اعتمدت منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة – اليونسكو قراراً دولياً بتأسيس «ثقافة الاحترام»، والذي بادر الى اقتراحه زياد الدريس، سفير المملكة العربية السعودية لدى اليونسكو، بصفته رئيس الخطة الدولية لتنمية الثقافة العربية، قبل أكثر من عام. واستطاع حشد دعم عدد كافٍ من الدول الأعضاء له. وصدّق المجلس التنفيذي لليونسكو في دورته التاسعة والتسعين بعد المئة على مشروع القرار الذي يدعو إلى الارتقاء بمساهمات المنظمة الدولية لتعزيز ثقافة الاحترام المتبادل. وأشارت المذكرة التوضيحية للقرار إلى الظروف العالمية الراهنة، داعية إلى المشاركة في الجهود الرامية إلى مناهضة التعصب والقوالب النمطية السلبية وأشكال الوصم والتمييز والتحريض على العنف أو ممارسته بحق الأفراد بسبب جنسيتهم أو عرقهم أو جنسهم أو دينهم أو معتقدهم، وإلى إنشاء شبكات تعاونية لتوطيد التفاهم والاحترام المتبادل وتعزيز الحوار. وركزت على الدور الحاسم الذي يضطلع به التعليم والإعلام في تعزيز الاحترام والتفاهم والتسامح، وفي درء كلّ أشكال التمييز والعنف، أو بالعكس في تأصيل تلك الأعراض السلبية للتنابذ. وأعاد القرار إلى الأذهان المهمة المنوطة باليونسكو، والمتمثلة بالعمل على توثيق عرى التعاون بين الأمم، من طريق التربية والعلم والثقافة، من أجل ضمان الاحترام الشامل للعدالة والقانون وحقوق الإنسان والحريات الأساسية للناس كافة. ومذكّراً بقراري مكافحة التعصب والقولبة النمطية السلبية والوصم والتمييز والتحريض على العنف وممارسته ضد الناس بسبب دينهم أو معتقدهم، وحرية الدين أو المعتقد، وهما القراران اللذان اعتمدهما مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة. وفي هذا السياق، ألقى صاحب المبادرة زياد الدريس كلمةً خاطب فيها المجلس التنفيذي للمنظمة قائلاً: «يؤسّس هذا القرار لمبدأ جديد في اليونسكو، إذ هي المرة الأولى التي يجري فيها اعتماد «الاحترام» ضمن أدوات التداول في التعامل مع الاختلافات الطبيعية التي تندرج تحت التنوع الثقافي للبشر». وفي تبرير دعوته لتعزيز «ثقافة الاحترام» أوضح الدريس أن المبدأ الجديد لن يكون بمثابة الحلّ السحري لمشكلاتنا، غير أنّه يظلّ أفضل من مبادئ أخرى، مثل «التسامح» الذي لم يعد مصطلحاً حسن السمعة، بعدما أصبح كثير من المفكرين والأكاديميين يعيبون على التسامح أنه يأتي في سياق تراتبي بين قوي وضعيف، أو منتصر ومهزوم، على عكس الاحترام، الذي يقوم على أساس التكافؤ بين مختلف الأطراف المتحاورة. لا يمكن لي أن أزعم بأن هذا المبدأ الجديد هو الذي سيكون الحلّ السحري لمشكلاتنا، لكونه يتكئ على أساس التكافؤ بين الأطراف المتحاورة، على عكس مبدأ التسامح الذي لم يعد مصطلحاً حَسَن السمعة كما كان منذ وضعه جون لوك في القرن السابع عشر حتى سنوات قليلة ماضية، حيث بات كثيرون من الأكاديميين والباحثين يعيبون عليه بأنه يأتي في سياق تراتبي بين قوي وضعيف أو منتصر ومهزوم… وعن مسار اعتماد القرار يقول الدريس: «أول ما لفت انتباهي هو التردد في اعتماد القرار، هل يمكن أحداً أن يكون ضد ثقافة الاحترام؟. الجواب بالطبع لا، غير أنّ غياب ثقافة احترام الجميع- دون تمييز بين ثقافة وأخرى أو دولة وأخرى- هو الذي صنع هذا التشكك. فلو جاءت فكرة القرار من دولة أخرى، وتحديداً من جهة معلومة من العالم، هل كان سيواجه هذه الصعوبة؟ إذاً فليكن أول ما نبدأ بتطبيق ثقافة الاحترام أن نؤمن بحقيقة المساواة بين الدول والشعوب والثقافات، وأن نحترم كل وجهات العالم وتوجهاته».

بسام بركة

لا يرتبط العمل الفني الإسلامي بشخص أو بمجموعة من الأشخاص، بل ينخرط في المجتمع الذي ظهر فيه. وفي كتابه «سوسيولوجيا الفن الإسلامي» الصادر حديثاً عن المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب – الكويت، يسعى الباحث الاكاديمي فريديريك معتوق الى دراسة هذه العلاقة بين الأعمال الفنية التي نشاهدها اليوم والمجتمع العربي الإسلامي الذي أنتجها ولا يزال يُعجب بها.
الفن الإسلامي ذو أبعادٍ اجتماعية ودينية وروحانية. يقول معتوق في مقدمة كتابه: «ميزة الفن الإسلامي أنه تمكن من تذويب الاجتماعي والفردي في الروحاني والكلي، بحيث لا يصح اعتباره فناً تزيينياً، كما ذهب إليه البعض، أو فناً هجيناً أو مكبوحاً، كما ذهب إليه البعض الآخر، بل إنه، وقبل كل شيء، تجربة جوهرانية بين المُبدع، كعضوٍ عادي في أي مجتمع، والعقيدة الإسلامية التي تجذب إليها، باستمرار، إبداعَ المبدع وعموم الناس» (ص. 6).
يُحلّل معتوق هذا البعد الروحاني والشمولي في المظاهر الفنية الكبرى الخاصة بالحضارة العربية الإسلامية، أي الخطّ والأرابيسك والعمارة. وذلك انطلاقاً من مناهج علم الاجتماع الحديث وكذلك عبر المفاهيم الأساسية التي قدّمها الفلاسفة العرب، مثل ابن خلدون وأبي حيان التوحيدي، حول بنيات المجتمع وعلاقة الممارسات الفنية بها. وعموماً، يصلُ هذا الباحث إلى مسلّمة أن العمل الفني في الحضارة الإسلامية يقوم على ثلاثة عناصر ترتبط في ما بينها: «فلا فنان من دون نبذ للفردانية، ولا نبذ للفردانية من دون جماعة المؤمنين، ولا جماعة للمؤمنين من دون فنانٍ مسلم يُعبّر عن وجدانها الروحي» (ص. 52).
وإذا ما تتبعنا تاريخ الخط العربي في أشكاله الدلالية كما في أشكاله الفنية لوجدنا أنه تطوّر تطوّراً هائلاً خلال فترة زمنية قصيرة. فالخط والكتابة يقعان في عداد الصنائع الإنسانية لكنّه «صناعة شريفة، وعلى قدر الاجتماع والعمران تكون جودة الخط في المدينة» كما يقول ابن خلدون. لقد أصبح الخط العربي فناً – بالإضافة إلى كونه صناعة – لسببين اثنين أولهما تقدم العمران البشري والثاني استخدامه لنقل كلام الله. وبالإضافة إلى موقع الخط وصناعته في حياة الناس الاجتماعية، هناك بعدٌ إيماني يشير إليه عبد العزيز مرزوق.
هكذا، يُقدِّم معتوق بأسلوب علميّ ومنهجيّ واضحٍ ودقيق كيف أنّ الخط العربي يُعبِّر عن تطلّعات الفرد والمجتمع وازدهار المعرفة والمدنية وعُمق الشعور الدينيّ. وهو لا ينفكُّ يُقارِن بين هذا الفن وفنون الشعوب التي كانت مجاورة للعرب أو تعيش معهم، مثل الفنون البيزنطية والمسيحية في شكل عام. فهو يبيّن كيف أن المسلمين أعجبوا بالفنون التي سبقتهم أو بفنون الشعوب التي احتكّوا بها ولكنّهم لم يتأثّروا بما رأوه لديهم من تصوير للإنسان والحيوان واكتفوا بنقل مشاهد من الطبيعة. وتظهر هذه المشاهد جزئياً في أشكال الخط العربي وفي الزخرفات العمرانية وكلّياً في ما يسمى بالأرابيسك.
الجدير بالذكر هنا أنّ الأرابيسك لا يمكن أن يُعدَّ زخرفة ترتبط ارتباطاً عضوياً بالبناء الذي تظهر فيه. فمعتوق يُبرهِن كيف أن هذا الفن فنٌّ مستقل وجامع في الوقت نفسه كما أنه فنٌّ تعبيريّ مشترك «لجميع مكونات الإيمان الإسلامي. يتكامل مع العمارة كجزء أصيل منها، ويتكامل مع المدرسة كجزء أصيل منها، ويتكامل مع المصحف كتعبير أصيل عنه».
أما العمارة فإنها تُمثِّل مكاناً عاماً، ووظيفتها اجتماعية ونفعية لكنّها أصبحت عند المسلمين موقعاً استراتيجياً معرفياً وروحانياً وفنّاً: «لم تُبنَ العمارة الإسلامية ضمن استراتيجية عسكرية، بل على العكس اجتماعية وضعت مصلحة الأمة الإيمانية في صلب مفهومها» (ص. 104). فمن ينظر إلى آثار العمارة الإسلامية التي بقيت إلى يومنا هذا لا يرى من الحصون والدفاعات قدر ما يراه من الأبنية المخصصة للمساجد والجوامع والمدارس، وكلها تندرج في إطار حياة المدينة وتحمل الطابع الفنيّ الخاصّ بها. هكذا يُبيِّن معتوق أن العمارة الإسلامية ظاهرة إنسانية متكاملة العناصر وأن كل بناء من الأبنية فيها يُؤدّي وظيفةً اجتماعية خاصة به تتبلور في الحياة العامة وتندرج ضمن إطار البُعد المعرفي والإيماني لأهل المدينة. فالمسجد للصلاة، والمدرسة للتعليم، والزاوية للتأمل والاجتماعات، والبيمارستان للاستشفاء، والحمّام للنظافة إلى ما هنالك. ومن نافل القول إن كل هذه الأبنية تقوم على هندسةٍ عمرانية تجمع الفنون الأساسية التي اشتُهِرت بها الحضارة الإسلامية وهي الخطّ الذي تُكتَب به الآياتُ القرآنية، والأرابيسك الذي يُحيط بإطار المداخل والنوافذ وغيرها، وأشكال الأعمدة والنوافذ والقباب.
من جهة أخرى، يُقدِّم معتوق المفاهيم التي ظهرت هنا وهناك عند بعض المُفكرين الغربيين والتي تنفي عن بعض الأشكال الهندسية الإسلامية بُعدها الفني ورمزيّتها الروحانية. فهو يستعين بعالم الاجتماع إميل دوركهايم ليردّ على مزاعم غرابار الذي ينفي عملياً وجود هندسةٍ إسلامية بالمعنى المعماري والفني للكلمة. فالمنهج العقلاني الذي ابتكره دوركهايم يفترض وجوبَ مقاربة الظاهرات الاجتماعية من الخارج والداخل على حد سواء، أي من شكلها الظاهر والمحسوس، وكذلك من معناها الكامل. «ولو ألقى غرابار نظرة معرفية عقلانية شاملة على العمارة الإسلامية لتمكَّن من وعي البُعد الرابع، الجوهرانيّ، لتجلياتها المختلفة، والذي يُشكِّل أجمل ما فيها، لكنه يُصرُّ على البقاء خارج هذا البعد» (ص. 101).
كما يُبيِّن معتوق في كتابه هذا كيف أنّ عقيدة الإسلام شكّلت نقطة تحول تاريخية في بُنى المجتمعات العربية بتغليبها العمران الحضاري في المدينة على العمران البدوي خارجها. كذلك نستشفُّ من هذا الكتاب أن الخطّ والأرابيسك والعمارة تُكوِّن مجتمعة فناً إسلامياً بامتياز بمعنى أنه ينفرد من بين الفنون المعروفة بمجالاته وموضوعاته ومعانيه، ذلك أنه يدين لوجوده في الأساس للإسلام. وصحيحٌ أنّ الفن الإسلامي جاء نتيجةً للدين وروحانياته، إلا أنه ساهم في مؤازرة الدين على نشر العقيدة وتقديم مبادئها في بيئةٍ عمرانية تُقدِّم للناظر مشهداً بصرياً يجمع بين جمال الفن وروحانية الإيمان. فأدَّت المعرفة الفنية التي وُلِدت في رحم الانجذاب لجماليات الرؤية الكونية الدينية إلى أن اتّخذ الفن الإسلامي دوراً جديداً تتكون فيه نقطة الالتقاء الوجداني عند عموم الناس بين الانجذاب إلى الحياة اليومية والعملية والانجذاب إلى حياة التقوى والعبادة. يقول معتوق إن هذا التواصل المعرفي العميق أدّى إلى تكوين «دائرة بصرية» واحدة يتحرّك فيها الدين والفن والناس.
فردريك معتوق باحث معروف، له عديد من المؤلفات والمعاجم باللغتين العربية والفرنسية. واستطاع هذا الباحث أن يُوظِّف كل معارفه العربية والغربية ليُبيِّن الروابط الدقيقة والمعقدة بين الإنتاج الفني ووظائفه الجمالية والاجتماعية والممارسات الدينية والروحانية. وهو يعتمد على أسُس علم الاجتماع التي ظهرت منذ ابن خلدون وتستمر إلى أيامنا هذه لتحليل هذه الظاهرة الفريدة في تاريخ البشرية والتي هي الفن الإسلامي الذي لا يرتبط بحياة الأمراء والأسياد بل يندرج ضمن حياة السوق والمدينة.

 

 

(الحياة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى