التضحية البشرية.. الجزء الغامض في الحضارة الفرعونية

الجسرة الثقافية الالكترونية

محمد رجب

يُشاع أن قدماء المصريين اعتادوا طوال تاريخهم على قتل خدمهم ومساعديهم وأسرتهم عند الوفاة ليدفنوا مع المتوفى، وينتقلوا إلى عالم الحياة الأبدية بعد الموت، إلا أن الحقيقة تختلف عن هذا الطرح الذي يعد مغالطة، فالتفسير الأكثر ترجيحاً هو أن المصريين القدماء مارسوا “التضحية البشرية” ولكن ليس طوال تاريخهم الممتد على مدار ما يقرب من أربعة آلاف عام.

 

التضحية البشرية هي قتل الإنسان لتقديمه كقربان للآلهة بحسب المعتقد، وكان هناك شكلان رئيسيان لممارسة “التضحية البشرية” في مصر القديمة، الأول كان الضحية فيه غالباً من المجرمين وأسرى حرب، وفي بعض الحالات استخدم التضحية كأسلوب لتنفيذ عقوبة الإعدام، وبذلك كانت تتم “التضحية البشرية” لإعادة تأسيس نظام راسخ والتأكيد على دور الملك كضامن رئيسي له.

 

أما الشكل الثاني فكان يتم بعد وفاة الملك، حيث يتم قتل خدمه ومساعديه حتى يتمكنوا من مرافقته إلى الحياة الأخرى، بحسب المعتقد الفرعوني، والذي كان سائداً في بدايات العصر الفرعوني.

 

كان القتل والتضحية عند الفراعنة وسيلة للتباهي بسلطة وقوة الملك، فالفرعون كان له قدسيته مثل الآلهة، ولكنه في شكل إنسان، وهو ما جعل الشخص يتخلى عن حياته من أجل الفرعون الذي يؤمن بقدسيته، كذلك الإيمان بالحياة بعد الموت، والانتقال إلى العالم الآخر، فكان الاعتقاد راسخاً بتلك الفكرة، وبأن ما ينتمي للفرعون في الحياة الأولى ينتمي له أيضاً في الحياة الأخرى سواء كان ذلك ممتلكات أو عبيداً، أو حتى عائلته وزوجاته، ومن خلال هذا الاعتقاد يتمكن الفرعون بالتمتع بنفس شكل ونمط الحياة الذي اعتاد عليه في العالم الآخر.

 

وفي ضوء ذلك المعتقد والإيمان بقدسية الفرعون، كان الخدم والمرافقون يوافقون طواعية على التضحية بحياتهم للحصول على حياة أبدية ومقدسة، ورفع مكانتهم في تلك الحياة ولم يتم اختيارهم أو قتلهم عنوة وإنما ضحوا بحياتهم بإرادتهم.

 

ويرجع تاريخ ممارسة “التضحية البشرية” إلى بدايات العصر الفرعوني، حيث إنها لم تحدث بشكل واضح سوى في عصور الأسرات الفرعونية المصرية المبكرة، فعلى سبيل المثال، اشتملت غرفة دفن الملك “حور- عحا”، ثاني فراعنة الأسرة الأولى في مصر القديمة، على ست وثلاثين مقبرة لشباب يتراوح أعمارهم بين 20- 25 عاماً، هم في الغالب يمثلون حاشيته، إضافة إلى ست مقابر أخرى تحتوي على رفات عدد من الحرفيين.

 

ويشير غالبية المتخصصين في علم المصريات والتاريخ الفرعوني إلى أن ممارسة التضحية بالبشر انتهت إلى حد كبير بعد الأسرات الفرعونية المصرية الأولى، على الرغم من وجود بعض الأدلة على مواصلة ممارستها خلال أوائل عصر الدولة الفرعونية الوسطى.

 

حيث يقول البروفيسير جاك وبسفاندايك، عالم المصريات الهولندي: إن ممارسة التضحية بالبشر توقفت في وقت مبكر من الدولة الفرعونية، إلا أنه لا يزال هناك عقبة أمام الكشف عن سبب توقف هذه الممارسة في الدولة الفرعونية، مشيراً إلى أن أحد الأفكار المطروحة هي أن خدم ومساعدي الفرعون تغيرت معتقداتهم وأصبحوا لا يرون ضرورة الموت لمرافقة حاكمهم إلى العالم الآخر، الأمر الذي يفسر ظهور تماثيل “أوشبتي”، وهي تماثيل كانت توضع في المقابر المصرية القديمة للقيام بأي مهام يطلبها الحاكم في الحياة الأخرى، كبديل عن خدمه وحاشيته الذين لم يذهبوا معه إلى الحياة الأخرى.

 

وتابع ويسفاندايك: كانت هناك أيضاً اعتبارات اقتصادية. فالمساعدون والعمال المضحى بهم كانوا يتركون فراغاً في المجتمع، فهؤلاء الأشخاص لم يكونوا مجرد خدم بسطاء بل متخصصين، مثل حرفيين ورسامين وبحارة، وبالتالي دفنهم مع حاكمهم يحرم الملك الوريث والمجتمع من خبراتهم، وبذلك تطور الصراع بين احتياجات الملك المتوفى في العالم الآخر واحتياجات ورثته والمجتمع.

 

لذلك من المرجح أن الاقتصاد وحاجة المجتمع للمتخصصين، إضافة إلى التغيرات الأيديولوجية، كان السبب الرئيسي لهذا الانحسار لـ “التضحية البشرية” في مصر الفرعونية.

 

وتضيف د. نور عبدالحميد، بمركز الدراسات البردية بجامعة عين شمس: الأمر برمته لا يزال مجال نقاش محتدم بين علماء المصريات والتاريخ القديم، لكن الأكثر ترجيحاً أن قدماء المصريين مارسوا “التضحية البشرية” في الفترات المبكرة من تاريخهم الواسع، ولم تكن ممارسة دائمة كما هو شائع، وهو الأمر الذي جعل السلالات اللاحقة من الفراعنة تبحث عن بدائل لـ “التضحية البشرية”، من أجل مساعدة الفرعون في رحلته إلى الآخرة، وحدث ذلك عن طريق إنشاء تماثيل “أوشبتي” لتلبية الاحتياجات الدينية للمتوفى، وفي الوقت نفسه توفير الاحتياجات المعيشية للمجتمع المصري من حرفيين ومتخصصين.

 

ويشير د. عادل عبدالعزيز، أستاذ تاريخ الحضارات القديمة بجامعة الفيوم، إلى أن شعائر القرابين تطورت لدى مختلف الحضارات والديانات الوثنية التوحيدية، فعلى سبيل المثال كان الوثنيون يقدمون هذه القرابين لآلهتهم لاعتقادهم أنهم ينتفعون بها، كما كان يعتقد في بعض الحضارات أن الأموات يأكلون ويشربون فيضعون في قبورهم الأطعمة والمشروبات، فبعض هذه المعبودات الوثنية كان ينتفع بالقرابين كالعجول والثيران والحبوب، وغيرها، موضحاً أن القرابين لدى الفراعنة كانت تتمثل في إمداد المتوفى بالمؤن بما يضمن له البقاء والنعيم في العالم الآخر، وتقديم الذبائح من الحيوانات التي تعتبر من أعداء الإله، ليس هذا فحسب بل كانت هناك عادة تقام سنوياً عند المصريين القدماء، حيث يقدمون لنهر النيل كل سنة أضحية بشرية لتجنب غضبه وفيضاناته، وتكون هذه الأضحية أنثى، فيما يعرف بـ “عروس النيل”. 

المصدر: ميدل ايست اونلاين

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى