ريمون جبارة رحل إلى مثواه الأخير وشموع مسرحه ستبقى مضيئة

الجسرة الثقافية الالكترونية
*زهرة مرعي
المصدر / القدس العربي
حتى في أمنية موته جنح ملك المسرح اللبناني وأحد بنات لبناته الأولى، نحو العبثية. رغب موتاً والسيجارة بين إصبعيه. لكنه فطن برغبة أخرى أن لا يكون في الفراش كي لا يحرقه «أحسن ما تزعل مرتي». الرحيل واحد، ورحيل الكبار ليس برحيل. هم لا يقتلعون. آثارهم تقبع في الذاكرة سواء المحفوظة في البال، أو في أعمالهم الخالدة التي تتحدث عنهم. هذا حال ريمون جبارة المزروع في مسارح بيروت والمناطق كافة، وفي ما نهل منه طلابه من فنون. بالأمس وري الثرى في بلدته قرنة شهوان بحضور رسمي، أكاديمي، فني وشعبي، وأخذ معه سنوات عمره الثمانين.
في العام 1935 ولد ريمون جبارة في قرنة شهوان من أبوين يقول إنهما ليسا سوى من الفقراء. في حوار معه يسترسل بعبثيته التي ولدت ملازمة له بأنه ينتمي لعائلة حمير. وفي تفسيره لهذا الوصف الذي ألصقه بعائلته أن والده كان موظفاً برتبة حاجب في الدوائر العقارية، لكنه غادر الوظيفة إلى الموت فقيراً، كما طيلة عمره. والسبب أنه لا يرتشي وبخاصة في مكان وظيفي يُصنف نهراً جارياً بسخاء للرشا. وبحسب جبارة يوصف غير المرتشي في لبنان بـ«الحمار».
مسيرة ريمون جبارة مع التمثيل والمسرح بدأت في عمر الطفولة. مسرحية «سقوط غرناطة» كانت البداية التي حملته إلى مسيرة طويلة استحق من خلالها لقب رائد المسرح العربي العبثي. تلك المسرحية لُعبت في قريته، ومن نص لأحد ابنائها، ومن اخراج المختار. عاكسته الأيام بعد موت مفاجئ لوالده وكاد يضل طريق المسرح بمهن اخرى، لكنه عاد إلى عشقه الأول وبلعبة من الصدفة، ومن خلال صديقه منير أبو دبس، الذي كان يدير في ذلك الحين «معهد التمثيل الحديث» والذي أصبح لاحقاً «مدرسة بيروت للمسرح الحديث». وهذه المدرسة خرّجت كبار المسرحيين في لبنان.
عُرف مسرح ريمون جبارة بسخريته المرّة والسوداء. فهو عبر من خلاله عن أساه من الحياة، وعن الظلم الذي لحق به وبالكثيرين من بني البشر. رغم شغفه بالمسرح وتفرغه شبه التام له، لكنه وصفه مرة بالحب المحرم الذي يمارسه في الخفاء.
جبارة الذي عُرف كواحد من كبار المخرجين بدأ ممثلاً، وظل حتى آخر حياته يحب الوقوف على الخشبة. فقد وقف ممثلاً في مسرحيات لبيرج فازليان. وأسس فرقة المسرح الحر مع الأخير ومع مادونا غازي. لكنه قرر في بداية السبعينيات أن يكون كاتباً ومخرجاً لمسرحياته فكانت أولى مسرحياته لتمت دسدمونة. ولاقت ترحيباً من الوسط الثقافي والنقدي بخلاف الوسط الشعبي. في مسرحه ابتكر جبارة عالماً قاسياً جارحاً فيه كل مآسي الحياة التي واجهته بالمرض والفقر. كذلك اخرج مسرحيات للراحل منصور الرحباني.
يذكر أن ريمون جبارة اصيب بشلل نصفي نتيجة عارض صحي في بداية التسعينيات، وبات يتنقل في سنواته الأخيرة على كرسي متحرك. لم يترك مسرحاً ولم يشاهده، وظل على تفاعل وتماس مع الحياة رغم المرض. كما أعاد تقديم العديد من مسرحياته بدءاً من 1990 ومع ممثلين جدد، وهذا ما جعله بنتعش.
وقد عرف برفيق المهمشين. كما ويعرف بالمتمرد على أي سلطة. تميزت خشبة مسرحه بالتقشف. وقد لاقى مسرحه ترحيباً مميزاً، وأثار نقاشاً عميقاً بين مريدي المسرح.
كان جبارة صديقاً لقائد حزب القوات اللبنانية. وبينهما جلسات حوار طويلة بحسب ما قاله سمير جعجع. والذي أكد في تصريح أدلى به بعد وفاة جبارة أن مواقفهما وأفكارهما كانت تتطابق على الدوام.
من مسرحياته: لتمت ديسدمونة، زرادشت صار كلباً، دكر النحل، صانع الأحلام، من قطف زهرة الخريف، بيكنيك ع خطوط التماس، وآخر أعماله كانت مسرحية «مقتل إنّ وأخواتها» في العام 2012.