الغناء والسياسة في تاريخ مصر – كيف تلهب الأغنية السياسية الجماهير في زمن الثورات؟

الجسرة الثقافية الالكترونية
يعتقد البعض ان الموسيقى والغناء منتج فني يقتصر دورهما على الترفيه والتسليه فقط ولكن الذي لا يدركه الكثيرون ان للفنون ادوارا متعددة في سياسات البلاد وكثيرا ما يستخدمها الحكام والسياسيون في تسهيل مهمتهم، حتى السياسات المرتبطة بالعقيدة الدينية كثيرا ما ارتبطت بالموسيقى والغناء، ويشهد التاريخ على ان الموسيقي والغناء لعبا دورا بارزا في السياسة المصرية وبالمثل فقد لعبت التوجهات السياسيه دورا ايضا في تشكيل الحركة الفنية.
تؤكد الدكتورة ياسمين فراج مؤلفة هذا الكتاب على ان العلاقة بين الحركه الفنية والسياسة كانت وما زالت علاقة جدلية احيانا تكشف عورات الانظمة السياسية وتواجهها واحيانا اخرى تصفق لها وتنافقها، احيانا يناهض الفن اشخاص السياسيين وساساتهم واحيانا اخرى يتبادل معهم المنفعة.
وفي كل الاوقات كانت وما زالت الاغنية وسيلة هامة لتوجية وتعبئة الشعوب فمن خلالها تشكل وعي ومفاهيم الكثير من ابناء الوطن الواحد وتشكلت طبيعة العلاقات الاجتماعية بينهم فقد ساهمت الاغنية بشكل فعال في تعبئة الشعب ضد المستعمر او المحتل كما حدث قبل اندلاع ثورة 1919م كذلك حمست الشعب للاتيان بنصر اكتوبر واخيرا كانت مؤشرا واضحا قبل اندلاع ثورة 25 يناير، وعندما يتدنى مستوى الفن ومعه الموسيقى والغناء تختلف اخلاقيات المواطنين تاثرا بهذه الفنون.
ربما يتساءل البعض:»ولماذا لا يكون الفن هو المتاثر باخلاقيات المجتمع»؟
والاجابة: ان كليهما يتأثر بالاخر ولكن دائما ما يكون تاثير الفنان هو الاقوى خاصة على المواطن البسيط اذ انه يعد قدوة للكثير منهم ونموذجا يحتذى به فعندما يكون الفنان موهوبا ويتمتع بعلم وثقافة ومهارة يمكنه انتاج فن هادف راقٍ، أما اذا ما اختلت هذه المعايير فان هذا ينعكس على المنتج الفني ومن ثم يساهم في تشوه المتلقي.
ان انماط الموسيقى والغناء التي تقدم في أي مجتمع تدل على هويته فعلي سبيل المثال عندما تكون غاية الغناء الوطني هي تمجيد شخص الحاكم يمكننا استنتاج ان هذا المجتمع ليس لديه مشروع وطني قومي يلتف حوله ويستفز طاقاته على الانتاج، بما فيه الانتاج الثقافي والفني وانه مجتمع لا يتمتع بحرية حقيقية وان اخلاقيات النفاق والانتهازية هي السائدة بين افراده.
وعندما نجد كلمات الاغنية راقية هادفة بعيدة عن التملق والنفاق لابد ان نعلم ان هذا المجتمع منتج يتمتع بقدر كبير من الحرية الحقيقية وما يترتب عليها من معطيات اجتماعية ايجابية مثل مبدا تكافؤ الفرص والاهتمام بالكفاءات وغيرها.
من هذا المنطلق جاءت فكرة هذا الكتاب الذي تحاول من خلاله الدكتورة ياسمين فراج رصد العلاقة بين السياسة والحركه الغنائية في مصر وتأثر كل منها بالآخر مستعرضة انماطا غنائية في فترات زمنية مختلفة من تاريخ مصر التي تمكننا من رصد مدى تقدم او تدهور او ثبات مستوى الغناء في كل حقبة تاريخية. فقد تغيرت اهداف وانواع وماهية صناعه الاغنية بحسب تغير المعطيات السياسية لكل من الثقافة والتعليم والاقتصاد.. وغيرها وكان لكل من هذه الحقب موسيقاها واغنياتها الخاصة.
ان تاريخ اشتباك السياسة بالحركة الفنية التي منها الغناء زاخر بانواع متعددة منه مثل: الغناء القومي الذي تهدف كلماته الى تنمية الحس الوطني عند مجموعة من البشر يجمعهم الحيز الجغرافي الذي يعيشون فيه معا، والغناء السياسي الذي تهدف كلماته الى كشف سلبيات وفساد الانظمة السياسية لدرجة تصل الى التحريض عليه وعلى رموزه، والغناء الحماسي مثل الاناشيد التي تقدم اثناء فترات الحروب او الاستعداد لها، ومنها الاناشيد المميزة للدول المختلفه والتي تعرف بموسيقى السلام الوطني الغناء التلقائي، او الشعبي الذي ينتجه الشعب اثناء الانتفاضات والثورات والاحداث المرتبطة بالوطن، واخيرا او اكثره الغناء الدعائي الذي ينتج بغرض الترويج الدعائي لتيارات او احزاب او اشخاص باعينهم اثناء الانتخابات البرلمانية او الرئاسية.
