ردا على محمد العباس: «أبناء البوكر» فائزون بالزّعم وليس بالكفاية

الجسرة الثقافية الالكترونية-القدس العربي-
من عادة مقالات الناقد السعودي محمد العبّاس أن تَنْصَبَّ على ثيماتها انصبابَ الفُجاءة، فلا تترك للواحدة منها وقتاً للمناورة والتقاط أنفاسها، وإنّما تحْفِز جَسدَها الدَّلاليَ ليتكشَّفَ أمام قارئه بموضوعه ومرفوعه معاً، بل ويتكسّل في اللغة سَهواً رَهواً، لله وفي سبيل الله.
غير أنّ العبّاس، في مقالته الموسومة بـ «أبناء البوكر» والمنشورة بـ «القدس العربي» في عدد الأربعاء 23 تموز/يوليو 2014، بدا واقعاً، بوعي تامّ، في شَرَكِ تناقضات عديدة ومقارنات فجّة لا يستقيم ظلُّها أبدا. ومتى عرف القارئُ أنّ للرجل اطلاعا على أسرار الكتابة الروائية وسِرِّ أسرار جوائزها عبّرت عنه كتاباتُه في الشأن السرديّ الحديث، ظهرتْ أمامه أسئلةٌ ممزوجةٌ بحيرة حول وجاهة المقارنة التي أجراها في مقالته بين جائزة نجيب محفوظ وجائزة البوكر، وكثرة التناقضات الواردة فيها. وهو ما أميل إلى تأويله بكون تلك التناقضات والمقارنات إنما هي بِنْتُ خطّةٍ كتابية ماكرة قادته إليها حاسّتُه النقدية، وتوسّل بها تعريةَ واقع هذه الجائزة بلجانها وإعلاميّيها وأعمال الفائزين بها ودور النشر المساهمة فيها تعرية بأيادٍ مَرِنة. وبخلاف هذا الفهم، لا يبقى لقارئ المقالة إلا أن يُرجّح رأياً آخر وصورتُه أنّ الناقد محمّد العبّاس راغبٌ في تجريب «اللعبة البوكرية» من باب لعلّ وعسى، أو من باب «وما عند الله خير للأبرار». وهو ترجيحٌ يُبيحه التأويلُ ولكنّي لا أطمئنّ إليه مطلقاً.
فمن جهة المقارنات، عقد الكاتب مقارنةً طرفُها الأول جائزة المُواطن النوبلي نجيب محفوظ التي يرعاها قسم النشر بالجامعة الأمريكية بالقاهرة، وطرفُها الثاني جائزة البوكر العربية برعاية هيئة أبوظبي للسياحة والثقافة ودعمها الماليّ. وهي مقارنة، لئن وجَدَتْ لها في واقع التقارب الإماراتي المصري الراهن شروطاً تُذيبُ شساعةَ البَيْنِ فيها، فإني لا أجد مَحلاًّ لها في مقالة العبّاس سوى مَحَلِّ ما تُضمر من رغبةٍ في القول إنّ جائزة محفوظ هي جائزة أدبية ولكنها فقيرة الجَيبِ، بينما جائزة بوكر جائزة غنية ولكنها قليلة الأدب. والدليل على ذلك وصفُه الفوزَ بالأولى بكونه أمرا يبدو «وكأنه مجرد مسابقة مدرسية تشجيعية»، بينما قال عن الثانية إنها «حدث ثقافي كبير، يملأ فراغاً فادحاً في المشهد الثقافي العربي».
والبيّنُ في هذه المقارنة – خاصة من جهة جانبها الماديّ المحمول في عبارتيْ «مسابقة مدرسية تشجيعية» و»حدث ثقافي كبير» – أنّها مبنيّة وفق منطق (إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم). وهو ما يجوز معه الزعم بأنّ الكاتب قد تقصَّدها ليُلمِّحَ من ورائها إلى مفارقة كبرى تمثّل الشّرط الكافي للفوز بإحدى تَينِك الجائزتيْن؛ فعلى فقر جائزة محفوظ (ألف دولار أمريكي)، فإن الأسماء الفائزة بها، وِفْقَ ما يقول، «تُشكِّل فتوحاتٍ سرديةً على مستوى المضمون والتقنية» ومن هؤلاء خيري شلبي ومريد البرغوثي وعالية ممدوح وهدى بركات وإدوارد الخراط وخالد خليفة وبنسالم حميش ولطيفة الزيات وغيرهم، ويُضيف قوله: «إلاّ أن كل تلك الأسماء التي تقف وراء رواياتها لا تحظى بنجومية ممتدة لدى القراء». بينما يرى أنّ من الفائزين بالبوكر (ولم يذكر قيمتها بالدولار) «أسماء فازت بالجائزة لأنها لا تمتلك من الوجهة الإبداعية حق تمثيل الجائزة ولا حقيقة الخطاب الروائي العربي في آخر وأصفى تجلياته» ( ليْتَ العبّاس ذكر لنا كاتبا واحدا من هذا الرهط لتطمئنّ قلوب القرّاء).
ومتى عاد قارئ مقالة محمد العبّاس إلى عنوانها «أبناء البوكر»، وقف على ما في هذا العنوان من تحقير للفائزين بالبوكر وتشهير بهم، وذلك من جهة تناص عبارة «أبناء البوكر» مع العبارة القرآنية «أبناء الله»، وهو تناص مُحيلٌ على أنّ الفائزين بها إنما هم مُختارون بالزَّعْمِ وليس بالكفاية، كزعم اليهود والنصارى بكونهم أبناء الله، ولكن زعم هؤلاء الكُتّاب يفضحه واقع رواياتهم كما فضح اليهودَ والنصارى قولُه تعالى (قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ). بل إنّ عنوان مقالة العبّاس مليء بالإيحاءات الثاوية الأخرى التي منها أنّ أبناء البوكر ليسوا سوى يتامى أنعم عليهم الخيِّرون بموائد كريمة، ومنها أنّ على هؤلاء الأبناء أن يظلّوا أوفياء للبوكر، أعني كادرها ولجنتها ودولتها، وأن يُطيعوها في كل أمر، ومنها أيضا أنّ هؤلاء الأبناء لم يبلغوا بعدُ سنَّ الرّشد الكتابي الذي يُبيح لهم الخروج عن سلطة الأب.
ولا أخال عديدَ «هَناتِ» البوكر بفائزيها وأعضاء لجنة تحكيمها وكادرها الاستشاريّ إلاّ وفيراً وخطيراً. ولو شئتُ توصيفَ ذلك لقلتُ إن منه مثلا أن الجهة الراعية لهذه الجائزة جهةٌ طيّبةُ القلب، وابنةُ حَلالٍ، ولا تخشى من الفقر والحسدِ، وهو ما شجّع فريقاً من تُجّار الثقافة والإعلام من العرب والأجانب على التسرُّبِ إليها في صفة كوادر ومستشارين يحكمهم جميعا قانون الشّلليّة والتطبيل، ومن ثمة راحوا يملؤون الفضاءات الفنية والفكرية بأبوظبي بأتباعهم وأتباع أتباعهم، مانعين سواهم من وُلوجها حتى لا تنكشف حقيقتُهم التي تتلخّص في تحويلِهم الفعل الثقافي والفكري المُعلَن إلى فعل تجاري خفيٍّ ومشبوه لا يجني عائداتِه الماليةَ أحدٌ سواهم.
ومن ذلك نذكر مثلاً آخرَ وصورتُه أنّ أغلب الروايات الفائزة بالبوكر ينهض محمولُها القَضَويُّ على دعامة رفض الإرهاب والتنديد بالإسلام السياسي ومَقتِ الطائفية، وهي موضوعات تشغل الراهن العربي، وتُمثّل مساءلتُها في الرواية تفعيلاً من الكتّابِ لوظيفة الأدب في اتصاله بواقع المجموعة الاجتماعية التي أُنتج فيها. بل هي موضوعات أراها قد أزّمت واقعنا العربيّ وأدخلت الناس في فوضى دينية وحزبية انجرّ عنها انعدامُ الأمن الجماعي والشخصيّ، وتنامَى بسببها الخوفُ العامّ. ولكنّ هذا لا يمنع، على الأقل من باب التأكّد من صحّة خلوص جائزة البوكر لشرطها الأدبي، من أن تفوز بهذه الجائزة رواية واحدة، رواية واحدة يا عباد الله، لم تُغَنِّ أغنيةَ مكافحة الإرهاب والتطرّف الدّيني أو الحزبي أو الطائفي. ويبدو أن حرص البوكر على مكافحة الإرهاب مثَّل موضوعةً أثيرة بالنسبة إلى الروائيّين الطامحين إلى مجدها، بل إنّ تلك الموضوعة وتفاصيلها صارت بالنسبة إلى هؤلاء صورةٌ لوصفة سحرية تَشفي غليلهم من شهوة الفوز.
ومن الهَناتِ الأخرى أن أغلب الروايات الفائزة بالبوكر لا تشدّ إليها قارئها إلا في الخمسين صفحة الأولى، ومن بعدها تَعُمّ فيها الفوضى مبنى ومعنى، فتنتفي منها المُتعة، ويظهر فيها فتورُ عزيمة كاتبها وخوفُه من تنامي أحداثها، فيجنح فيها إلى خَنْق حريّة الشخصيات وهلهلة الحكاية والهروب من خواتمها وتَرْكها تجري بغير هدى. وحتى إذا سلّمنا بجدارة تلك الروايات بالفوز بالبوكر، فإن الواحدة منها تظلّ عند كاتبها مثل بيضة ديك، يدور بها من معرض إلى آخر، ومن ندوة إلى أخرى، ومن إعلاميّ إلى غيره، حتى إذا أتعبه الدوران وناله من غثيان مُرٌّ، أطبق عليها جناحيه ونام نومَ المَوْجوع.
ولا يفوت في هذا الشأن، القولُ بأنّ هناك روايات أجدرُ بالفوز من تلك التي نالت البوكر، غيرَ أنّ كُتَّابَها لم يتوفّروا على «بَخْتٍ» يضع رواياتهم أمام أعضاء لجنة من الأكاديميّين المدرسانيّين الاجتراريّين الذين لا علاقة لأغلبهم بفنون الحكيِ، ولا يقتربون من سِرّ السّرد إلا بعتادِ جيرار جينيت الذي بات عاجزا عن الإحاطة بجُموح الرواية الحديثة.
نقول هذا ولم ننسَ بعدُ ما ختم به الناقد محمد العبّاس مقالته «أبناء البوكر» من قول ينتقد فيه أولئك الذين ينتقدون البوكر: «وكأنهم قد تحلّلوا من خطابهم النقدي ليتحولوا إلى نقاد جوائز».