\’الخنفساء الهرمة\’ .. ثنائية الإرجاء الثقافي والإثبات الثقافي

الجسرة الثقافية الالكترونية –ميدل ايست -النص القصصي “الخنفساء الهرمة” للقاصة التونسية هيام الفرشيشي هو نص ينماز بلغة تستبطن البنية العميقة للمجتمع بشكل أخاذ ووعي فني آسر قام على استلهام المخيال الشعبي, وما يختزن من محمولات دلالية تمثل الإطار الأساس الذي يجسد الرؤية المتبناة. ومن الملاحظ أن القاصة أنشأت تفاعلا جميلا بين البنيتين, البنية الظاهرة بوصفها النص المنتج والذي يدخل ضمن جنس القصة وبين البنية العميقة النص الغائب بوصفه يحيل الى الواقع ويعكس زاوية الرؤية الفلسفية بالنسبة للقاصة.
وبناء على هذا تستقي القراءة إطارها العام من عملية (التواشج الدلالي) بين البنيتين استنادا على ما يتولد من ثنائيات الصراع في النص. ومن الملاحظ أيضا أن النص تجاوز مفهوم السرد التقليدي ليؤسس بحسب عبارة بول ريكور سردا شعبيا تختلط به الاجناس وينفتح على الأجناس الأُخر، ولكن القاصة لم تفقد بوصلتها اتجاهها الصحيح ولم تغادر منطقة القصة أجناسيا.
اذ نجد أن القاصة تسرب إلى لغتها النسق الشعري ليس على مستوى اللغة فقط وإنما على مستوى البناء الذي يرتكز على (الترميز) وبهذا فعّلت من جماليات قصتها إبداعيا، ومن هنا عمدت الى تفعيل البعد جمالي محققة وظيفة الاغراء التي تقوم على تخليق بياض دلالي ابتداء من العنوان (الخنفساء الهرمة) الخنفساء /المسند اليه والتي أخذت موضع الفراشات ليس بوصفها الطبيعي وإنما بوصفها المتحول.
أما الطرف الآخر في العنوان هو المسند (الهرمة) ويعبر عن الانفتاح بوصفه يحمل إشارات واضحة تكشف عن البنية العميقة للعلامة الرئيسة.
ولعل هذا ما تقتضيه طبيعة التعالق الدلالي الذي يستمد تكوينه من زاوية الرؤية التي تكسر أفق التلقي على نحو جزئي لأن القاصة اعتمدت على أخذ المفهوم الانتزاعي لكل علامة وعزلها عن أفقها المرجعي وتوليد علائق جديدة على مستوى المحمول الاسنادي بحيت تحول الإنسان الى منطقة أخرى (المسخ) وفي معرض تحليلنا للنص توقفنا على اشارات تقودنا الى ثنائيات تتراوح بين الارجاء الثقافي والاثبات الثقافي. وعن علامات النص الرئيسة والعلامات الموازية، في صراع ضمني بين الخنفساء رمز الانساق الثقافية القائمة وبين فضاءات الحرية المتعددة.
* الثقافة بين الإرجاء والإثبات
تتخذ الام/ الصحفية في القصة موقفا ضد المثقفين الذين يعملون على صناعة وعي مزيف وذلك من خلال مقالاتها التي باغتها ابنها من حيث لاتدري:
“تتحدث عن صحفي يلتقط الخبر ويظل عن الحقيقة، وعن أقلام ادعت في الخيانة حرية
عن خيوط ومؤامرات تحوم حول بيوت الثقافة ودراهم تدفع لكل شحاذ يتسول فسخ الذاكرة”
هذا المقطع يفتح لنا زاوية الرؤية من خلال ما يأتي:
أولا ـ الإرجاء الثقافي
يقوم على اساس كيان ثقافي يدعي أنه حام للفضيلة وأن كل معنى خارج آفاقه ماهو الا معنى معكوس، والارجاء يتمثل بحالة القلب للعلامات على مستوى المفهوم. فالحرية خيانة والخيانة حرية.وعليه تحولت المفاهيم من حالتها الايجابية الى الحالة السلبية وبالعكس.
ثانيا ـ الاثبات الثقافي
يعبر عن سياسة الانفتاح التي تشرع الابواب على كل الاحتمالات لانه يقوم بعملية تطهير لذلك الرجس بإنتاج (قصيدة مائية) رجوعا الى مثيولجيا الماء:
و(جعلنا من الماء كل شيء حي) اذ يجسد هذا الاثبات في القصة:
“وأن يبحث عن قصيدة مائية تغسل كل هذا السخام عن وجه الثقافة، وأبوابها المشرعة للفارغ
“عينان تتفرسان في البحر لاخنافس تلتهم المعنى لا خنافس تقضم المعنى”
فالقصيدة المائية تنتزع صفاتها من خلال التحرك والتحول النقي، ومن هنا فالخنفساء تقوم بدور ضاغط على ابنها بوصفها تخنق كل مدياته في التعبير.
العلاقة بينهما هي علاقة اقصاء فالام/الخنفساء لاتريد أن يعود ابنها الى نفس الدائرة التي عاشتها فهي تريد ابنها أن يبقى طاهرا.
* العلامات المهيمنة
وتعبر عن قالب الأنماط المهيمنة على مستوى الواقع وتتحرك على وفق صفات الخنافس إذتعبر عن المنظومة التي تتحرك بمقتضاها، ويمكن أن تجمل بالآتي:
الإنتشار: يدل على الإنبساط والسيطرة والتوسع فعند الإنتشار ينبسط ماتحمل الخنافس في الروح من آثار الاعمال والصقات على مستوى القيم: “رصدها وهي تطلق قرقعتها الفجة بين ثنايا شعورها الفج وشاهدها وهي تتشنج كلما همس الموج بكلماته الساخرة ….فتطلق بقايا الخلايا الميتة تستحيل الى سوائل ضارة”.
فما انطلاق السوائل الضارة الا عبارة عن شروع في التطور والنمو السلبي التي تلوح في افق الانتشار، وهنا إشارة الى نمو الوعي القاتل أخذ يتناسل على مرآى ومسمع الناس.
الإمتداد: وهو البسط من خارج أو في جميع الجهات فلها امتداد مادي على مستوى الواقع
“قرا في أوراق والدته عن الخنفساء الهرمة التي قذفت رذاذها الكيمائي حين أنطلق صوت المعنى يعانق الشمس الدافئة”
وهنا أخذت تخنق أمتداداتها كل شيء حي وتعود به الى اللا حياة وماصوت المعنى هنا الا صرخة احتجاج.
وهذا الانتشار والامتداد يؤدي الى خنق المعنى بحيث يتحول الشعر الى زبد: “من قال أن الخنافس قادرة على الإنتشار والإمتداد …من من قال إنها لاتغادر أفقها الضيق وإنها سجينة كوابيسها؟
من خلال هذه الأسئلة يتبين لنا أن الخنافس أنتشرت وامتدت.
والمطبخ الذي يسمم المعنى هو (المطبخ السياسي)بوصفه يعمل على تسميم الأفق الثقافي.
ويتساوى في هذا البلد الإرهابي والمبدع بوصف أن كليهما صانع للموت: “وطن لافرق فيه بين مبدع وإرهابي”
كلاهما صناع موت .. كلاهما تعلم أن يصب البنزين على المعنى.. أن يلعن حقيقة الوطن وأن يتقن لغة الشحاذين”.
فعلى هذا النحو تسير الامور فيغدو المبدع السلبي والشحاذ وجهان لعملة واحدة والضحية هو المعنى بوصفه حاملا لمقاصد الوجود وعند حرقه وقتله ماذا سيبقى غير اللامعنى وهذا ماتسعى اليه منظومة الخنافس تسعى الى ختم كل شيء بختم اللامعنى.
* العلامات الموازية
من الملاحظ أن القاصة لم تترك منظومة الخنافس تتحرك لوحدها ولكن خلقت علامات موازية تحمل صفة الممانعة.
وعدم الرضوخ للخنافس تتمثل بالاتي:
البحر: بما يحمل من الإتساع والانبساط جعلت منه القاصة هو الرائي والقامع من خلال تموجه، انتشار وامتداد الخنافس فالبحر يمارس عملية النفي لافعال الخنفساء.
“إن البحر سيطهر اللحظة من بقاياها الآسنة وان ماء البحر سيستحيل الى حبر يسكب في تلك النتوءات التي تعشش فيها الخنافس تاركة آثارها وبقعها السوداء”
ومن هنا فالبحر يؤدي وظيفة النفي. فالخنفساء تتسم بالانتشار والامتداد والبحر هو النافي. وهنا يمارس البحرالفعل فعله الطبيعي بوصفه يحمل صفات الاتساع.
الفراشة: وهي العلامة المقابلة التي تسعى الخنافس الى سلبها لونها ولهذا نجد الخنافس تتخذ ضدها موقفا عنيفا وصراعا وجوديا ومن هنا فان الحركة نحو الواقع تجسدها الفراشات بما يحمل من تنوع وديناميكية.
“قال لامه إنه يكره الحشرات بمافيها الخنافس ويحب الفراشات وتغويه الوانها، تحلق باحلام طفولته الى نواميس الضياء …يكره الحشرات ويتانق في الأعياد كما الفراشات يكتسي بالوانها البيضاء والإرجوانية والبرتقالية والحمراء والزرقاء …يراها في المرايا كقوس قزح ويلاحق روح الشعر كما تلاحق الفراشات الشذى بين الزهور ، ليدرك معنى ظل هائم بين الحدائق”.
فالفراشة صانعة وباعثة للشعر بوصفة يعبر عن طفولة الشعوب بماتحمل من فطرة سليمة وخيال خلاق.
ويتمثل ذلك من خلال اعطاء الفراشات صفة المرممة للوجع ( وهل للفراشة أن تضمد آثار الوجع؟) وما الاستفهام هنا الالبيان حجم الصراع وقوة العدو المقابل وإشارة الى أن الفراشة هي فعل يتأطر ضمن ديناميكية الفعل وردة الفعل المعادية.
الإبن: رمز إشاري يعكس المستقبل بوصفه المحايث مع اللحظة الراهنة بما تنوء به من ضعف، ولكن هذا لاينفي نقاء السريرة التي تجعل منه حاملا للخصب متى ماتفادى الصدام وحمل من المراوغة عبر السباحة مستلهما من تجارب الماضين ونجاحهم وخيباتهم القوة إشارة الى أن فضاءات الحرية لا يتمتع بها هذا الوطن الذي هيمنت عليه الخنفساء رمزا للانساق الثقافية.
“قالت له انه مازال في سن الربيع، تغويه اللغة لامتصاص رحيقها تنبعث منها أحاسيسه الطيبة ولكنها تهيم به الى السراب الخادع، وان هناك خنفساء هرمة سوف تبيض على أوراقه وتعفنها و وما عليه إلا أن ينمي حركة جسده لتنطلق الروح القوية من مساماته كفراش الشعر ليحكم القبضة على الخنفساء الهرمة ويتعلم كيف يصارعها …..عليه أن يتعلم سباحة الفراشة قبل يخط خيلاته تظلل االمشهد.”
ونتيجة هذا التصارع الثقافي سيحقق النجاح والاحاطة بهذا الواقع والهيمنة عليه ومنع انتشاره وامتدادة.وعنده يكشف (الابن/المستقبل )عن الشخصية المسطحة والنمطية للخنفساء” عندما ينتج ذلك الابن بعد السباحة/القراءة نصا واعيا عميقا “تعلم أن يسكب الماء على الخنافس يتلذذ بمشهد جهلها لفن السباحة”.وهنا أسندت القاصة افعالا مطابقة لطبيعة كل من الرموز ( الرموز المهيمنة/الخنفساء والرموز الموازية / الفراشة).
الجهل… الخنفساء
العلم … الفراشة
وهذا الاسناد رهان على القلم الذي يمده البحر بأفق للرؤية لاينفذ.
ومن هنا فالنص يتناول الواقع المادي ولكن وفق رؤية تتسم بالعمق الفلسفي ليعري من خلالها رواسب العفونة. ويجسد فيها الصراع بين الفكر والمادة وبين السطح والعمق، ويتشوف المستقبل من زاوية رؤية الباحث عن جماليات القيم الحقيقية لا المزيفة بوصفها التداولي.
فالنص يستقرىء عناصر الطبيعة تشريحا للكامن في الذات لنقد المجتمع العربي في حركته الثقافية المتوترة، وبحثا عن الجمال ضد القبح ، ومن ثم تعرية للواقع بكل ما يترسب ويطفو على السطح.