«البوكر» و«مصائر» الأدب العربي بعد فوز «مصائر» ربعي المدهون بالجائزة

( الجسرة )

*محمد الصالحي

لم يكن شروعي في كتابة هذه المادة النقدية في رواية ربعي المدهون، «مصائر، كونشرتو الهولوكوست والنكبة»- (المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 2015)، الحائزة جائزة البوكر للرواية العربية في دورتها الأخيرة، مردّه استعراض محاسن العمل إنما حاولت فيها الوقوف على مواطن الخلل – كما أراها- بشقّيها الأدبي والسياسي، بل التاريخي أيضا.

توطئة من أجل الاستعراض

يستهلّ المدهون كتابه بمقدّمة غير ضرورية يمارس فيها استعلاء غير مفهوم على القارئ؛ حيث يملي عليه طريقة معيّنة في التعامل مع النَص، ويذكر فيها أيضا سبب اختياره للعنوان -اللافت حقيقة – إذ أنّه قام بتوليف النّص في قالب الكونشرتو الموسيقي المكوّن من أربع حركات، لتماشيه مع الفصول الأربعة (حركات) للرواية، إذ ينبني كل فصل على شخصيّتين أساسيّتين تختفيان تقريبا في الفصل الذي يليه وتنوب عنهما شخصيّتان مركزيّتان جديدتان وهكذا دواليك حتى نهاية الرواية، حيث يربط الخيوط والأحداث والشخوص، موحيا لوهلة أنّه ضليعٌ بالموسيقى، كما يحاول إثبات ضلاعته في حقول أخرى، سأتناولها لاحقا.
لكن يبدو أنّ صاحب البوكر لا يعلم أنّ الكونشرتو الذي أصّغت إليه أول أُذنٍ أوروبية في عصر الباروك لا يقوم على أربع حركات، وإنما على ثلاث، ولعله قصد في هذا الصدد السيمفونية، هذا إلى جانب عدم وجود رابط بين البناء الموسيقي الذي تكلّم عنه وبناء الرواية، سوى أنّ الرواية مقسّمة لأربعة فصول سمّاها حركات، وفي هذا استعراض غير موفّق لمعرفة قشرية في الموسيقى.
ويبدأ المدهون مقدّمته بوصف الفلسطينيين داخل الخط الأخضر بأنّهم ذوو «انتماء مزدوج، غريب ومتناقض، لا مثيل له» كونهم أصبحوا، مواطنين في دولة إسرائيل، بفضل الجنسية التي فُرضت عليهم، أي انتماء مزدوج يا ربعي؟ لعلّه لم يسمع أو يقرأ وهو في لندن عن دور فلسطينيي الداخل في مسيرة المقاومة مما أوصله لمثل هذا الاستنتاج والتعميم.
النَّص ليس استثنائيا بالطبع، كما يحاول عرضه في المقدّمة، كان الأولى بالمدهون مثلا أن يُسمّيه: عشرة أيام في إسرائيل؛ ليُعبّر عن روح الرواية التي تجسّد نظرة السائح البريطاني القادم من وراء ضباب لندن للقضية الفلسطينية، نظرته السياحية المُتماهية مع الاحتلال والمأخوذة بجماله وبأوهام التعايش وإمكانية انسجام المُستعمَر بالمُستعمِر، طبعا، بعد أنسنةٍ للمحتلّ يتساوى فيها الجلّاد بالضحية، في واحدة من أعلى مستويات التطبيع.

كلانا ضحايا هولوكوست:

