رحيل أحد أبرز رواد تيار الواقعية الجديدة المخرج الإيطالي روزي

الجسرة الثقفاية الالكترونية

ناجح حسن*

المصدر / الراي الاردنية

غيب الموت أول أمس، المخرج السينمائي الايطالي فرانشيسكو روزي عن 93 عاما، والذي يعد من ابرز القامات السينمائية الرفيعة في السينما العالمية وواحد من بين رواد تيار الواقعية الجديدة في السينما الايطالية.
قدم روزي عبر مسيرته السينمائية الطويلة التي تعدت ستة عقود من الزمان، منجزا ابداعيا ما زال يثري ذائقة عشاق السينما بجمالياته وتأثراته الانسانية التي تنحاز لمصائر البسطاء والمهمشين في واقع بيئته الخصبة بالاحداث.
تزخر اشتغالات روزي السينمائية بتلك التفاصيل التي التصقت ببيئته، وعوالم عمله الصحفي الذي سبق انغماسه بالسينما، فالمعلوم ان روزي مولود في مدينة نابولي العام 1922 ، وهي المدينة التي عاصرت الوانا من الحكم الفاشي وجرائم المافيا والفساد السياسي والاقتصادي، الامر الذي اسبغ عليه تكوينا سينمائيا مفعما بجماليات الاساليب والابتكار وواعيا لحراك مجتمعه الاتي من جدلية الاستقصاء في التحقيق الصحفي وفنيته في التقاط الاحداث ومعالجتها.

ظلّ روزي ومعه نفر من أقرانه شديد الولع في تطوير مفهوم تيار الواقعية الجديدة في السينما الايطالية، والبناء على اسسها الراسخة، وقدم جملة من الابتكارات والحلول الابداعية التي لا تتنافر مع افلام مخرجين مكرسين: روبرتو روسولليني ومايكل انجلو انطونيوني ولوتشينو فيسكونتي والبيرتو لاتوادا فيدريكو فيلليني وبيار باولو بازوليني وسلفاتورو سامبيري وسواهم..
بدأ روزي مسيرته الإبداعية في فيلم (الأرض تهتز) العام 1948 الذي جاء ثمرة تعاون مع ابرز مخرجي تيار الواقعية الجديدة في السينما الإيطالية الذائع الصيت لوكينو فيسكونتي.
انجز الراحل روزي في العام 1962 فيلمه المعنون (سلفاتورو جوليانو) الذي استطاع من خلاله أن يفرض اسمه على المشهد السينمائي الإيطالي خاصة، والسينما الأوروبية عموما، كواحد من مخرجي النسخة الجديدة لتيار الواقعية الإيطالية، بعد ان قطف جائزة الدب الفضي في مهرجان برلين انذاك ، ففي الفيلم الذي يقترب من أسلوبية بريخت في التعاطي مع الماضي والفترة الزمنية المعاصرة انهمك روزي في تبيان الدواعي التي قادت بطله إلى النشاط الإجرامي، دون أن يغفل ذلك النبض الاجتماعي الذي يقوم بالتواطؤ مع قتلته، وهم جماعات المصالح والنفوذ في الاستفادة من سلسلة جرائمه قبل أن يلقى مصيره المحتوم.
اخذ روزي على عاتقه الاشتغال بأسلوبية مبتكرة، وعمل على تطويرها ضمن أبعاد اشمل، ومساحات اوسع من النقد والإدانة، والتي توجها بفيلمه (الأيدي فوق المدينة) الحائز على جائزة الاسد الذهبي لمهرجان فينيسيا العام 1963 ، وهو عمل شديد الفضح والادانة ضد الفساد ايضا والمضاربات في أسواق العقار، وهو أشبه بالتحقيق الصحفي الذي يكشف من خلاله عن جرأة محملة بجماليات فنية وفكرية أقوى مما هي عليه في تيار الواقعية / الميلودرامية، الذي حاول أن يتبع خطاه في واحد من أفلامه التي حققها بأسبانيا عندما قدم بفيلمه (وقت الحقيقة) العام 1965 حكاية صعود ذلك الإنسان الصحفي البسيط في مغامرة أن يقفز إلى مرتبة مصارع للثيران، وكان أن قدم عملين آخرين على المنوال ذاته بفيلميه: (يحكى أن..) 1967 و (الرجال الضد) 1970 عن عمل أدبي لافت داخل أجواء الحرب، أبدى فيه روزي حماسة فائضة، نظرا لموضوعه الأثير عن عالم الفساد وصخب أجوائه المثقلة بميلودراميتها ضمن أجواء حقبة زمنية على حساب تعقيدات الواقع المعاصر.
استحق روزي مكانته الأكيدة في صناعة الأفلام السياسية بفيلمه المتميز (قضية ماتييه) 1972 الحائز على جائزة السعفة الذهبية في مهرجان « كان « العام 1972، حيث تتمحور احداثه حول واحد من أقطاب رجال الاقتصاد الإيطاليين في مجال البحث والتنقيب عن النفط في معالجة سينمائية غير مسبوقة تلعب على حدي التسجيلي والروائي، حيث اسند الدور الرئيسي الى الممثل الراحل جان بيار فولونتي الذي كرس لاحقا ضمن قائمة اشهر الممثلين في تلك السينما المغايرة للسائد عن مثيلاتها في السينما العالمية.
وفي العام 1973انجز روزي فيلم (لاكي لوتشانو) وهو عمل سينمائي راسخ في اذهان عشاق السينما العالمية لموضوعه الجريء الذي يسير على منوال أفلامه السابقة التي حاكت الجريمة السياسية الآتية من براثن الواقع القاسي، وفيه يرد على الفيلم الاميركي (العراب) للمخرج فرانسيس فورد كوبولا من خلال لغة السينما التي يؤكد فيها على قدرة السينما الأوروبية في إمتاع المتلقي بأجواء العصابات التي تبغي قضية وفهما دون الانغماس في مشاهد العنف والقتل المجاني على طريقة هوليود.
أطلق النقاد على روزي صاحب سينما ما بعد الواقعية الإيطالية الجديدة والتي تعالج صنوف الأمراض الاجتماعية والسياسية تارة يستلهمها من أحداث التاريخ القريب، وتارة أخرى يقتطفها من عناوين تحقيقات الصف المعاصرة بحيوية فائقة الإلمام بمفرداتها وعناصرها الجذابة، كما في فيلمه المثير (المسيح توقف في ايبولي) 1981 الذي اقتبسه من عمل روائي يلخص معاناة طبيب يشتغل في السياسة إبان حقبة موسوليني يجري نفيه إلى بلدة فقيرة في أقصى الجنوب الإيطالي.
وعن أجواء الفساد في حياة أقطاب السياسية بايطاليا، ناقش روزي في فيلم مثير للإعجاب والجدل حققه تحت مسمى (جثث مختارة)، الصراع بين رجالات السياسة واستعانتهم بعصابات المافيا في مهام القتل، في مسعى لإبراز عفن الواقع الاجتماعي والسياسي، وفيه يقترب كثيرا من السينما التسجيلية في بناء سردي بديع التكوين في الجماليات، خاصة في تناوله لمفاجآت ناتجة عن تداعيات أحداث متتالية محملة بالمفاجاءات.
في العام 1981 انجز روزي فيلمه المعنون (الأخوة الثلاث) عن دراما عائلية في بلدة إيطالية يلتقي فيها بعد سنوات طوال من العمل في مدن إيطالية كبيرة، ثلاثة من الأخوة بعد أن وردهم نعي والدهم لوالدتهم ويأخذون في طرح أسئلة عن ظروف معيشتهم بعد مغادرتهم لبيتهم، حيث يصور روزي من خلال تلك التداعيات والذكريات ألوانا من المشكلات وحالات الضياع والفقد التي تعصف بالإنسان الإيطالي ومخاوفه من مستقبل قاتم مليء بأسئلة العدالة والحب والاصالة والقيم الإنسانية الرفيعة والأحلام التي نشأت عليها أجيال في بلدتهم الصغيرة.
واتسمت أفلام روزي اللاحقة بميلها الى التاريخ الذي يرنو الى الواقع كما في فيلمه المعنون (قصة موت معلن) 1983 المستمد عن رواية بذات العنوان للروائي الكولومبي الشهير غبريال غارسيا ماركيز عن دراما تتعلق بجرائم الشرف، وفيه قدم روزي صياغة جديدة تتلائم بواقعيته الجذابة التي درج عليها بأفلامه وهي تندد بالعيوب والفساد الذي ينذر بمصير اسود.
لا شك ان المخرج الراحل روزي نجح في وضع اسمه من بين ابرز القامات السينمائية الرفيعة في السينما العالمية، وهو الذي اعاد لتيار الواقعية الجديدة في السينما ايطاليا الالق بعد ان خفت بريقه في عقد الخمسينات من القرن الفائت، نتيجة لجملة من الازمات التي صاحبت صناعها الاوائل بفعل الظروف الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي عصفت بايطاليا عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى