في معرض «نبض القلم» للفنان المصري خضير البورسعيدي: حيوات وجماليات الخط العربي

محمد عبد الرحيم

يعتبر الفنان خضير البورسعيدي من أهم فناني الخط العربي، خاصة أنه حاول خلال أعماله تجديد تقنيات فن الخط، والخروج به من مدرسته الكلاسيكية التي استمرت زمنا طويلا، وفي معرضه الأخير الذي أقامه في غاليري بيكاسو في القاهرة، وعنونه بـ»نبض القلم» يستكمل البورسعيدي رحلته مع الخط من حيث اللون والتشكيل، ومحاولة ابتكار دلالات جديدة للحرف ومعناه، ابتكار حياة لهذا الحرف أو ذاك، لما للأحرف العربية من قدسية، يسعى الفنان دوماً للإنطلاق منها ومحاولة الإيحاء بها. وما بين الحرف والشكل الدال تأتي اللوحات في تشكيل جديد وإيقاع يقترب من الإيقاع الموسيقي، هنا لا يمكن إغفال ما تتركه اللوحات من حِس صوتي، أو نبض كما أطلق الفنان على معرضه.

الحِس التشكيلي

لم يترك الفنان الأحرف مسطورة، سواء في شكل أفقي أو رأسي، أو فقط لاستعراض إمكاناته الحِرفية، بل عمد إلى خلق تشكيل يكون مصدره وأساسه الخط، دون أن يبتعد هذا التشكيل في النهاية عن المخيلة الإسلامية، كقناديل المساجد العتيقة على سبيل المثال، أو الثريات التراثية، وكذا الزخارف التي تشتهر بها العمارة الإسلامية ــ دون نسيان أن الخط كان من أبرز وأهم وسائل التشكيل في الفن الإسلامي ــ ومنه يبدو نسيج الخط والشكل في توازن تام ودال على الحالة التي يريد الفنان إيصالها، اللعب هنا من خلال الكلمات التي تحتوي الأحرف ذات الخطوط الطولية عند الكتابة، كالألف واللام، هذا الأفق الذي يجعل الحرف ممتداً صاعداً إلى السماء، ورغم الثبات الظاهر، إلا أن الأحرف ذات الشكل المنحني تتواصل لتخلق حالة من التكامل ما بين الحرف والمعنى، كما في عبارة «العظمة لله». هذا التشكيل بدوره يوحي بحالة من التوافق ما بين الذكوري والأنثوي ــ حسب شكل رسم الحرف ــ فالكل يُسبّح بحمد الخالق العظيم.

الإيقاع والموسيقى

وفي بعض اللوحات يعتمد الفنان تقنية تكرار عدة أحرف، هذا التكرار الذي يخلق إيقاع اللوحة، وزيادة على ذلك يتحوّر الحرف ليصبح شبيهاً بالنغمة المكتوبة بالنوتة الموسيقية، وكأنه إشارة إلى النغمات التي يحاول الحرف إيصالها إلى المُتلقي. ومن خلال تداخل وتجاور عدة تشكيلات للأحرف المختلفة، يبدو التشكيل الإيقاعي للوحة، فقد يكون اعتماد الدوائر هو المسيطر ــ موجات من الحروف ــ أو أن تكون الحروف هي الخلفية الكاملة للوحة تتصدرها عدة حروف تشكل كلمة أو ما شابه. هنا يصبح للون معنى في التفرقة ما بين مقدمة اللوحة وخلفيتها، ولهذا التشكيل اللوني إيقاعه بدوره، وهو الذي يوجه عين المتلقي ليسير في دروب اللوحة وسط زخمها الشديد.

العبارات وتجسيد المعنى

بخلاف الآيات القرآنية، أو العبارات التي تحتوي لفظ الجلالة، يحاول الفنان أن يجعل من الحِكم والأمثال موضوعاً للوحاته، ومن خلال العبارة يجسد دلالتها بشكل الحرف المرسوم، كما في عبارة «إذا تم العقل نقص الكلام»، هنا يبدو امتداد حرف (الميم) في كلمة تمّ، ليحمل الأحرف الثلاثة الأولى من كلمة العقل، وبالتقابل يأتي حرف (الصاد) غير مُكتمل في كلمة (نقص)، وكأنه بهذه المقابلة بين الحرفين الأخيرين في الكلمتين المتضادتين يُكمل المعنى ودلالته، ويعيد تشكيله وفق هذه الدلالة، في شكل جمالي لا ينفصم عنها.

التقنية والتحديث

اللافت أيضاً أن الفنان لا يحصر العمل أو يقتصره على شكل معين من الخطوط، بل يعمد إلى تجاور الأشكال وتضافرها، كذلك لا تنفصل الخلفية عن الكلمة أو العبارة التي تتصدر اللوحة، هناك دوماً عبارات قصيرة كترديد للعبارة أو النغمة الأساسية في اللوحة، الأحرف قد تأتي على سبيل المثال في شكل أقرب إلى التجسيد، أحرف على الحافة تتقافز وتتصارع وكأنها موجات بحر تحيط بالعبارة المُحتفى بها، وتساعد على إظهارها، بخلاف لو تمت كتابتها على خلفية صمّاء. هناك حالة من هوس التشكيل، فنادراً ما يكون هذا السطح غير مُزيّن بالأحرف الصغيرة المتحورة ذات الأشكال، هذه الأحرف التي تتوارى تماماً ويصبح تواجدها على استحياء ــ إن وجدت ــ عند كتابة لفظ الجلالة. ربما هذه التقنية هي ما يمكن أن نطلق عليها «تمصير» الخط العربي، فلوحات الخط العربي تدل على بلدان فنانيها، يكمن ذلك في رسم الخط ــ رغم الاتفاق على قواعده ــ وإعادة تشكيله والإيحاء بدلالته، وهو ما نلحظه من فارق عند مشاهدة أعمال فنانين من العراق أو تركيا أو إيران، فكل فنان لديه تراثه وحضارته التي ــ دون وعي ــ يمررها خلال لوحاته، محاولاً استلهام الحالة الجمالية للعمل من خلال هذا الموروث الحضاري. خطوط خضير البورسعيدي تشبه إلى حد كبير أصوات قارئي القرآن المصريين، هنا تستمع الحرف وتستشعر دلالته، فيتضح مدى قدسيته وعمق روح صاحبه.

(القدس العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى