«مدينة الطيبات» جسر بين الماضي والحاضر يجسّد حضارة مجتمع

( الجسرة )

*عمر البدوي

وأنت تنتقل من شارع إلى آخر داخل مدينة جدة، وكلما اتجهت شمالاً، ترى المباني الشاهقة أمامك، بينما تأخذ المعالم التقليدية للمدينة طريقها إلى الخفاء، بعد أن فرضت المعاصرة سطوتها على المدينة.

لكن هناك مبنى يحافظ على هويته، ينتصف شارع «الستين» في حي الفيصلية، وكأنه يغرّد خارج سرب المدينة المغمورة بالعصرنة والعمران الحديث. ذلك هو الانطباع الذي يعصف بك ما أن يطالعك البناء الخارجي، قبل أن تكتشف الكنز المكنون داخله.

على الباب ترتفع لوحة التعريف «متحف مدينة الطيبات للحضارات العالمية»، وفي الداخل لا تُغمض عينيك من شدة إبهار ما يصادفك، منذ تبدأ جولتك حتى تنتهي.

بمجرّد الدخول من البوابة، يشدك التصميم والديكور المقتبس من طبيعة المباني الحجازية القديمة، والرواشين، والمقاهي الجداوية التقليدية، إضافة إلى جلسات الخزف، وبناء المنازل من الداخل على طريقة المجالس الحجازية، ووضع المهن والأدوات والحرفيات التراثية، وإيقاعات الفنون الشعبية نحو «متاكي» وجلسات «الكرويتات» الجداوية، و»المراكيز»، معيدة إلى الأذهان قصص حواري جدة العتيقة ورواياتها.

تأسست مدينة الطيبات العالمية للعلوم والمعرفة عام 1408هـ (1988م)، بعد أن استغرق إنشاؤها 15 عاماً على مساحة 10 آلاف متر مربع، واستمر العمل على تجميع التحف والفنون والتراث 50 عاماً لتكون جسراً يتصل عليه الماضي بالحاضر، وبلغ عدد المباني 12 مبنى، جهّزت بأفضل التجهيزات والمكتبات العلمية والمتاحف المتخصصة، بما يكشف حجم الجهود التي سخّرت لها من طاقات بشرية وآلية وتجميعية وتوثيقية، لتكون وفق منهج علمي أكاديمي على أرقى مستوى، على يدي مؤسسها البروفسور عبدالرؤوف حسن خليل.

تضم المدينة، أجنحة للفنون السعودية والإسلامية والعالمية، إضافة إلى مكتبة تحوي أكثر من 30 ألف كتاب ومسرح ومراكز تدريب وغيرها. وتجسّد عبر معروضاتها تاريخ السعودية، وملامح الحياة في جدة القديمة بحارتها، والعمارة التقليدية في مختلف بلدان العالم.

كما يضم المتحف 365 غرفة، تتحدّث عمّا قبل التاريخ حتى عصرنا الحالي، وجهّزت بطريقة أكاديمية علمية، كما توجد به مجموعة من أندر القطع. ونفذت بجهود فردية وعمل تلقائي من مؤسس المتحف، ومجموعة الطيبات العالمية. والمدينة هي سلسلة من ثلاثة متاحف، ومنها متحف مدينة الطيبات العالمية للعلوم والمعرفة.

واستطاع أن يجمع حضارات الأمم تحت قبة واحدة، وحرص مؤسسها على أن تكون المدينة نموذجاً مصغّراً لأحياء مدينة جدة القديمة ببيئتها وعمارتها وتخطيطها، وبما يتلاءم مع مقتضيات العصر الحديث.

مؤسس المتحف الراحل عبدالرؤوف حسن خليل، يعشق التراث الإسلامي والعربي، وأفنى عمره في سبيل جمع تحف كثيرة وحفظها، وهي تمثل عدداً من ألوان التراث الإسلامي والوطني، إضافة إلى تحف ثمينة، ومصوغات ذهبية وفضية يكلف اقتناؤها ملايين الدولارات.

وخصص جزء كبير من البيوت للطلبة الذين يأتون إلى المدينة لحفظ القرآن على أيدي معلمين اختصاصيين، عيّنهم خليل على نفقته الخاصة، طلباً للأجر والمثوبة من الله، إذ تضم هذه المدرسة أكثر من ألف طالب من جنسيات عربية وإسلامية مختلفة.

ويقول وزير الآثار المصري السابق زاهي حواس، إن بعضهم يعتقد أن أصول خليل تعود إلى مصر، وفي جدة درس وعشق التاريخ القديم للمملكة. ويعتبر أن زيارة واحدة لمتحف مدينة الطيبات ستربطك بتاريخ الجزيرة العربية إلى الأبد.

ومن أهم قاعات متحفه وأجملها، واحدة تحوي مجسماً صغيراً للحرم المكي، وتحكي معروضاتها تاريخ مكة المكرمة، ونماذج لــملابس الإحرام للنساء والرجال، ومعلومات عن الكعبة المــشرّفة، والحجر الأسود، ومقام إبراهيم عليه السلام، ومناســك الطواف، ومجسم آخر للمسجد النبوي، وكذلك المسجد الأقصى، وقبة الصخرة، وقاعة أخرى كبيرة تُظهر حجرة الرسول، إضافة إلى قاعة تحكي تاريخ الحضارات القديمة: آشور وبابل وسورية ومصر حتى العصر الروماني. كما تضم قطعاً أصلية من عصور ما قبل التاريخ، تم شراء غالبيتها من البرازيل، وسورية ومصر.

كما توجد في القاعة أوان فخارية تعود إلى 1400 سنة قبل الميلاد، وأخرى من الزجاج والفسيفساء من تونس تعود إلى العصر الروماني، وتماثيل من جنوب الجزيرة العربية، وأخرى فرعونية، وكذلك لوحة باللغة المصرية القديمة كتُبت بالخط الهيروغليفي، ولوحة آشورية، ونماذج من طرز العمارة السعودية. وكتبت على الجدران 120 ألف معلومة تاريخية عن الإسلام ونشأة اللغة العربية.

ويحوي متحف الطيبات جناحاً كاملاً للحضارة الإسلامية، يضم قطعاً أثرية للمدارس والفنون الإسلامية من نحاس وبرونز، وخزف وزجاج، وقاعة للأسلحة من خناجر وسيوف وحراب أثرية، وقاعات للقرآن الكريم. وتعود أقدم النصوص بالمتحف إلى العصر العباسي والقرن الثاني الهجري، والخطوط الأولى للقرآن ومنها الخط الحجازي والكوفي، إلى جانب قاعة أخرى تحوي قطعاً أصلية لكسوة الكعبة، والقبر النبوي، ومجموعة نماذج لأقفال الكعبة ومفاتيحها.

وخصص طابق بالكامل للتراث السعودي، من ملابس ومبانٍ ونماذج للعروس البدوية، وقاعة الباحة أو المجلس في جنوب المملكة، وغرفة للمدينة المنورة، وجناح كامل لتاريخ الملك المؤسس عبدالعزيز، أما الطابق العلوي فخصص للإعجاز العلمي بالقرآن الكريم.

وترك البروفسور خليل وقفاً خيرياً للإنفاق على ثلاثة متاحف، وسبق أن نشب منذ أعوام حريق في متحف الفنون المنزلية، ما قوّض سنوات من العمل والجهد، وأضرّ بعدد من ألوان التراث واللوحات الفنية الثمينة، والثريات والمزهريات. لكنه بفضل عزيمته وعلى رغم كلفته الباهظة، أعاد بناءه وإن في شكل أصغر، واحتفظ فيه بمقتنيات ومجسمات ثمينة كثيرة، فضلاً عن ملامح من المجتمع الحجازي والسعودي الذي عاشه في شبابه.

كما أقام خليل متحفاً ثالثاً «طوبة طوبة… وحجراً حجراً»، وأشرف على كل صغيرة فيه، لأنه كان يهدف من خلاله أن يقدّم لمدينة جدة هدية ومعلماً حضارياً يليق بها، ويعكس مدى عشقه لها. وقد زوّده بمقتنيات ثمينة تمثل مختلف العصور والحضارات.

المصدر: الحياة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى