أين الإسكندرية في رواية «جامعة المشير» للمصرية إنتصار عبد المنعم

الجسرة الثقافية الالكترونية – القدس العربي

«الإسكندرية أخيراً الإسكندرية قطر الندى، نفثه السحابة البيضاء مهبط الشعاع المغسول بماء السماء وقلب الذكريات المبللة بالشهد والدموع» هكذا تحدث عنها نجيب محفوظ بإحساس عميق في مستهل رواية «ميرامار» على لسان الصحافي عامر وجدي الذي غاب عن المدينة لأكثر من عشرين عاماً.
دهمتني قضية من حيث لا أدرى أثناء قراءتي رواية إنتصار عبد المنعم «جامعة المشير مائة عام من الفوضى» وهي أين المكان السردي، في رواية ترصد حلم ثورة 25 يناير مشحوناً بالمواجع والمفارقات في فضاء مدينة الإسكندرية، لم يخطر لي أن أطرح هذا التساؤل فالذي جذب نظري أثناء قراءتي هي لغة الرواية الصافية التي تتسلل بسهولة إلى عقول وقلوب القراء فالرواية تمتلك نصا رصينا يتصف بالاقتصاد في اللغة، والإيجاز في العبارة فجاءت الكلمات نافذة التعبير وضرورية لا بديل لها في السرد الروائي، تأمل هذا المقطع معي في قولها:
«عليك بالبحر يا محمد، منه بدايتنا، وعليه حياتنا، هو نجاتنا وهاويتنا، الزم شاطئ البحر لو تفرقنا، اركض قدر الأبطال، ولا تنظر خلفك وسيأخذك البحر لو تفرقنا، اركض قدر الأبطال، ولا تنظر خلفك وسيأخذك البحر إلى حيث أجدك ولن يخذلك البحر».
وهكذا جاءت الكلمات في المقطع السردي مختزلة كما في برقيات التلغراف، جادة في التعبير بدون زوائد زخرفية في المعنى مثل كلمات رسائل «sms» القصيرة وهكذا هي إنتصار عبد المنعم روائية تتميز بوعيها الحاد ومواقفها الجسورة، تغرد دائماً خارج السرب، تسكن الإسكندرية والبحر يسكن منها القلب.
وتمضى الرواية بكل جلاباتها ويبقى السؤال مشرعاً، أين الإسكندرية في الرواية ؟
الإسكندرية في مخيلتي الآن هي المكان الإفتراضي الحاضن لأحداث رواية إنتصار عبدالمنعم. الإسكندرية في مخيلتي الآن هي المكان المسكون بصور الأشياء، وكل شيء فيها يذكرني بشيء، كازينو «سان ستيفانو»، إيقاعات الضوء والظل فى لوحات محمود سعيد، شفافية الضوء على الكورنيش. مقهى «بترو» رائحة الغمام والمطر، أريج الزهور في الفجر، صوت البحر الهادر في الشتاء، رؤية البحر من «بلكونات» البيوت «الكوزمبالتية» الحياة الفوارة وسط الناس الغلابة في الأحياء الشعبية، ذكريات الأماكن في رواية «ترابها زعفران» لأدوارد الخياط، الإسكندرية أجدها في الزقاق الضيقة المفعمة بعمق التاريخ وعطر الأحباب.
سألت صديقي، الرجل ذا الطربوش الأحمر بعد أن فرغ من قراءة رواية إنتصار عبدالمنعم.
س ـ هل تعرفت على فضاءات الإسكندرية واستشعرت روح المكان فيها؟
أجاب معتذراً، ولوح بيده نافياً وقال يا صديقي الإسكندرية التي هبطت علينا من رواية «جامعة المشير، مائة عام من الفوضى» لا أعرفها الأماكن غادرتنا فيها، حتى البحر، بحر الإسكندرية الذي يرتديني ويراود ذاكرتي، يأتي من أغنية السيدة فيروز «شط الإسكندرية» كلمات وألحان «الأخوين الرحباني»، الإسكندرية التي تشرق في خيالي تمنحها لي القطعة الموسيقية «بنات بحري» لمرسيل خليفة»، يا صديقي من المحزن أنني لم أرى الإسكندرية في حياتي. وبعيداً عن سطوة الأحداث في الرواية تأمل هذا المقطع، تقول الكاتبة لأبنها محمد «شباب المدارس في مثل عمرك في شارع ملك حفني في العصافرة وعلى الكباري الموجودة بها يرفعون علم مصر … مررنا بشارع محمد نجيب ثم شارع الجيش الكورنيش. مع كثرة الأعداد، قررنا عدم التقيد بمجموعة أو شارع معين، أردنا استكشاف ما يدور في أماكن عديدة.»
من فضلك لا ضرورة للغضب فأسماء الأمكان في الرواية، النبي دانيال، محطة الرمل، العصافرة، المنطقة الشمالية، هي بالنسبة للسكندري جزء من ذاكرة المدينة ولكن بالنسبة لي فهي لا تعنى شيئاً. هي أسماء بلا ذاكرة مكانية، لا تعذبني فيها «نوستالجيا» الذكريات.
إن أي مدينة هي روح يخلقها المكان، فالمدينة كفضاء سردي هي تفاصيلها، هي مكان له ملامح نابض بالحركة والناس، وعند البوح عن رؤيتي السحرية لها فهي في مخيلتي مدينة بيضاء مشيده من البلور فوق الماء وتحت الضوء ويحوطها صوت البحر من كل مكان.
يقول صديقي علينا الاعتراف ان المكان يلد السرد قبل أن تلده الأحداث الروائية، ومن البديهي أن الأشخاص في الفعل الروائي مرغمة على الحركة والتعبير وفق قوانين المكان الذي تسلكه، الأماكن ليست صامتة، الأماكن تتحدث وحديث الأماكن روحها الذي يختلف من رواية إلى أخرى.
أتذكر عندما عكفت على قراءة رواية «ميرامار» أول مرة كنت مستلقياً على سريري في غرفة مهجورة فوق سطح منزلنا بمدينة الزقازيق وأثناء القراءة كنت أستشعر بهذا الوصف المدقق في الرواية للمكان، والذي لا يبطئ السرد بل كان يمتزج دائماً بالأحاسيس ويخترق المشاعر، لدرجة أنتي كنت أشم رطوبة «بنسيون ميرامار» ومن غرفتي في الزقازيق كنت أرى البحر من النافذة، ها هو يترامى أمامي في زرقة صافية، حتى الأفق، ونسائم الخريف تلاعب الستائر، وفي السماء قطعان مبعثرة من السحاب» هذه الصور الحية للمكان سكنت روحي وهذا الإحساس الإنساني، لا يأتي إلينا عبثاً.
يقول الرجل ذو الطربوش الأحمر بجلبابه الأبيض الفضفاض أعرف أن لكل رواية منطقها الداخلي وأعرف الفارق بين المكان الروائي والمكان الواقعي، فالرواية هي كون صغير من صناعة كاتبها، ولكن كنت أتمنى أن يسمح للإسكندرية كمدينة لها حساسيتها الجمالية بالحضور الفعال في حركة السرد بالرواية، فمن يقرأ نص «جامعة المشير» لا يستطيع الإمساك بطيوف الإسكندرية، ولن يستشعر بروح المكان فيها ربما قد هُمش أو أسقط عن عمد لغرض درامي، فنحن أمام رواية المكان فيها يتماهي أحياناً مع أسماء الشوارع في المدينة لمن يعرف جغرافيتها، وطوبوغرافيتها.
أنا لا أريد بهذه المقاربة أن أتناول الفضاء المكاني في رواية جامعة المشير باعتباره واحداً من التقنيات السردية التي يمكن أن تلعب دوراً جمالياً وتعبيرياً هاماً إلى حد الإفراط كما في روايات المكان، كرواية حنا مينا «الشراع والعاصفة» أو كما في رواية «زقاق المدق» لنجيب محفوظ.
يقول الرجل ذو الطربوش الأحمر، يا صديقي في ظل هذا المناخ الروائي الذي يتمازج فيه الواقعي بالخيالي يجب أن نتريث ونتوقف لرصد خاطرتين مراوغتين.

الخاطرة الأولى..
لما لا يرد إلى ذهنك أن الروائية إنتصار عبد المنعم دخلت حقل الرواية من عالم القصة القصيرة فتميز أسلوبها بالتركيز الدرامي، فالنص عندها ينبض بالحركة والسرعة والإيجاز في الوصف الأمر الذي يجعلنا نستشعر بأن هذا الأسلوب الرشيق «الدينامي» في جامعة المشير يفتقد في بعض المشاهد إلى جمل تحمل المنظور «البوليفيني» في الوصف هذا المنظور يهتم بالتفاصيل الصغيرة، وأعتقد أن هذه المنمنمات الوصفية تتح للروائي بالقبض على حساسية وروح المكان، بشكل تلقائي وبدون إسراف فيما يرصده الكاتب من وقائع وملامح.
الخاطرة الثانية..
يخطر لي أحياناً أن الكاتبة في الرواية تلعب على المكان المزدوج في السرد، المكان الحقيقي لمن يعرف جغرافية الإسكندرية وطبوغرافيتها، والمكان المتوهم أو المتخيل والذي تصنعه حركة الأحداث في اللغة لمن يقرأ الرواية في كل مكان.
إنه لضروري إذاً أن نتقبل كمبدأ ونقطة انطلاق للرؤية، أن المكان في رواية «جامعة المشير» هو مكان لفظي تصنعه اللغة كضرورة لأغراض القص، والإسكندرية هنا فضاء روائي متخيل مجازى عالم ذهني يشيده القارئ ويتمثله.
وتتجلى مشاركة القارئ للكاتبة في تخيل المكان بالنسيج الروائي الذي يعايشه ويتجدد في وعيه من خلال اللغة، فالكلمات بالنص توقظ أعماق جديدة للمكان في الذاكرة، فحياة المكان تكمن في إشراقها المبهر من دواخلنا متجاوزة معطيات الإدراك للواقع. إنها روح القارئ التي تمنح المكان طاقة البدء في الوجود من خلال هذا النوع من الأصداء اللغوية للكلمات هنا تخلق اللغة الوجود الروائي ومن ثم يستفيد السرد بتعالقة مع شاعرية المكان في الذاكرة واندغامه بالفضاء المتخيل عند المتلقي، فالحقيقة أن كل الأشياء المحمولة في الذاكرة تنجذب وبقدرية حاكمة إلى المكان.
إننا نقرأ الإسكندرية في السرد الروائي عند إنتصار عبد المنعم برواية «جامعة المشير»، ولكن نستشعرها كمكان بالبصيرة كمدينة حلم أو وهم تمنحه لنا الذاكرة.
يقول الرجل ذي الطربوش الأحمر، يا صديقي نحن أمام روائية تمتلك ماء الحياة في لعبة السرد فهي تنثر المجاز على الكلمات فيأتي المكان ملتبساً بالدلالة مشتبكاً مع الصوت الداخلي للقارئ. فالنص هو الذي يقرأنا ولا يتوقف عن الحلول فينا.
ويختم الرجل القول، نحن أمام روائية ستكتب روايتها في يوم ما، بعيداً عن الأيديولوجيا التي طغت في «جامعة المشير» على حساب الجمالي. وهو ما يجعلنا نتشوف إلى نصوص أخرى في مستقبل الأيام لها.
وأخيراً، أدركت مع المجاهدة أن المكان ينقضي أيضاً كالبعد المفقود وفى رواية «جامعة المشير» جاء المكان معلقاً في الهواء تشيده اللغة وتستدعيه الذاكرة، فهو مكان روائي خفي لن يراه أحد غير القارئ للنص المكتوب.
في نهاية المطاف يقول الشاعر «أمل دنقل»..
أعشق الإسكندرية.
والإسكندرية تعشق البحر.
والبحر يعشق فاتنة الضفاف البعيدة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى