«مساؤك ألم» للبنانية نسرين بلوط… نصف قرن من تاريخ مصر

الجسرة الثقافية الالكترونية
علي نسر
يشكّلُ بيتُ آل الإدريسي في مصر، الحيّزَ المكاني الأساسي الذي تتمحور حوله رواية «مساؤك ألم» للكاتبة والشاعرة اللبنانية نسرين بلّوط الصادرة عن سما للنشر والتوزيع.
ومن هذا المكان تتشعّب التقنيات السردية التي تتضافر لتشيّد عالم النص الروائي بصلصال خاصّ عرفت الكاتبة أن تعرضه أمام القارئ ليقف أمام حقائق مراياه، متعرّيًا من ثياب مستعارة، خالعًا أقنعة تمرّس في التستّر خلفها، كاشفًا حقيقة نفسه حين تحين الفرص وتتهيّأ الظروف، ليثب إلى مسرح الوجود معلنًا أنه يبطن في داخله ما أظهره فرعون.
ومن نافذة هذا المكان/البؤرة السردية، تطلّ الكاتبة على جملة قضايا وجودية تراوحت بين السياسية والاجتماعية والفكرية، عبر حكايا متفرّقة ومتناثرة تربطها جسور من العلاقات بالحكاية المركزية وهي حكاية الشاب عز الدين الإدريسي. فتتخذ الروائية من مسيرته ما يعرف بصندوق الصوت الذي تتناسل منه الحكايات الأخرى، فشكّل بعضها امتدادًا لبعضها الآخر، في حين شكّلت شخصيات وحكايات أخرى طرفًا في علاقة ثنائية ضدية مع القصة والشخصية المحوريتين.
يحمل عزّالدين فوق كتفيه أوزار جيل أسهمت الحياة وظلمها في تكوين شخصيته وبلورتها، فيمثّل صورة الانتهازي الذي لم يتوان عن اقتراف أبشع الوسائل للوصول إلى مراميه، ليستحيل شخصية مركّبة تعاني من أمراض نفسية عصابية وذهانية جعلت منه جلّادًا يتنقّل بين ضحاياه، البعيدة والقريبة، محمّلًا الضحية سبب أعماله وكأنّ في قهر الآخر إحقاقًا للحق فيصبح المقهور هو المسؤول عمّا يقترفه القاهر من ممارسات جائرة.
إنّه الشخصية المركزية التي اختزلت جميع الشخصيات في دائرة حركاتها، وذوّبت جميع الأصوات، وتركت ظلالها فوق تقنيات السرد عمومًا ليستحيل كل شيء، عاقلًا أو غير عاقل مرتبطا بهذه الشخصية، ذائبًا فيها، يغوص في بحرها مستلب الإرادة، إمّا اعجابًا وهيامًا، أو خوفًا واحتياجًا، فتمارس نرجسية هدّامة لا تريد لشموس الشخصيات أن تضيء إلا من خلالها، ليصل الأمر إلى حد البارانويا، حيث الشعور بالترفع المبني على الاحساس بالاضطهاد والملاحقة والحسد، ولكي يخفّف (عز الدين) من ثقل معاناته نراه يسقط أزماته على الآخر مستخدمًا أبشع أنواع السادية العمياء، لا يطيق لأحد أن يخرج على تعاليمه ومن تحت لحافه بدءًا بأخوته، وصولًا إلى عشيقاته…
وعلى الرغم من غزارة الشخصيات الأخرى، إلا أنّها لم تكن شخصيات فاعلة بقدر ما كانت منفعلة تتوقف حركتها على حركة بطل الرواية الرئيس، حتى يكاد القارئ، وعبر لعبة فنية فيها من البراعة الروائية، أن يقف حائرًا بين التعاطف مع (عز الدين) أو التنكر له والسخط عليه رغم ما يحمله من صفات لا تمت للإنسانية بصلة، ولم يقف الأمر عند استلاب الشخصيات الورقية والقارئ فحسب، إنّما نجد الكاتبة نفسها وعبر راويها العليم المتحكّم بكل تفاصيل الحكي، متذبذبة في موقفها، ففي حين تغدق على البطل صفات الشر واللاإنسانية، نراها في أماكن أخرى تنتصر له كرهًا بشخصيات أخرى. وهذا يذكّرنا بموقف المتلقي والكاتب من شخصية مصطفى سعيد في رواية «موسم الهجرة إلى الشمال»، حيث تعاطفنا معه رغم صفاته الإجرامية إذا صح التعبير.
وتستغل الروائية هذه القصة لتتطرّق إلى قضايا أكثر شمولية واتساعًا من مجرّد حكاية شاب، فتعرض الكثير من الأمور السياسية والاجتماعية والحضارية، مقدّمة ما يشبه الجرد لحياة نصف قرن من تاريخ مصر، عبر الإطلالة على زمن الباشوات مرورًا بثورة يوليو/تموز وحكم السادات وصولا إلى إسقاط النظام ومجيء الإسلاميين وإسقاطهم واستلام السيسي.. ومزامنة تقدّم صورة عن الواقع الاجتماعي الطبقي الذي كان من أسباب تمرّد (عز الدين)، فتقيم مقارنة سريعة بين جيل الخمسينيات متمثلا بشخصية (عبدالله) الخال، وما يحمله من رؤى اشتراكية جعلت منه مثقّفًا من دون تعلّم، عرف كيف يتعامل مع صدمته الغرامية الأولى مع الفتاة الإيطالية، حيث الصراع والخلاص كانا جماعيين، وجيل الأمس ممثلا بـ(عز الدين) حيث الخلاص الفردي الذي يوظّف كل ما يمكن توظيفه وتسخيره للوصول إلى الهدف وتحقيق المطامع، بالإضافة إلى تجاوز فكرة التنكّر للأغنياء حين جعلت من شخصية (بدر الدين) الأقرب إلى بطل النص ضميرًا يلجأ إليه البطل حين يريد أن يلوم نفسه، فكان يملك من الحكمة والرصانة والإنسانية الكثير بعكس من اغتنى فجأة وتنكّر لماضيه ولكل من وما يحيط به.
هذا الاستعراض وتشعّب الموضوعات، جعلا الكاتبة تسقط في منزلقات فنية تتعلّق بعملية إخراج النص. فعبر الإطلالة على تاريخ مصر الخمسينيات والستينيات نراها تقفز بأسلوب فني جميل فوق تضخّم التفاصيل وإن كانت أجيال اليوم بحاجة إلى من يستعرض أمامها تلك الأحداث وتفاصيلها، في الوقت الذي نجدها تمارس عكس ما فعلت من قبل، إذ نرى النص متخمًا بتفاصيل شبه تقريرية حول ما حصل منذ أربع سنوات وصولا إلى اليوم، إذ لم تقدّم ما لا يعرفه المتلقي، حيث لم تزل الصحف تتناقل تلك الأخبار إلى الآن. وهذا ما أوقع الكاتبة في شباك السرد وانقطاعه، فبدلاً من تسليم الحكي والتبئير للراوي، ولو كان عليمًا ذا معرفة مطلقة، نجد الكاتبة تتدخّل مبئّرة الشخصيات والأحداث بطريقة الخطاب المباشر، فالقطع السردي لم يكن لخدمة السرد والتشويق بقدر ما كان لاستعراض مواقف الكاتبة وغزارة معرفتها الثقافية والعلمية، كاسرة المسافة بينها وبين المتلقي عبر استخدام ضمائر المتكلم والمخاطب والتدخل غير المسوّغ لتعلن عن موقفها من الشخصيات أحيانًا كثيرة متهمة بعضها بالوقاحة والغباء… وغير ذلك. ما جعل نصّها يقترب في بعض سيرورته من نصوص النصف الأول من القرن العشرين حين كانت الروايات جوابًا عن سؤال: ماذا أقول؟ بينما الرواية الحديثة ينبغي أن تقترب من الجواب عن سؤال: كيف أقول؟ فلم يُعطَ الراوي مجالا في أن يكون مُخرجًا يدير مجريات السرد والحوار، ولم تبق الكاتبة متوارية خلف ستارة المسرح لتحرّك شخصياتها بخيطان رفيعة، بل كانت حاضرة في معظم المواضع ومرئية بوضوح ولم تعمل بوصية (فلوبير) القائلة: على الكاتب أن يكون اتجاه روايته كالله اتجاه الكون حاضرًا في كل مكان ولا يُرى في أي موضوع.
هذا بالاضافة إلى ما نلاحظه من هنات زمنية إذ أنّ الأعمار التي تحملها الشخصيات لا تناسب أزمنة الولادات والنشأة.. فالأحداث تشير إلى ولادة عزالدين وأخويه في زمن الخمسينيات أو الستينيات، بينما يشير النص أحيانا إلى أنّهم أصغر من ذلك بكثير، فقد بلغ عزّالدين الستة عشر عاما بعد اتفاقية كامب ديفيد… ومات والده باكرًا في حين نجد أسماء الأخت الصغرى مواليد التسعينيات تقريبا إذا ما قارنا ولادتها بسنة تخرجها…
المصدر: القدس العربي