‘يوميات آدم وحواء’ لمارك توين: الطرد من جنة عدن

محمد الحمامصي

يؤكد الشاعر والمترجم محمد عيد إبراهيم في مقدمة ترجمته لـ “يوميات آدم وحواء” للكاتب الأميركي مارك توين الصادرة عن سلسلة الجوائز عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، أن قراءة كلاسيكيات الأدب تقود لمعرفة تاريخ الأدب، بكلّ ما فيه من نظريات وآثار وسُنَن وطرائق يمكن الاهتداء بها إلى وقع أقدامنا من جديد. و

يضيف أن هذه الكلاسيكيات تشكّل ثروة، في عُرف إيتالو كالفينو، ومَعِيناً لا ينضُب لمن يقرأها، حيث لا تكفّ عن البوح بما فيها من مَعدِن أصيل ومستويات للخبرة ونفائس للمعاني، وتستدعي مقارنات ومراتب للوعي واللاوعي عند القارئ كلّ مرة.

ويقول إن مارك توين يعد أباً للأدب الأميركيّ بعامة، حسب كلمات الروائيّ وليم فوكنر، وعمله هذا من الكلاسيكيات التي يجب قراءتها بين حين وآخر، ويضيف في كتابه هذا “يوميات آدم وحواء”، استحوذت على مارك توين فكرة أن يقدّم صورة لوالد البشرية، عبر أداء نوع من التناظر الإبداعيّ مع “الكتاب المقدّس”، بينما كان آدم يسعى حثيثاً نحو الكمال والمثال والسموّ الأخلاقيّ، لكنه في بدايات سعيه يسقط سريعاً.

ونستطلع لدى توين أن فكرته عن الخالق المبدع تتصارع مع الدين، وفهم البشر، وأن الطبيعة تمثّل واحداً من ملامح سرمديته. لكن الأهمّ لديه أنه قدّم تأويلات مضحكة ساخرة فاتنة لعملية السقوط من جنة “عدن”، رآها بعينَيْ طفل صغير، بل ووصل إلى الاعتقاد في أنها “مُزحة كونية”.

ويوضح رأى توين آدم شخصاً يعتمد على نفسه كثيراً، ويعشق الاستقرار في البيت، بينما رأى حواء امرأة مستطلعة مستفهمة دائماً فضولية أبداً، مع أنه وظّفها في شخصية “التابع” النمطيّ، لكن تبدو كأنها التي توجّه السرد، أو الفعل كلّه عبر مسار الحياة التي كانت تبدأ الحياة في الكون.

تطرح حواء السؤال بعد السؤال، ولا تهدأ حتى تستنتج ما تبحث عنه، وهو مختلف عن المألوف بطبيعة الحال، وتعتمد على فهمها، مع غياب الفكرة الدينية بشكل ما عن بالها، ومن هنا جاء تمرّدها الذي أفضى بهما كليهما إلى الطرد من جنة “عدن” في النهاية.

والغريب أن حواء تموت قبل نهاية آدم بوقت طويل، وربما ارتبط هذا بفكرته عما نطلق عليه الآن “السارد العليم”، حيث يطغى بمنحاه النفسيّ في الكتابة، خاصة عند كلاسيات الأدب، وهناك شواهد كثيرة عليه بين نصوص القدماء. وقد توفيت زوجته، ليفي، فقال توين في رسالة رثاء بعث بها إلى أخيها: “لم يعد لي ثمة وطن، حيث كانت ليفي كنتُ”. وكأنه يُعيد ما كتبه في نهاية “يوميات حواء”: “كتب آدم، وهو يقف على قبر حواء: حيث كانت، فهي جنة عدن”، لكأنه يرثي امرأته في حنان غامر، قبل الأوان”.

ويلفت محمد عيد إبراهيم إلى أن كتاب “يوميات آدم وحواء” جلب شهرة ذائعة لـ توين، لكنه جلب في الوقت نفسه وبالاً عليه، حيث قامت شرطة واشنطن باستدعائه وقتها، في 1893، حين نشر المخطوطة الأولى، تلك التي ظلّ يُحوّر ويُغيّر ويُزيد ويُعيد ويحذف ويُرتّب فيها بصور مختلفة، حتى وفاته بعد 17 سنة.

وقد نال توين عن النسخة الأولى 500 دولار، حيث ادّعى الناشر أنه خسر فيها 6000 دولار. ومع أنه أصدر “يوميات آدم” 1892، و”يوميات حواء” 1905، إلا أنها لم تُنشر كاملة (في صورتها الحالية) إلا بعد وفاته بإحدى وعشرين سنة، في 1931، وكانت بعنوان “الحياة الخاصة لآدم وحواء”. لكنها تظلّ، عموماً، المحاولة الأولى لرصد عالم آبائنا، الأصائل والأوائل، عبر انفعالاتهما الصاخبة، حيث خاض الكاتب في دوافعهما وردود فعلهما إزاء الكون، في حِذق ومهارة لم يبلغهما أحدٌ قبله.

وحول أسلوب معالجة توين يقول: “يبدأ توين كتابه بنوع من السخرية المرحة، من تصرّفات آدم وحواء، حتى يصل في بعض المقاطع إلى سرد دراميّ يبتعد كلياً عن المفارقة أو التهكّم، في نوع من التباين الغريب، لكن وضوح عالم توين هو ما يُكسبه المصداقية على الدوام.

وقد لا نرى في الكتاب نوعاً من التعاقب المباشر، أو نحسّ قليلاً من التفكّك، لكنه يدلّ على ما كان من الكتابة وإعادة الكتابة التي مارسها توين على النصّ طيلة حياته، وقد قال: يبدو أن هذا الكتاب لن يُنشر في حيات”. فقد كان مرتعباً من تعارض بعض مقاطعه مع أساسيات الدين، كما يعرفه الناس من أسفار العهد القديم”.

ويضيف: “يأخذنا توين إلى العالم البدئيّ من البراءة في السماء، والجنة والجحيم، إلى القديسين والخُطاة، مبيناً مساعي كلٍّ منهما لمواجهة متاعبهما اليومية قبل السقوط إلى الأرض. ويغيّر لنا إبليس مفهومنا عن الحياة الآخرة، وحقد ميتوشالح، والد نوح، على عدم إسناد مَهَمّة الفُلك إليه، لا إلى نوح.

هناك نقاش جادّ، عموماً، للعلاقة الخاصة جداً بين الله والإنسان، يعرّي بعضاً من التناقض بين الحياة والدين، بين الواقع والخيال، بين نظريات داروين عن التطوّر وآراء الشيوخ في مسار تطوّر الحياة سابقاً على الأرض، وأثر العلم في الدين، وهو ما أدّى في بدايات القرن 20، من بين ما أدّى، إلى انفجارات التطور التقنيّ في العالم أواخر ذلك القرن وفيما بعد”.

يظلّ آدم وحواء في الجنة، يستطلعان كلّ شيء، ويسعيان إلى فهم العالم، وتفسير أيّ منظومة، والاشتباك مع الظواهر المستجدّة، أو ما يريانها مستجدّة، وبناء مُعجَم بدئيّ من اللّعب مع الكلمات حين تتولّد عن شكل الأشياء أو حركتها أو صوتها أو لونها، والاشتباك مع الحياة في مبانيها ومعانيها وما قد تؤول إليه، حتى يبدأ قابيل الهجوم على هابيل، ساعتها يدخل الموت إلى العالم وينتهي الحلم المثاليّ وصولاً إلى الحلم الواقعيّ الأرضيّ، بمزيد من التلوينات التي تكيّف فهمهما للعالم الجديد.

وقد تذكّر توين، وهو بمسقط رأس زوجته، آلمايرة، نيويورك، أنه قدّم عريضة، في نوع من المزاح، إلى الكونجرس، عبر صديقه الجنرال جوزيف هاولي، عضو المجلس، لإقامة أثر عن والد البشرية في البلدة، يستثمر اسمه ويخلّد ذكره، وقّع عليه بالفعل 94 شخصاً من القيادات، لكن الجنرال بعدما قرأ الالتماس في تمعّن، تخوّف من ردود الفعل، فردّه للمؤلّف ثانيةً. وقد سجّل هذا بأحد فصول كتابنا هذا، ساخراً من الفكرة والبلدة ومن نفسه أخيراً.

ويختم محمد عيد إبراهيم مقدمته برسم صورة لحياة ومسيرة توين الذي ولد باسم “صامويل كليمنس”، بفلوريدا، ولاية مسيسبي، عام 1835، ولم تكن عائلته ذات مورد ماليّ كاف، كما توفّي والده وهو صغير بداء الدرن، فبدأ وأخوه أوريون عملاً بسيطاً في مطبعة، لتمضي الحياة. ثم شرع يكتب في الصحف وقتئذٍ مقطوعات ساخرة مضحكة، لتحقيق حلمه في أن يصبح أديباً، وهو الحلم الذي لازمه من صغره.

ويشير إلى أن صامويل اتخذ في البداية اسم “جوش”، ثم “توماس جيفرسون سنودجراس”، ثم “كابتن آيزايا سيلرز”، إلى أن اهتدى إلى “مارك توين” في 1863، بعد وفاة أخيه، شريكه في العمل، لربما يتجنّب مصيره، في خياله، بإضفاء نوع من التعمية عليه أمام تصاريف القدر.

وقد نحسب بدايات حياته الأدبية عام 1867، حيث نشر أولى قصصه الساخرة وكانت بعنوان “حكاية طويلة”، ثم أول كتبه، وهو انطباعات عن رحلات قام بها عبر ولايات أميركا بعنوان “أبرياء الخارج” في 1869.

ويقول: وقع توين في غرام أوليفيا/ ليفي، من صورة رآها لها مع أخيها، وكانت من عائلة ثرية متحرّرة، ورفضته في البداية لكن مع إصراره تزوّجها عام 1870، وعاشا فترة قصيرة في (بافلو)، نيويورك، ثم انتقل الزوجان بشكل دائم إلى هارفود، كونيتيكت، حيث انغمس في إبداعه الصحافيّ والأدبيّ، من ثمّ راح ينشر روايات وقصصاً ورحلات ورسائل ويوميات، حتى ذاعت شهرته، التي انفجرت بعد روايتيه: “توم سُوير” 1876، “مغامرات هوكليبري فن” 1884.

توفّي ابنهما الأول وعمره عام ونصف، كذلك توفيت ابنتاه سوسي وكلارا في أواخر حياته. ودام الزواج 34 سنة، وقد أثّرت زوجته في حياته العملية، بل وأثارت أدبه بما كان حولها من مثقفين وقيادات مجتمعية، حيث عرّفته بمن يدعو إلى الاشتراكية، حقوق الإنسان، المساواة بين الرجل والمرأة، حقّ المرأة في التصويت، وغيرها من قيم التحرّر في العالم، بمقاييس زمنه، وحتى بمن كانوا يدعون إلى الإلحاد.

انضمّ توين عام 1898 إلى “لجنة مناهضة الاستعمار”، في معارضة منه لمحاولة الولايات المتحدة ضمّ الفلبين. وكتب قصته المؤسّية “صلاة الحرب” 1905، مستلهماً أفكاره ضدّ هذه الحرب، لكن المجلاّت رفضت نشرها، فقال: “يبدو أنها لن تُنشر إلا بعد وفاتي”. وبالفعل، لم تُنشر إلا في عام 1923، ثم أُعيد نشرها من جديد إبّان حملات المعارضة ضدّ حرب فيتنام في أميركا.

كما رصد كثير من النقّاد والمحلّلين بعضاً من أفكاره “الراديكالية”، حيث تبين من كلام سيرته، التي أوصى بعدم نشرها إلا بعد وفاته؛ وقد كان، أنه أيّد الثورة الفرنسية، بكلّ ما فيها من عنف واقتتال وجرائم، كما أيّد تلك الثورات التي قامت ضدّ الإصلاحيين في روسيا 1905، وكان يرى أنه ليس لها أن تنجح إلا إذا وفِّقَت في قتل القيصر، بأيّ وسيلة دامية، فالسلام لا يجدي مع أيّ ثورة.

قرب نهاية حياته، أُصيب “توين” باكتئاب سوداويّ عنيف، وراح في حالة من اليأس والحرمان والأسى، إثر فشل تجاريّ ذريع في مهنة النشر، ووفاة ابنتَيه وزوجته، فكتب سيرته، إذ أحسّ بدنوّ الأجل، وقد ظلّت هذه السيرة من أكثر الكتب مبيعاً طيلة قرنين: 19 و20. لكنه نال الدكتوراه الفخرية من جامعة أكسفورد 1907، وكرّمه الرئيس الأميركيّ تيودور روزفلت في البيت الأبيض 1909. وربما كانت آلامه الأخيرة هي ما قادته للعودة إلى الإيمان والكنيسة من جديد.

قال توين عام 1909: “لقد أتيت إلى الدنيا مع مذنّب هالي الذي ضرب الأرض في 1835، وها هو آت العام القادم، وأتوقّع أن أمضي معه، وستكون خيبة أمل حياتي الكبيرة إن لم أذهب مع المذنّب. وأَسمَعَني العزيز القدير، دون ريب: لقد جاءت هاتان النزوتان معاً، ولن تذهبا إلا معاً”. وأُصيب فعلياً بنوبة قلبية، توفّي بها بعد يوم من قدوم مذنّب هالي. وقد قلتُ أنا الفقير إلى الله يوماً: “في الموت بعض من إرادة”.

ويقول الروائيّ إرنست هيمنجواي: “إن الأدب الأميركيّ الحديث لم يبدأ إلا مع رواية (مغامرات هوكليبري فن) لمارك توين”. وربما أفاد همنجواي نفسه من طريقة سرد توين، ودقّته اللغوية، وحرصه على حذف الزوائد، ونزع الشحم عن اللحم في النصّ. وقد زاره توماس إديسون قبل عام من وفاته، 1909، وصوّر طَرَفاً من حياته هناك، وهو الأثر الوحيد المتبقّي من توين على مدار الزمن. كما استفادت هيلين كيلر من آراء توين، في نيل حقوقها مع ما كانت تتمتع به من نقص كليّ في وظائفها الجسمية.

وقد ناهض توين في حياته مظاهر العبودية وكلّ أشكال العنف ضدّ العنصرية، وكان معارضاً لتشريح الحيوانات وهي حيّة. وعلى رغم أن أعماله كانت مستنيرة ضدّ عبثية الكائن البشريّ، وساخرة من كلّ عَنَت ومظالم، إلا أنه يقول في “يوميات شيطان”: “للإنسان فضول مذهل، وهو بأفضل حالاته ملاكٌ بطلاءِ نيكلٍ رخيص، وبأسوأها غير ناطقٍ غير حالمٍ، لكنه في الأول والأخير سخريةٌ من الأقدار”، كما أوضح في سيرته التي نُشرت بعد وفاته، 1924 (من بين كلّ مخلوقٍ خُلِق، لا أرى الإنسان إلا أكثرها بُغضاً!)”.

توين من أعظم الساخرين، بحسّ باهر من الطرافة والتهكّم. يكتب في لغة بسيطة، لا تضمّ محسّنات بديعية ولا مجازات غريبة، وربما جاء ذلك نتيجة ما تعرّض له أحياناً كثيرة من نوبات المنع والحظر بأعراف أيامه، لكنه عموماً كاتب غزير، ظلّ يكتب حتى بعد بلوغه السبعين وتعرّضه لنوبات من القنوط البالغ. لكنه نما، بعد وفاته، إلى أبعاد أسطورية؛ حيث صار صوت أمته الحماسيّ بروحه اليانعة وتنويعاته أدبه المختلفة، مع أنه وسط إحباطات حياته كان يقول “لو كان لي أن أموت بشكل مؤقّت!”.

(ميدل ايست اونلاين)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى