بيني وبينك.. أيتامُ غزّة

لمّا استُشهِد جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه في معركة مؤتة، وعرفَ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم الخبرَ بالوحي، جاءَ بيتَه، وكانتْ زوجته أسماء بنت عُميس قد غسّلَتْ أبناءَها ونَظّفَتْهم، فطرقَ عليها الباب وقال لها: «ائتيني ببني جعفر». فأتَتْه بهم، فجعل الرّسول صلّى الله عليه وسلّم يَضُمّهم ويتشمَّمُهم ويبكي. ثُمّ قال: «اصنعوا لآلِ جعفر طعامًا».
إنّها رحمةُ النّبيّ الإنسان، ثُمّ هي رحمة الإسلام بالأيتام. فأمّا أيتامُ غزّة اليوم فلا بواكيَ لهم إلا مَنْ رَحِمَ الله، ولا حِضن رؤوفٍ يضمّهم، ولا نَفَس نبيٍّ يتشمّمُهم. إنّ أيتام غزّة اليوم من الضُّرّ والأذى ما يشيبُ له رأس الوليد، وإنّهم من الحاجة ما يجبُ على كلّ قادرٍ أنْ يكونَ لهم كهفًا ومأوى.
في غزّة يموتُ الأطفال عشرات المرّات، مرّةً حينَ يرحلون عن هذه الدُّنيا وهم لا يزالون زُغْبَ الجَناح، أو أَجِنّةً في بطونِ أمّهاتهم، ومرّة حينَ يفقدون آباءَهم وأمّهاتهم، ومرّة حينَ يجدون أنفسهم في الشّارع دون حصيرةٍ تقيهم حصى الأرض وحجارتها، ومرّةً حينَ ينهشهم الجوع فلا يجدون لقمةَ خبزٍ واحدةٍ تنهضُ بها ضلوعهم البارزة، ومرةّ حينَ يقتلهم البرد فلا يجدون ثوبًا يسترون به عُريهم. ومرّة حينَ يكبرون فيرون أنّ السّنوات التي فقدوا فيها ذويهم كانتْ أشدّ عليهم في حياتهم مِمّا لو كانتْ في مماتهم. ومرّة حينَ يشعرون أنّ باطِنَ الأرض خيرٌ من ظاهرها لقسوةِ ما يتعرّضون له من الظُّلم، ومرّة حينَ يرون بأمّ أعينهم الأسقف تنهار على أحبّائهم فيرحلون ويتركونهم، ومرّة حينَ يسمعون صوتَ القصف الذي لا يتوقّف، فتنخلع قلوبهم مع كلّ صوتِ انفِجار. ومرّة حينَ يمرّون بِسَلّةٍ يعرضُ فيها صاحِبُها التّمر أو الخُبز فلا يجدون في جيوبهم قرشًا واحِدًا يشترون به ما يسدُّ رمقهم، ومرّة ومرّة، إنّ عدد المرّات الّتي يَتَيتّمون فيها تنفلتُ من الحصر.
فيا أيتامَ غزّة، يا أطفالَها الأبرياء، ويا لثغةَ حروفها اللّذيذة، إنّ يُتمكم عارُ العالَم ولكنّه مجدُ عزّتكم، وإنّه لطخةٌ بيضاء في سوادِ وجوهنا، وإنَّ ليلًا قاسِيًا هو ذاته الذي يُبشّر بصباحٍ رحيمٍ، وإنّني أَعِظُكم أنْ تنتظروا مِنّا نحنُ العاجزين، لا تنتظروا مِنّا، فنحنُ أقلّ من الهَباء إلا مَنْ رَحِمَ الله، وانتظروا أنْ يحنّ عليكم الله فهو أرأفُ بكم منّا.
يا أيتامَ غزّة، لقد كشفتِ الحربُ عن ساقِها وكشفتْ عن وجوهنا، وإنّها وإنْ طالتْ فستنتهي، فإذا انتهتْ هذه الحربُ المجنونة فإنّنا لا نطلبُ منكم إلا أنْ تُسامحونا على قلّة حيلتنا، فإنْ فعلْتُم فَرِحْنا بهذا الغفران فرَحَنا بانتصاركم وزيادة، ولله الأمر من قبلُ ومن بعد.

AymanOtoom@

otoom72_poet@yahoo.com

**المصدر: جريدة”الراية”

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى