صلاح عبدالصبور كشف المتاجرة بالإنسان والسلطة التي تقهر الإبداع

محمد الحمامصي
أجرى الناقد د. جابر عصفور خلال الفعالية الأولى من شخصية العام لمعرض القاهرة الدولي للكتاب في دورته الـ 47، والتي حملت عنوان “رؤى التجديد في شعر صلاح عبدالصبور”، مماثلة بين الشاعرين صلاح عبدالصبور، وأحمد شوقي، معتبرًا أن كلا الشاعرين لم يكتف بالشعر، بل خرج إلى عالم المسرح، وقدّم أعمالًا مسرحية قيّمة، ويكاد يكون نفس عدد المسرحيات الشعرية.
ورأى عصفور أن صلاح عبدالصبور، شكل منذ نهاية الحرب العالمية الثانية إلى أن توفاه الله، بؤرة الاهتمام، ولا يزال أهم شاعر مصري بعد أحمد شوقي.
وقال “يتميز بعمق الرؤية الشعرية وشمولها الذي يجمع بين الفيزيقي والميتافيزيقي، فتأملاته في عوالم الإنسان والطبيعة وما بعد الطبيعة، فضلا عن غنائياته ومسرحياته الشعرية تضعه في الصف الأول من شعراء العالم المحدثين، وتحفر له مكانا هو جدير به بحق بين الشعراء العالميين الذين تأثر بهم، مثل ت. إس. إليوت ولوركا وغيرهما، وكتب شعرا لا يقل في المكانة والقيمة عن شعرهم.
ولذلك فأنا أضعه في القلة القليلة من شعراء العرب المحدثين الذين يمكن أن يتبوءوا مكانة عالية بجدارة. وليس ذلك لأنه غاص في الخاص إلى أن وصل إلي الجذر الإنساني العام، وإنما لأنه كان – إلى جانب ذلك – نصيرا للقيم الإنسانية التي تجعل من الكائن البشري إنسانا على وجه الحقيقة. وكان من نتيجة ذلك أنه ظل يدافع عن قيمتي الحرية والعدل، بوصفهما النجمين اللذين يضيئان للإنسان رحلته في الكون أو العالم، وهو ما كان يدفعه إلى التشبث، شعريا، برمزية السندباد وحركته المتلهفة الدائمة والمتمردة التي لا تتوقف لاكتساب المزيد من المعرفة، فالسندباد كالإعصار، إن يهدأ يمت”.
واعتبر أن عبدالصبور هو الذي يكون مختلفًا عما قبله وبعده، فيأتي ويصنع نوعًا من الفاصل عن ما قبله وبعده، وقال إن عبدالصبور شاعر غيّر الاتجاه والرؤية وتقنيات الشعر، ويصعب جدًا أن نقول إن هذا الشاعر أو ذاك ترك هذه الآثار التي تركها.
وتابع “لقد غيَر الشعر العربي لأنه كان صاحب رؤية عميقة غير مسبوقة، تطرح تصورات عن الطبيعة والإنسان، فيها من عمق البصيرة، وفنية الشعر والإبداع ما يجعلها أن ترتفع عن غيرها من الرؤى”.
ورأى د. عصفور أن الشعر المصري لم يجرؤ عن الحديث عن الله أو معه، لكن عبدالصبور فعل ذلك في قصيدة “الحوارية”، صوت الله وصوت الإنسان، والعلاقة بين الله والإنسان في البداية كانت رموزا صوفية، وفتح باب الشعر أمام التأملات الميتافيزيقية أمام العالم، وصلاح عبدالصبور، تتصل بطبيعة الإنسان ومدى قيمة الإنسان نفسه.
ورأى أن المبدعين المصريين الوحيدين، نجيب محفوظ، وصلاح عبدالصبور هما من أدخلانا في أسئلة وجودية عبر إبداعاتهما، “لم يجرؤ مبدع قبلهما على طرق هذا الباب، فاتحين بذلك أفقًا للإبداع العربي والمصري”.
وأوضح أن شعر عبدالصبور تميّز بالجرأة التي تجعله أن يطرق موضوعات محرمة، وعندما نصل إلى ديوانه “أحلام الفارس القديم”، انفتحت التجربة على مصراعيها.
وأطلق عصفور على صلاح عبدالصبور، لقب “الحكيم المحزون”، مبررًا ذلك بأن الظرف الاجتماعي والظرف السياسي، كان لديه نوع من الحزن.
وبالنسبة للمسرح، تصوّر “عصفور” أن صلاح عبدالصبور كان لديه مشكلة المثقف، التي تتمثل في الحاكم المستبد والمجتمع المتخلف، إذن ماذا يفعل المثقف في هذا العالم؟، فقد تمسك عبدالصبور بالحرية والعدل، الذي وصفهما بأنهما نجمان مضيئان على الكفين.
وتطرق عصفور في حديثه، إلى موقف صلاح عبدالصبور، من أزمة الديموقراطية سنة 1954، والتي اندلعت عقب الثورة، وكان عبدالناصر يرفض تطبيق الديمقراطية آنذاك، فعبر عبدالصبور عن الأزمة بقصيدة “عودة ذو الوجه الكئيب” في هجاء عبدالناصر، واستخدم هذا العنوان الرمزي، وقصد الوجه الكئيب بالديكتاتورية والتسلط.
وقال إن إحساس صلاح عبدالصبور بعبثية الوجود والحيرة الميتافيزيقية المقترنة بغياب اليقين، كلها كانت عوامل مؤدية إلى أن تنبثق بواكير الصور العبثية فى شعره، حتى من قبل أن تحدث كارثة 1967 التى بدا كما لو كان يتنبأ بها، نتيجة شعوره القوى بوصفه مثقفا إزاء غياب قضية الديموقراطية وتقلص الحريات فى المجتمع المصري، وذلك فى تضافر مع حيرته الميتافيزيقية التى لم يكن يجد فيها إجابات تقنعه أو تؤكد فيه نوعا من أنواع اليقين المريح. ولذلك ظهـرت بوادر نزعة عبثية في الكتابة، ابتداء من ديوان “أحلام الفارس القديم” الصادر سنة 1964، وأعني بذلك قصيدته “مذكرات الملك عجيب بن الخصيب”.
و”شخصية عجيب بن الخصيب” شخصية مأخوذة من ألف ليلة وليلة، ولكنها تؤدي دورها في القصيدة بوصفها قناعا دراميا يرهص بما جاء في مسرحيات صلاح عبدالصبور بعد ذلك.
والقصيدة القناع تروي مشاهد من حياة هذا الملك الذي يشعر بوطأة الإرث الذي ورثه عن عائلة يمتد الفساد في جذورها، وعن إحساس بالضياع والقلق الوجودي رغم الثروة والمكانة اللتين يتمتع بهما، فيندفع في البحث عن اليقين أو عن الحقيقة التي تنير له الطريق وتكشف له عن المعنى الذي لا يراه في حياته التي لا تنطوى إلا على ما هو غير معقول”.
وطرح عبدالصبور، أسئلة شديدة الخطورة ليس على المستوى الميتافزيقي، والمستوى السياسي، فعبر عن المسكوت عنه باستخدام الرمز والقناع الفني، بخلاف دوره في النقد الشعري والمسرح والرواية والقصة، فلم يقف عند كتابة المسرح والشعر فقط. وطالب عصفور الهيئة العامة للكتاب، بإعادة نشر أعمال صلاح عبدالصبور كاملة.
وقال الشاعر أحمد الشهاوي إن الاحتفاء بالشاعر صلاح عبدالصبور احتفاء بمرور 60 سنة على إصدار ديوانه الأول “الناس في بلادي” الصادر عام 1957، مشيرًا إلى أنه شاعر حديث وهب حياته واجتهد حتى يصير شاعرًا له مذاقه وعالمه الخاص، فقد صفى لغته من كل فضول، وتعددت الأصوات في شعره وفتح آفاقًا أخرى للكتابة حيث الهامش والمألوف متنًا.
وأكد الشهاوي أن أعمال عبدالصبور لم تصدر كاملة حتى الآن، ولا تزال بعض نصوصه الشعرية وترجماته غير موجودة في الهيئة العامة للكتاب.
ورأى أن عبدالصبور صاحب لغة جديدة، انتصر لقيم جمالية وفنية مختلفة، ومن الخطأ أن يقرأ شعره في تعجل، لأن نصه متعدد التأويل ولم تكن إضافته جمالية فقط بل له دور في خلخلة دولة المعنى التقليدية، مبتعدًا عن الكتابة الشعرية المباشرة، واستطاع عبر ستة دواوين أن يبني ويؤسس قمرًا شعريا له وجهان.
وأضاف الشهاوي أن الشائعة تحجب ولا تقتل، والشائعة قد تكون شفاهيًا وقد تكون مكتوبة، وفي كتاب “قضايا الشعر المعاصر”، للشاعرة نازك الملائكة، كانت في سبيل أن تنزع الريادة عن الشاعر صلاح عبدالصبور، فقد أخذت عليه، بحد قولها ركاكة الإيقاع وضعف البناء وتنفير السمع، وهذه المقوله التي هي بعيدة عن النقد وكونها تصدر من شاعرة ودارسة، حجبت صلاح عبدالصبور فترة من الزمن.
واعتبر د. محمد سيد إسماعيل، أن عبدالصبور كان مسبوقًا إلى فعل التجديد، وما لا يعرفه البعض أنه كان في بداياته الأولى قد رفض ما شاعت تسميته بـ “الشعر الحر”، وسخر منه، وهو موقف فيما أرى يحسب لصلاح عبدالصبور لا عليه، فقد كان يرى أن الشاعر ينضج على نار هادئة، بمعنى أن التطور يجب أن يكون نموًا طبيعيًا، والتجديد ليس قفزًا في الهواء بل خطوات محسوبة وصابته، وهذا ما يفسر رأيه في مصطلح الشعر الحر.
وقال د. محمد عبدالله، إن عبدالصبور، هو صاحب المفتاح الذي فتح لقصيدة التفعيلة الباب على مصراعيها، ولولاه ما سمعنا عن الشاعر أحمد عبدالمعطي حجازي، ولم يجرؤ أحد أن يقف أمام عباس العقاد، فكان صوتا راصدًا لأدق الذبذبات التي عاشها الإنسان في سبيل الكلمة، وكشفت إبداعاته المتاجرة بالإنسان والسلطة التي تقهر الإبداع.
كذلك كان لديه تجريب إبداعي وابتكار في أسلوب شعري خاص في الحوارية الدرامية المتمثلة في مسرحه الشعري، وبعض الأشخاص يرونه شاعرًا فلسفيا، فلسفته قائمة على الموت بل كان يبدأ من الموت إلى الحياة، فكان يريد أن يجعل الإنسان يعيش في هم كوني متكامل.
(ميدل ايست اونلاين)