فصول الكتاب: ينقسم هذا الكتاب الى خمسة فصول نبدؤها بالفصل الاول الذي يحمل عنوان الاغنية الوطنية بين الماضي والحاضر ويدور حول عرض لانواع وسمات الاغنيات الوطنية في فترات مختلفة من تاريخ مصر بدءا من عصور الفراعنه انتهاء بالقرن الحادي العشرين في تلك الالفية الثالثة التي نعيش في سنواتها الآن لنصل في نهاية هذا الفصل الى انواع الغناء الوطني التي ظهرت عبر تاريخ مصر الحديث وتعريفها بالشرح المفصل.
الفصل الثاني بعنوان «السلام الوطني في تاريخ مصر الحديث» ويدور مضمون هذا الفصل حول تاريخ السلام الوطني في مصر الحديثة، وكل ما يتعلق بملابسات البحث عن النشيد والسلام الوطني لمصر انتهاء بتحليل موسيقي النشيد والسلام الوطني الحالي (بلادي بلادي) واهم التعلايلات التي طرات علية.
الفصل الثالث بعنوان: «الموسيقى هتافات ثورة يناير»، وتناولها بالتحليل الموسيقي والوقوف على الدلالات السياسيه والاجتماعية لهذه الهتافات يتبعه رصد للاغنيات التي تم انتاجها في الفترة مابين 25 يناير حتي نهاية شهر مارس تقرييا من عام الثورة، ثم القاء الضوء على مشروع الارتقاء بالاغنية الوطنية الذي اطلقه مجموعة من شيوخ الشعراء والملحنين والاعلاميين باتحاد الاذاعة والتلفزيون المصري تملقا لثروة يناير ولم يسفر عن شيء وذلك من خلال الجزء المعنون بـأغنيات ثورة 25 يناير الوطنية من الارهاصات الى الادعاءات.
الفصل الرابع بعنوان «سيميولوجيا الاغنيات الدعائية لمرشحي رئاسة الجمهورية»، ويتعرض هذا الفصل لكلمات وموسيقى الاغنيات الدعائية لابرز مرشحي اول انتخابات رئاسية في الجمهورية الثانية لمصر بعد ثورة يناير والوقوف على الدلالات السياسيه والاجتماعية التي روجت لها حملات خمسة من ابرز المرشحين في الجولة الاولى والثانية والتي كان منها الحملة الدعائية لآخر رؤساء مصر وهو «محمد مرسي» وهو الحاكم الاول في تاريخ مصر الذي لم يستمر حكمه سوى عام واحد فقط.
الفصل الخامس بعنوان «المبدعون.. الطريق الى ثورة 30 يونيو» يتناول هذا الفصل توثيق ردود افعال الحركه الفنية والثقافية تجاه الهجمة الشرسة على قوة مصر الناعمة من خلال اربعة محاور اساسية هي اولا رصد الحركة الغنائية للاحداث السياسية وتعبيرها عن نبض الشارع المصري خلال فترة حكم الرئيس الاخواني محمد مرسي.
ثانيا: دور اكاديمية الفنون في صد الهجمة الشرسة على الفنون والصدامات التي تعرضت لها مع جماعة الاخوان والموالين لهم فهي احدى اهم المؤسسات الفنية التي تلعب دورا فعالا في تشكيل الحركه الثقافية في مصر والوطن العربي والتي تشكل خطرا على مشروعهم الظلامي لمصر.
ثالثا: رصد فنون اعتصام المبدعين والمثقفين المصريين اعتراضا على محاولة ضرب القوة الناعمة المصرية بعد مجيء وزير ثقافة ينتمي للتيارات الظلامية ونزوله الشوارع في ثورة الثلاثين من يونيو والتي يمكن من خلالها التعرف على الحالة الانفعالية للشعب المصري خلال عام من حكم الاخوان.
الفصل السادس بعنوان « نقد نماذج لأغنيات ارتبطت باحداث سياسية في مصر حيث يتعرض هذا الفصل لعرض النوتات الموسيقية لمجموعة من الاغنيات التي ارتبطت باحداث سياسية في مصر ولاقت نجاحا ويتم تناولها بالتحليل الاجتماعي والنقد الموسيقي.
المعلومات التي يحتويها هذا الكتاب تهدف للوصول الى عدة نتائج يمكن من خلالها فك شفرات الهواية المصرية واهم المتغيرات التي طرأت عليها عبر الحقب الزمنية المختلفة من خلال نمط الغناء المقدم بهدف تقييمها وتقويمها في حالة الحاجة إلى تقويم سلوك افراد المجتمع اذا ما استدعى الامر ذلك.
كما ان ما يحتويه هذا الكتاب من معلومات حول توثيق ونقد وتحليل اغنيات ثورة يناير ومابعدها هي الاولى من نوعها التي تؤرخ لموسيقى واغنيات هذه الفترة في تاريخ مصر علي امل ان تكون هذه المعلومات مصدرا جيدا للباحثين ونواة لأبحاث اخرى اجتماعية وفنية تنبثق عنها.
….
عمان