عيسى الشيخ حسن: القصيدة طائر سارق الحناء وأنا أركض وراءه

الجسرة الثقافية الالكترونية
مبروكة علي
عيسى الشيخ حسن شاعر من مواليد قرية أم الفرسان – القامشلي، لديه أربعة دواوين شعرية آخرها ديوان “مرّوا عليّ”، الصادر منذ أيام، عن دار نينوي، بعد “أناشيد مبللة بالحزن” و”يا جبال أوبي معه” و”أمويون في حلم عباسي”. حاز على العديد من الجوائز، منها جائزة الشارقة في دورتها الخامسة وجائزة عبدالوهاب البياتي في دورتها الأولى كما نشرت له العديد من المقالات الأدبية.
فخاخ المجاز
عن تشكل القصيدة عند عيسى الشيخ حسن، بعد تجربة شعرية شهدت إنتاج أربعة دواوين شعرية آخرها “مروا عليّ” الصادر حديثا، يقول “لو كنت أعرف كيف تتشكّل لما كتبت، في استطاعتي أن أقول إنّ القصيدة طير سارق الحنّاء، ظلت تقفز أمامي كلّ هذه السنين، وأنا أركض وراءها، مررت خلالها ببلاد وأيديولوجيات وأقمار وشموس، وكنت أركض، وكانت تغيب إلى أن أفقد الأمل، فتبدو قريبة على مرمى كلمة فأركض، وكلّ هذه الدواوين محطّات استرحت فيها وبها من الركض وراء طائر الشعر”.
ويضيف الشيخ حسن قوله: “عندما كنت شابّا كنت رياضيّا يعدو كلامي على غير هدى، يعدو بسرعة انفعالات نزقة ولغة جموح، كان في صوتي صهيل أحصنة تركض نحو انكساراتها بعنفوان، الآن صرت أمشي بهدوء، أراقب ذلك الطائر بخشوع، وأتلمّس آثار قدميه برفق، وفي مرّات كثيرة أوهمه أنّي نائم فيخمش يدي، ويطير حولي. القصيدة الآن تفتش في جيبي عن مصروفها اليومي من اللغة والشمس، وتمضي”.
ويتابع: لم أعد أنصب فخاخ المجاز لطائر الشعر، بعد هذه السنوات، لم يعد لي شغف بامتلاكه، فقصيدتي الآن زاهدة بطموحها القديم، تكتفي بشاي الصباح، وهدهدات الأمهات حول الأسرّة. طيلة السنوات الماضية كنت أكتب سوريا (سوريّتي) التي ومضت من هناك، كتبت الأمكنة والناس، كتبت أهلي الذين لم أرهم منذ خمس سنوات، هذه الكتابات جمعتها في ديوان جديد سيصدر قريبا بعنوان “حمام كثيف”.
الكتابة بخير
يذهب الشاعر عيسى الشيخ حسن إلى أن الكتابة عامة والشعر خاصة قادران على الوقوف أمام آلة الخراب التي عشش العالم فيها. يقول: نهاية الحرب الباردة، طرح بعض المفكرين سؤالا “هل يمكن للأفكار أن تغيّر العالم؟” كان واضحا أن السؤال يدعو إلى تبديل أسباب الصراع وقيادة دفة العالم من المصالح إلى الأفكار المجرّدة، إنّنا هنا أمام سؤال الحريّة الذي يدفع السوريون ثمنه، فالكتابة الحرّة تستدعي كتّابا أحرارا بالضرورة، وعندما تكون الكتابة بخير فالشعر بخير، فأجناس الكتابة محكومة بقانون الأواني المستطرقة. الكتابة التي تحيل الأفكار إلى ضوء في ليل المأساة.
ويواصل قوله : عندما جاء المغول كان السوس الذي نخر بغداد قد آذن بسرعة سقوطها، لكنّ شعرا جديدا مختلفا جمّل وجه البؤس من خلال شعراء مختلفين عن منظومة الشعر العربي وأقصد بهم شعراء الصوفية ومنهم جلال الدين الرومي وسعدي وحافظ. بعد النكسة كانت أصوات شابة من فلسطين استعادت إيقاع الحياة وخطفته من جوقة البكاء العربي، القصيدة تلطّف الواقع، ولكنها لا تغيّره.
شعر الومضة
اليوم، صار جلّ الشعراء يتوجهون إلى ما اصطلح على تسميته بشهر الومضة، لأنه ثمة واقع ربما ساعد في وجوده، عن هذا النوع من الكتابة، يقول الشاعر السوري: كانت قصيدة الومضة أحد مخارج الشعر للنجاة من هيمنة الإرث الشعري العربي، وحقّقت نجاحات متناثرة وملموسة في أكثر من تجربة.
على الرغم من أنها لم تعدم صلة القربى مع القصيدة الأم، فالعرب عرفوا “بيت القصيد” و”وحدة البيت” والقطعة والنتفة و”الدو بيت”. ولكنّ قصيدة الومضة كقصيدة واضحة الهدف والبناء أخذت منحى جادّا نحو التكثيف والإيجاز والقفلة المفارقة المدهشة، ومازالت إلى الآن تراهن على حقّ تمثيلها للقصيدة الجديدة.
لكنّ اشتباه كتابتها مع منجز كتابي جديد يجري تمثّله عربيا وأقصد به قصيدة الهايكو (من جهة) ومع القصة القصيرة جدا وما يطلق عليه الـ(ق. ق. ج.) من جهة ثانية، وغزارة المكتوب نثريا وركاكة معظمه، يجعلها تقف على تخوم التجربة الأولى.
من يقرأ في دواوين الشيخ حسن السابقة أو حتى ديوانه الجديد يلاحظ أنه يتخذ لغة سهلة قادرة على جذب قراء من مختلف المستويات الثقافية، فالبساطة هنا فخ أم وسيلة لإيصال الرسالة الشعرية التي أراد لها الوصول. في هذا الإطار يعتقد الشيخ حسن أن البساطة رهان يتحدى به الشاعر ذاته، حكم هذا عند القارئ والناقد في ظلّ غياب نقد فاعل في المشهد العربي، وتظل تجاربنا رهن نجاحات صغيرة يبشرنا بها الأصدقاء والقراء، فالشعر أمام تحدّ حقيقي، في أن يثبت جمالياته بعيدا عن ماكياج اللغة، الشعر الحقيقي لا يتعالى على قرائه ولا يستسلم بسهولة للناقد، وكل شاعر يطمح أن يكون نصّه “معطى عامّا”، تحتويه زمر الدم الأخرى.
يقول الشاعر: تمنح البساطة حقّ المتعة والنقد لجمهور واسع، ويكون الشاعر محظوظا أن يسمع أو يقرأ تعليقا على قصيدته من طالب في الإعدادية، بالقدر الذي تفرحه بهجة ناقد ما بما كتب.
قصيدة النثر
البعض يرى في قصيدة النثر سطوا أو خرقا للشعر إذ أنها بين بين فلا هي شعر ولا هي نثر، عن هذه المسألة يقول الشيخ حسن: لم تعد قصيدة النثر الابن غير الشرعي للشعر العربي، وتقف عند عتبة البيت، فقد حضرت بقوة في الآونة الأخيرة، وصارت واقعا، ووجد فيها بعض الشعراء -من كتّاب التفعيلة- سبيلا إلى الخروج من “إكراهات العمود الشعري”، وقميصا جديدا للقول الشعري. في المدن الكبيرة نشاهد البيوت الأثرية القديمة جوار العمارات الجديدة، وهكذا في المشهد الثقافي العربي ظلّت خيمة العمود إلى جانب شقّة قصيدة النثر، لم يعد مهمّا أين يجد القارئ العربي بيته، المهمّ أن يجد الكهرباء في البيت الشعري. ورغم هيمنة قصيدة النثر بجمالياتها، وغزارة منتجها، فمازالت قصيدة العمود والتفعيلة تقدّمان بين الحين والآخر نماذج جميلة ومواهب متفجّرة وواعدة، وهاضمة لتجربة الحداثة، ومن هذا الباب يكون الفضل لقصيدة النثر على الهزة التي أحدثتها في البركة الساكنة.
ثمة تدفق شعري وأدبي في الساحة السورية، البعض يراه مجرد إسقاط تسببت الحرب فيه والبعض يراها تجارب ناضجة بحيث استطاعت أن تمتد وتتواصل، فما هو رأي الشيخ حسن في الإنتاج السوري الأدبي والشعري اليوم، يقول: ليس الشعر السوري وليد الظرف الراهن، ولم يكن. فالشعر السوري هبة عجينة الجغرافيا الجميلة وتعدد الثقافات، دعك من الشعر السوري القديم، ومن الشعر العربي في الشام في الجاهلية والإسلام، دعك من الشعر العربي الحديث ورواده من السوريين، أحدثك عن التجارب الشابة فقط، فلنذهب إلى أيّ مسابقة شعرية عربية، ونقرأ بياناتها سنجد عددا كبيرا من المشاركين ومن الفائزين.
ويضيف قوله: سوريا بركان شعري، وما زاده اشتعالا ظروف الثورة والحرب، ومآلاتها على واقع السوريين، ولا بدّ أن عدد الشعراء قد تضاعف، ولكنّ الحرب ستتوقف يوما، وسترسو سفينة السلام والشعر على الجوديّ، وسننجو بعدد قليل من النصوص.
ويواصل الشيخ حسن: الشعر السوري ابن بيئته العربية، يعيش أسئلتها وهمومها، وهناك قمم شاهقة، كتابات ناضجة، وأخرى شابّة واعدة، ولا تنس أنّ المآسي تترك وراءها الأغاني الحزينة المؤثرة، وهذا قدرنا الذي نمضي إليه.
المصدر: العرب