مقعد المرأة الشّاغر في «قهوة البُرْنِي» للروائي التونسي المختار بن اسماعيل

الجسرة الثقافية الالكترونية
«قهوة البُرْنِي» الصّادرة خلال 2014، هي الرّواية الثانية للطبيب والشّاعر التونسيّ المختار بن اسماعيل أصيل مدينة «تستور» من ولاية «باجة» الواقعة بإقليم الشمال الغربي للبلاد التونسيّة، حيث تدور أغلب أحداث الرّواية.
يضعنا العنوان مؤزّرا بالغلاف الحامل على ظهره صورة فوتوغرافية عن مدخل «تستور» حيث تنتصب مقهى البرْني، على الغاية من عمليّة القصّ ككلّ: رواية «سيرة ذاكرة» الفضاء الرّوائيّ العامّ (بلدة تستور) والمكان المركز فيها (قهوة/ مقهى البُرْني) كواجهة خلفيّة لرواية سيرة واقع مجتمعيّ معيّن في حيّز زمنيّ محدّد، باعتباره عيّنة نابضة بالدّلالة على طبيعة المجتمع الذّكوريّ، خاصّة في المدن النّاشئة حديثا بشمال غرب البلاد ذي الطابع الرّيفيّ المهيمن على نمط عيش السّكان، كما على عقليّاتهم وأنماط تفكيرهم.
وهل المقهى غير مكان ذكوريّ بامتياز في بلدة كتستور أو ما جاورها في الجغرافيا أو ماثلها في البيئة والتّهميش المنتهج من قبل النّظام السياسي التونسيّ الذي واصل في العهد النوفمبريّ سياسة التمّييز السلبيّ بين الجهات في مجال التنمية الاجتماعيّة والاقتصادية أسوة بمن سبقه بل وعمّقها على مدى العقود الثلاثة الأخيرة خاصّة..؟
سيتعزّز لديك الانطباع بأنّك إزاء نصّ ذي «بعد تقريريّ» عن المدينة ومقهاها المشهورة حالما تجتاز عتبة الإهداء، إذ يعترضك «تمهيد» ممضى من قبل المؤلّف نفسه يعرض فيه مبرّرات اختياره لـ»قهوة البرني» كإطار فيزيائيّ مركزيّ الحضور في الرّواية والحاضن الأكبر للمتن الحكائيّ برمّة شخوصه وأحداثه وأزمنته وموضوعاته فـ»ميزات قهوة البرني من حيث المخزون الثّابت في ذاكرة متساكني البلدة (تستور) كثيرة» (ص7)، علاوة على أنّها «تتميّز بجمال موقعها المشرف على مدخل البلدة على مقربة من محطة النّقل العموميّ (الحافلة) والخاصّ (سيارات الأجرة) نحو العاصمة» لتكون «نقطة لقاءات ومواعيد بين عديد الأطراف (..) الأمر الذي يجعلها تعكس بدقّة وأمانة نمط الحياة الاجتماعيّة السّائد في زمن ظلّ وما يزال من أعذب ما خلّدته الذّاكرة» حسب ما ورد على لسان المؤلّف (ص 8).
فهذا المكان (مقهى البرني) في علاقته الوثيقة بالفترة الزّمنية «الّراهنة» التي تتحرّك فيها الأحداث والشّخوص (ذروة الحكم البورقيبي بتونس/ ص9 و10)، وبالزمن التاريخي ذي الصّلة الوثيقة بهجرة المورسكيين إلى تونس واستقرار الكثير منهم بهذه البلدة وانخراطهم الواسع والمؤثّر في الحياة اليومية للسّكان، «يتجاوز كونه مجرّد شيء صامت أو خلفيّة للرواية، فهو عنصر غالب فيها، حامل لدلالة، ويمثّل محورا أساسيّا من المحاور التي تدور حولها عناصر الرّواية» (آسيا بوعلي).
يبدأ القصّ عند الفجر «على وقع الخطى وضجيج النداءات» (9). ولن يكون الفجر الأخير الذي يفتتِح القصّ في هذه الرّواية. فالفجر هنا هو زمن انطلاق الغايات الكبرى: الصّلاة، العمل، السّفر، الشّؤون الاجتماعية الأخرى.. أمّا المقهى فهي نقطة العبور التي لا مفرّ للرّجال خاصّة من المرور بها سواء وجهة الشؤون الدنيويّة (العمل والسّفر..) أو شطر الآخرة (الصّلاة). لكنّ اليوم تناهى إلى الرّاوي الذي كان يستعدّ كعادته ليؤمّ صلاة الفجر جماعة «استغاثات غريبة من إحدى زوايا البطحاء»، حيث كانت خصومة تدور بين نادل المقهى «سلومة» و»رزوقة المرعوش» العامل «الوقتيّ» بالمقهى نفسه حين تبيّن أنّ هذا الأخير ارتكب جرم السرّقة من جديد، وينتهي بُعيد نشرة أخبار التاسعة صباحا من ذات يوم آخر بعد أن بُثّت أنباء عن اقتحام أحد السجون المدنيّة وهروب السّجين منذر زوج شادية حبيبة «رزوقه»، التي اختفت فجأة وفي ظروف غامضة، حين كانت «ساسيّة عوق» ( ساسية المجنونة) أمّ «رزوقه» تصول بين روّاد المقهى وتجول سابّة لاعنة كلّ من كان يرتاد المكان حينها.
يبدو زمن القصّ في هذه الرّواية محبوسا في حلقة دائريّة بسعة سويعات معدودات ما بين الفجر والضّحى، غير أنّ الحكاية مسحت في واقع القصّة سنتين تقريبا أي ما بين الرّبيع الثامن عشر من عمر السمراء الفاتنة رحمة أخت رزوقه وسنّ العشرين التي قتلت فيها في عقر متجر الأحذية الذي كان ملكيّة أخيها هذا، وهي الفترة نفسها التي اختفت فيها حبيبته الأولى والأخيرة شادية، كما أسلفنا الذّكر.
وإذ يلاحظ المتصّفح لهذه القفزة المقصودة ما بين بدء الرّواية ونهايتها الحضور الكاسح لشخصية رزوقه، فذلك أنّه ملاقيه في كلّ مكان وزمان وقلبَ كلّ حدث.
فـ«قهوة البرني» في الحقيقة ما هي إلاّ سيرة غيريّة لهذه الشّخصيّة الإشكاليّة، فهو السّارق والمهمّش والجائع وخائن الأمانة والمتحيّل، وهو الخصم العنيد، والقلب الشّفوق، والبارّ بأسرته الفقيرة، وهو إلى ذلك العاشق الوفيّ والحضن الدّافي الوثير الحنون للحبيبة. يشتهيها حدّ الاحتراق ويتعفّف عن مسّ «شرفها» بأدنى سوء ممنيّا نفسه بزواج لن يتمّ أبدا. فشادية التي تحبّه جمّا ستتخلّى عن هذا العشق الهادر لتتزوّج من مدير مصنع الزربيّة، حيث كانت تعمل ليؤمّن لها العيش الكريم الذي لن تحظى به مع الحبيب الفقير، مهما بذل من حماس في العمل وعزم على الاستقامة وتحسين وضعيته الاجتماعيّة.
تماما كما ستفرّ أخته رحمة من براثن الفقر والعوز إلى حياة الترّف والمجون. لكنّ الزمن لا يرحم هؤلاء الطموحات إلى حياة أفضل، ولن يطول بهنّ الحلم حتى تنكسر المكنسة السحّرية الطّائرة وتسقطهنّ في التيه. إنّه ناموس المجتمع الذكوريّ ممثلا بـ»قهوة البرني» كصورة حيّة نابضة بالخيبات والمرارة والأحلام، الطّافحة بالأخيار والأشرار والإمّعة والمخنّثين من ذكور المدينة.
لا غرابة إذن حين يجد القارئ الرّجل كريما شهما عطوفا على الفقراء والمهمّشين والجياع «العمّ جيلاني الوكيل الساهر على «قهوة البرني»، أو نذلا يستغلّ حاجة المرأة إلى العمل ليبتزّها ويمتصّ رحيق فتنتها ثمّ يلقي بها إلى الضياع (منذر مدير مصنع الزربيّة) أو عفيفا عن الرّذائل وهو الفقير المعدم، وفيّا وهو المهمّش، طيّب المعدن رغم ما ارتكبه من سرقات في بدء شبابه، شهما حتى مع المرأة التي تخلّت عنه لأجل رجل أغنى منه، متسامحا مع أخت لوّثت «شرف العائلة» (رزوقه المرعوش) في ما لن يصادف القارئ المرأة إلاّ لعوبا تتوسّل بجسدها لكسب مغانم مادّية (بعض عاملات مصنع الزّربيّة) أو فاتنة السّمـرة والقدّ تبيع الخبــز بغمـزة وهمسة وقبلة على هذا الخدّ أو الثّاني، ثمّ تفرّ هاربة في جنح الغمـوض لتتحرّر من كل قيد أخلاقيّ أو اجتماعيّ يكبّلها (رحمة) أو عاشقة تتخلّى عن حبيبها مقابل عشّ زوجيّ آمن ومريح (شادية) أو مخبولة تفقد عقلها عند منتصــف القصّ ولا تستعيــده إلاّ فـي الصفحتيــن الأخيرتــين (ساسيّـــة أمّ رزوقــة)..
إنّها طبيعة « الأمكنة العارية، بعبارة جورج بولي، تلك التي تدفع كالسّجون إلى الارتداد على النّفس وتحكم على أصحابها بالوحشة وتضعهم موضع الإحراج والضّيق، بدليل التفاعل القائم بين الإنسان والمكان، وبمقتضاه يتسرّب إلى الإنسان بعض ممّا في الأمكنة من خصائص».
لا أفق للنّجاة من براثن الفقر والاستغلال والدّونيّة للمرأة في هذه البلدة رغم ما بدا لنا من تدخّل مباشر من الكاتب نفسه الذي كان يزيح الرّاوي الخارجيّ عن وظيفته مؤقّتا ليدافع عنها فيجعل زوج رحمة المخون عطوفا يواسيها بعد أن تداول على اغتصابها ثلّة من المنحرفين المتاجرين بأجساد النّساء، بدل أن ينحو منحى المنتقم لشرفه المنتهك من زوجة خانته واستبدلته بثريّ يرتاد الحانات والعلب الليلية، ويقيّض لها أخاها بعدئذ «حاميا» يفتح لها متجرا لتعيد بناء حياتها المهدّمة..
لكنّ الضّياع كان مستبدّا يتربّص بكّل من حاولت الطّيران خارج قفص المجتمع في هذه العينة المجتمعيّة المنتقاة بذكاء وفطنة كاتب مثقف وطبيب يعالج أمراض البدن بالأدوية ويشخّص أمراض المجتمع بالكتابة. رحمة قُتلت على يد مجهول وشادية اختُطفت في ظروف غامضة، وماذا بعد شغور هذين المقعدين الجميلين في «قهوة البرني»..؟.
النّهاية تفتح لنا أفقا مختلفا للتوقّع. هناك احتمال لأن ينقلب بعض من موازين المجتمع بعد هذه الأحداث الحزينة. لكنّه مجرّد احتمال «متفائل» تخيّر المؤلّف أن يُتمّ به روايته ربّما تمهيدا لكلّ ما سيطرأ على هذه البلدة من تغيّرات إيجابيّة وتطوّر في تركيبة المجتمع وذهنيّته في مستقبل السنين.
ومن تحمّل «عبء تفائل» الكاتب كان امرأة، وكانت «ساسيّة عوق» أم «رزوقه» تلك التي فقدت صوابها يوم اختفاء ابنتها رحمة بدون سابق إنذار لتستعيده يوم مقتلها، كما لتنتقم من قاتل ابنتها الوحيدة بالعقل المستنفر واللسان المشحوذ، وذلك أقصى ما تمتلك المرأة في مثل هذه الظروف وهذه البيئة من أسلحة للدفاع عن نفسها وحماية كيانها الخاصّ وأخطر ما لديها كذلك.
هبّت «ساسيّة» ثائرة في الجمع الكسول المرابط إلى كراسي المقهى أغلب أوقات النّهار تشتم وتلعن وتحرّض نخوة الرّجولة أن تثور على الرجال القانعين المتخاذلين، وتطهّر بلسانها اللاذع المقهى من كلّ خامل وعاطل وفاسد وديّوث «حتى غدا جوّ البطحاء (قبالة المقهى) مثيرا لهلع بقيّة الرّجال، وخيّم الأسى والوجوم على «قهوة البرني» بعد ما كان يظلّلها من هدوء وأمان. وأصبح من الصّعب مواجهة انفلاتات «ساسيّة « المفعمة بالوعيد المشحونة بالغضب..».
والسّؤال الذي يطرح نفسه هنا والآن وبشدّة: هل كان يجب أن تُقتل رحمة وتُختطف شادية ليستفيق بعض وعي الرّجال المرابطين بقهوة البرني..؟ كم من النّساء يجب أن يقتلن أو يغتصبن أو يتُهن في دروب الحياة الجائرة لينتبه المجتمع إلى كمّ المعاناة التي تكابدها النسّاء في مثل هذه الأوساط الذكوريّة القاسية..؟
………….
القدس العربي