«بدّي أشوف كيف الضحايا بشوفوا الضحايا»(ص182). «إنني أريد أن أختبر موقف من يتذكر الضحايا الذين أزورهم من الضحايا في الجهة الأخرى»(ص239). هذه ليست مجرّد عبارات جاءت على لسان بطل روايتيه (مصائر والسيدة من تل أبيب)، القادم من بريطانيا، وليد دهمان، وإنما هي رسالة الرواية والفكرة التي تقوم عليها أحداثها. رسالة حول أهمية وجود الاحتلال، وضرورة تقبّله، وإذابة ذواتنا الضئيلة والمتخلّفة في حضوره البهيّ لينتشلنا من الحضيض الذي نقبع فيه ، ويشبه هذا مزاعم الاستعمار القديم في غزو بلاد العالم التي احتوت ثروات طبيعية بهدف رفع مستواها الحضاري إلى مستوى الرجل الأبيض، فتراه يحرص كلّ الحرص على أن يُعلي من شأن كل ما هو إسرائيلي، مهما كان تافها وعديم القيمة، مبهورا به، بمازوخية منقطعة النظير، فتراه يفلّي في الحاضر والماضي عن كل ما يُسيء للشخصية الفلسطينية والعربية ليُبرزه من موقعه الثقافي كسائح بريطاني يربأ بنفسه عن مثل هذا الحضيض، فهذا باسم (الفلسطيني الأمريكي) زوج جنين تعجبه الجارة الإسرائيلية «بات تسيون» التي يرتاح بمراقبتها من شبّاكه في يافا مقرّرا تسميتها بات شالوم أي بنت السلام بدلا من بنت صهيون. وها هو بطله وليد يتغزّل بحداثة وسائل النقل في حيفا (ص231) ويشيد بالقطارويمتدح نظافته رغم أن من يعيش في حيفا يقول بعدم نظافته وهو اذ يصرّ على ذكر اللون فلا يعنيه بالطبع لون البحر في علم إسرائيل، من الماء إلى الماء، فإنّ ذلك كله اذا استوعبنا الفكرة المسبقة التي يروّج لها الكاتب لا يمكن أن يلفت نظره.
وإذا ما ذكر امرأة إسرائيلية فإنها تكون أقرب إلى الآلهة من البشر، ويمكننا متابعة ذلك في حدث زيارة جولي بيت أمها في عكا (ص45 – 46) إذ تستقبلها المستوطنة الثلاثينية البشوشة التي بدت كتحفة فنية رحبت بها أجمل ترحيب ودعتها لجولةٍ في البيت معترفة لها بحقها فيه، ويتكرر الأمر نفسه مع رومة، اليهودية اليمنية المتدينة التي تسكن بيت أهل وليد في المجدل عسقلان المحتلة، وكزميلتها سميّة لم تكتفِ بالابتسام فقط، بل أخذتهم في جولة «داخل البيت، بدت سعيدة بنا وهي تفرجنا على أنفسنا وبدونا نحن راضين بإنصاتنا لكلام يهودية تعرّفنا على ما كان لنا» (ص59).
لكن الخطير حقّا الذي ينطوي على دلالات ذات مضامين سياسية بالغة الأهمية أن رومة «بدت بدورها غريبة عن نفسها، كأنما اعتادت على تطبيع حياتها في غيابنا. في عينيها الغائرتين خلف نظارتيها السميكتين رعشة ضمير طارئة، هائمة بين مجدلها التي لم تكن مجدلها ويمنها الذي أضاعته» (ص61) رعشة الضمير هذه التي لا يلاحظها أحد -إلا الكاتب- على امرأة صهيونية يمينية تُعلّق على حائط البيت صورة جندي إسرائيلي، فتلحقهم وتعرض عليهم مرافقتهم في جولة لتعرّفهم على ما تبقى من مجدل عسقلان. ويقول وليد دهمان لدى مغادرتهم: «توقفت لحظات، وتابعتها وهي تستدير عائدة تحت ملاحظة عيني، ولا أعرف إن كان قد سقط من عينيها دمع وهي تبتعد أم تخيّلته» (ص63).
وهنا يتساءل القارئ، وعلى لجنة تحكيم البوكر أن تتساءل أيضا: هل يمكن لمثل هذا الكرم ولمثل هذا الاحتلال الاستيطاني النبيل أن يترك مقدار ذرّة من الضغينة في قلوبنا؟ هذا السلوك وغيره يُجسّد احتلالا متفوقا أخلاقيا وانسانيا. فما عساه يترك في قلوبنا غير المحبّة والشعور بالألفة والرغبة بالتماهي معه؟
أما «الفلسطينيون التيوس» كما يصفهم الكاتب (شخصية الفلسطيني التيس في الرواية تدلّ على من تيّس فبقي في فلسطين ولم يهاجر منها)، فلا يذكرون إلا في سياق التخلّف والفساد الاجتماعي، ولا يتوانى الكاتب عن ذكر ذلك حتى إن لم يخدم الأحداث والرواية في شيء، أو قد يذكره بطريقة عابرة كمثل خروج الجار الجديد عن صمته وشروعه في «ثرثرة سريعة جعلتني أظنّ أنه حلاق في مخيّم للاجئين الفلسطينيين» (ص139) ولم يكفّ عن تصويرهم كمدمني حشيش، أو أناس تتقاتل لأسباب طائفية (ص219) ويعزّز هذه الصورة بأن يجعلهم مجرمي شرف، وهنا أذكر أنه عرض تفاصيل ثماني جرائم قتل تتوزّع على كامل مساحة فلسطين المحتلّة (ص84- 86) من الرامة شمالا إلى النقب جنوبا، على خلفية جريمة الشرف، علما بأنّ ذلك كان حشوا لا يشكّل للقارئ إضافة إلا في عدد الصفحات من دون أي مبرّر أدبي لذكرها. والفلسطيني الوحيد عند المدهون الذي انصهر مع المجتمع الإسرائيلي كان سمير المثليّ الذي أحبّ صهيونيا وانتقل للعيش معه، سمير مثليّ؛ أي أنه ارتقى عن كونه فلسطينيا عاديا وانخرط في مجتمع إسرائيلي أكثر تحضرا وأكثر استعدادا لتقبّله من أهله المتخلّفين الذين تبرّأوا منه ولم يهدأ لهم بال حتى قتلوه.
وفي هذا السياق نستطيع أن نفهم لماذا بقيت حيفا «بتوخذ العقل، حتى حين قصفها حزب الله وأصاب أحد صواريخه جريدة «الاتحاد» الحيفاوية، وقتل صاروخ آخر أربعة من أبنائها الفلسطينيين» (ص263).هكذا أصبح الأمر واضحا. إنها دعوة للحياة التعايشية المشتركة مع مجتمع متحضّر ينتشلنا من القاع، من وحل ثقافتنا فنرتقي به إذ نصبو إليه.

مغالطات مرّت مرور الكرام:

تنطوي الرواية على بعض المغالطات التاريخية والجغرافية وسأعرض هنا ما اعترضني، منها:
«يا حرام قتلوه وجابوه بالكارّة، العرباية اللي بجرها حمار ابعيد عن السامعين، وأخذوه ع يعبد، وهناك قبروه. قتلوه للقسام بحيفا…» (ص206) هذا ما ورد على لسان ابنته، عز الدين القسام، الذي عرفناه محاصرا في قرية الشيخ زيد، ومحاربا في يعبد، وقد استشهد المجاهد السوري عز الدين القسام في معركة يعبد كما هو معروف ودفن في حيفا ولعلّ المدهون لم يسمع عن مضايقات قوات الاحتلال ومحاولتهم لجرف المقبرة وهدمها أكثر من مرة.
وفي سياق الحشو يسرد أسماء لمجموعة شهداء فلسطينيين، غير أن الكارثة أنّه أورد اسم الشهيد أبو علي مصطفى الأمين العام للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، الذي اغتالته القوات الإسرائيلية بصاروخ استهدف مكتبه في الضفة الغربية في حادثة معروفة، ثمّ ذكر اسم مصطفى علي الزبري من دون أن يعلم أنّ الاسمين للشخص نفسه «… أيمن حلاوة، مصطفى علي الزبري، أبو علي مصطفى…» (ص246)
الخطأ الثالث وهو خطأ يتعلّق بجغرافيا القدس، أبواب القدس معروفة ولا يوجد بينها ما يسمى «باب الواد»، (لا شارع باب الواد، أو طريق باب الواد)، حتى يقول الكاتب: «تابعت طريقي في الجهة الأخرى عبر باب الواد وغادرت المنطقة من باب العامود إلى موقف السيارات؟» (ص 229). إن باب الواد، من دون تحديد اسمه شارعا أو طريقا منطقة لا تتبع القدس المدينة، وهي بعيدة عنها، إذ هي المكان الذي يبدأ منه الطريق إلى الساحل الفلسطيني، بعد الخروج من المدينة وما حولها، والهبوط من الهضاب التي تشكلها، إلى واد يحمل هذا الاسم.
ويظهر الخطأ الرابع عندما نتتبع تفاصيل قصة باسم وجنين، باسم شاب فلسطيني يحمل الجنسية الأمريكية حيث كان يسكن ويقيم قبل الزواج بجنين التي تحمل الجنسية الإسرائيلية لينتقل ويعيش معها في الداخل المحتلّ، فيصف المدهون معاناتهما في السفر منفصلين؟ لماذا يضطر أمريكي في إسرائيل للسفر عبر الجسر إلى الأردن فيتم توقيفه وتأخيره لساعات على معابر الاحتلال حتى يصل مطار الملكة علياء في عمّان، بينما هي تسافر مباشرة من مطار اللد الذي يصرّ المدهون على تسميته مطار بن غوريون؟ وهل حقا يتم التضييق على الأمريكي في العمل وتجديد الإقامة في إسرائيل؟

لغة ركيكة وإخراج سيئ:

فلنعرّج الآن على الأخطاء اللغوية والطباعية، ولا أظنني أبالغ إن قلت لكم إنه لا يخلو سطر في الرواية من استخدام سيء لعلامات الترقيم التي تُنفّر عين القارئ، ولا تخلو صفحة أو مجمـــــوعة صفحــات من خطأ في الإملاء، أو الإعراب، ولقد رأيتُ عبثا إحصاء كلّ ذلك وقد راق للجنة التحكيم. هذا بالنسبة إلى اللغة العربية، أمّا العبرية وقد أكثر الكاتب من استخدامها بما ينفع النص (نادرا) وما يظهره متكلّفا مستعرضا (غالبا)، فقد قمت بمراجعة اللغة العبرية إذ وجدتُ أخطاء فيها تثير الفضول. فإن لم يستطع الكاتب إلى اللغة سبيلا فلمَ التكلّف والإحراج.
ونذكر من أمثلة ذلك قوله: «هالأوريم هتسعيريم» (ص18) وكان يجدر به القول «هأوريم هتسعريم» أو «هلو أوريم هتسعريم» فلا وجود لـ(أل) التعريف بالعبريّة. ومثال ذلك أيضا عندما يترجم «مش للبيع» ويضع بجانبها الرديف العبري الخاطئ לא להשכרה ص(ص41) التي تعني «ليس للإيجار» والصحيح أن يقول לא למכירה، وما حاول أن ينقله للعبرية في(ص40) والأصحّ أن يقول: (من عكا مش طالعين לא יוצאים מעכו)
تنويه: أينما وردت في الرواية كلمة (راكح) فلا تظننّ أنها خطأ طباعي، إذ ذكرت أكثر من 10 مرات بهذه الصيغة الخاطئة، و يقصد القول (ركاح) وهو الاسم القديم للحزب الشيوعي الاسرائيلي الذي استبدل الآن بـ(ماكي) من دون علم المدهون الذي ما زال يعيش أيام ركاح!
كما تمتاز الرواية بسرد فجّ أبعد ما يكون عن السلاسة، تعابيرها منفّرة، مليئة بالتجاور اللفظي السيئ والحشو الفارغ الذي لا يخدم البنية الروائية ولا التطوّر في بناء الشخصية الروائية، ولنقف عند هذا قليلا فشخصيات المدهون تولد جاهزة وناضجة من رحم الصفحة الأولى. لا بناء ولا تطوّر، لغة ركيكة تشبه من يكتب بلغة لا ينطق بها ولا يتقنها، مليئة بالحشو الذي لا يخرج عن كونه مجرّد ثرثرة لا تضيف أي قيمة فنية أو جمالية للنص؛ فلتتأمّلوا هذه الجملة: «أسندت جنين ذقنها إلى كفها المستندة بكوعها إلى ركبة ساقها المعتلية ساقها الأخرى» (ص76).
ومن ذلك ايضا «تلفّتت جولي خلفها رأت فاطمة نصراوي حيث تركتها قبل دقائق أسفل السلّم قرب زاوية البيت وقد شبكت أصابع كفّيها فوق بطنها أدنى حزام بنطالها الجينز الواسع بقليل تتدلّى منها مفاتيح سيارتها» (ص15) ثمّ تنتهي الفقرة!
وأتساءل و قد يتساءل غيري ما فائدة ذكر كلّ هذا الكلام؟ ولا يسعني سوى تبرير ذلك بضيق نفسه السردي ما جعله يميل إلى التوصيف الطويل الذي لم يخدم السياق السردي ولا يمكن اعتباره بأي وجــــه من الوجوه وظيفيا ناهيك عن الأفعال المشتقة والمضحكة، منها: «أوأوت جولي متعاطفة مع والدتهــــا» (ص32) وأوأوت أي قالت «أوووو». «قالت مأمئمة وابتعــدت عني» (ص128) والأمأمة أن تقول «اممم» دلالة على الانشغال بالتفكير.
ويهمنا هنا أن نتبين بصدق كيف انتهى المدهون إلى مثل هذا الاشتقاق؟ وكيف تحركت شخصياته في مثل هذا النسيج الحدثي الضيق والمنتهي قبل بدايته؟
ولا يسعنا أن نقول في نهاية قول لم نرد أن ينتهي، أنها ولا شك كانت «تؤوئو» ـ إن صح هذا التصريف ـ وكذلك نحن والأدب العربي.
فإلى أيّ مآلٍ تؤول البوكر العربية؟

٭ كاتب أردني

المصدر: القدس العربي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى