصل في ملامح انتمائها بعد، لأنّها هاجسه ولأنّه عرضة أكثر من الإنسان العادي للتيارات والنظريات والرؤى المختلفة، ما يجعل فِعل المقارنة والمقابلة وتأثيراتهما نشِطاً لديه مقارنة بغيره. ومن ثمّ فإنّ عِبْئها يقع عليه منطقياً أكثر ممّا يقع على الأول، ومن هنا وصايتُه الفكرية عليه على نحو ما.

أزمة الهوية هي المسؤولة فيما يبدو عن الخلافات ومن ثمّ الصِّراع بين النخب ضِمن الدائرة الثقافية الحضارية الواحدة، وهو يتحولُ إلى صراع وجود بينها يكون في معظم حالاته انعكاساً لصراع الدوائر الفوقية المختلفة (صراع الحضارات وتجاذباتها)، المسؤول مباشرة عمّا يجتاح العالَم من مواجهات وحروب، سياسياً وعسكرياً واقتصادياً واجتماعياً، وقبل كلّ ذلك وبعده ثقافياً. صراع الوجود بين النخب ينعكس بدوره على العامّة وعلى الوضع عامّة فتنخرط فيه انجرافياً دونما إدراك لدقائقه وخلفياته، وإنما استجابة لوعي جمعي مُجمَل (الدين والوطن عاملان أساسيان فيه)، ويكفي أن يُصدم أو أن يُستثار كي ينطلق كالمارد لا يوقفه شيء.

حتى النُّخب التي كانت أصلاً لانطلاق شرارته تفقد سيطرتها عليه لأن استثارتها البدئية له إنما كانت فوقية، خارجية، فكرية، معنوية وتحريضية وأكثر من ذلك سياسوية أحياناً. ومنه فإنّ امتلاكها أدوات إشعاله لا يعني البتة امتلاكها أدوات تسييره أو توقيفه حتى ولو أرادتْ، لأنّ عملها هذا مرحلة أولى تتجاوزه الأحداث في مراحل تالية. ويعني هذا فشلها في تسيير الهوية الجمعية الذي ما هو سوى انعكاس لفشلها في تسيير اختلافاتها عن الآخر مطلقاً وتشابهاتها معه، سواء أكان الآخر الحضاري المختلف أم الآخر الحضاري المشابه، بمعنى قصورها عن تعريف ذاتها والإجابة عن سؤال الهوية بـ «سلسلة من التعريفات المرتبطة بأدوار(ها) الاجتماعية وبوظائف(ها) وأنشطت(ها) وبأصول(ها) أو بـ «إنجازات(ها)» لأنّ «الهوية تتميَّز بتسيير التشابهات بقدر ما تتميَّز بتأكيد الاختلافات» عموديا وأُفُقياً، تاريخياً وجغرافياً، بمختلف وسائل القول والتعبير والتواصل ومنها الآداب والفنون.

إنّ قضية داود-حمداش مؤشِّر قوي على حقيقة تنافُر النُّخب وغياب حدٍّ أدنى من الاتفاق بينها على عدد من العوامل الأساسية للهوية وما تعنيه من دوائر الانتماء المتعدِّدة وهي في حالتنا حصراً وتلازماً الإسلام والأمازيغية والعروبة فقط، عوامل متداخلة لا يقوم أيّ منها في غياب الآخريْن وإلاّ فلا «جزائرية» حينئذ. التفاهم هو بمثابة الأرضية الصّلبة المُقوّية للتعايُش والائتلاف طبيعياً ومن ثمّ -الاحترام المتبادل- وليس اصطناعياً أو فرضاً، على رغم ما للقوة من دور في حفظ التوازنات باعتبار القاعدة السياسية العثمانية الراشدية. نخلُص إذاً إلى أنّ التهجُّم على أيٍّ من هذه العوامل هو إثارة مجانية وانخراط ساذج في مخطّطات سياسوية لا ينبغي أن تنجرَّ وراءها النُّخب التي يُفترَضُ فيها من الوعي والإدراك ما لا يُفترضُ في العامة كمّا وكيفا.

القضية –شئنا أم أبينا- أثر من آثار أزمة الهوية التي تطفو إلى السطح كلّما حاولت شريحة أو فئة ما إلغاء أحد العوامل المُشار إليها أو تدنيسه بدعاوى مختلفة على رأسها «حرية التعبير» وتجاوز الحدود في مراعاة الوعي والشعور الجمْعِييْن (داود)، والتطرُّف في الغيرة على المُقدَّس (حمداش). والأمر في كلتا الحالتين استئثار وإقصاء يؤدّيان في كلِّ حالاتهما إلى تنامي الحِقد والضغينة وانفجارهما عُنفا، والأحداث ماضيها وحاضرها هنا وهناك تؤكِّد ذلك.

والخلاصة إنّ الخطأ عام. أخطأ داود وحمداش خطأً جسيماً. الأول بالتهجُّم على بعض عوامل مكونات الأمّة ومُقدّساتها والإصرار على ذلك، والثاني بتنصيب نفسه وصياً حصرياً على المُقدَّس ودعوته إلى إقامة الحدِّ على الأول. ومن ورائهما النُّخب أو بعض رموزها بالاصطفاف الإيديولوجي المجاني وتكريس التشرذم والخلاف… الأمر في كلّ حالاته إفلاس للقيم وتهديد للوحدة والمواطنة والوطنية وضياع لدلالاتها السامية ومن ثمَّ فمسؤوليتها في الانفلات واضحة وثابتة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى