إلى محمود درويش في ذكرى غيابه “انسَ موتك قليلاً”

( الجسرة )

*نصري الصايغ

لا شك في أنك نسيت أن تموت. منذ ثمانية أعوام عدتَ إلى الأرض المتصلة بالسماء الغائبة والبلاد التي في مهب الريح.
نحن، لم ننسَكْ بعد. هو أنت ثانية معنا، في كل ثانية. نتمنى لو أننا في حضرتك. نسألك، لمَ لا تتجلى وتطلق سراب غيابك. ما تزال هذه البلاد تخذلنا كما خذلتك خفقات قلبك. كنتَ على حافة الموت تمشي إلينا. نحــن المــوت الذي يمشي علينا.
ليس من عندك أي خبر. انتهت الأيام كأنها لم تكن. تركت لنا ما لا يُنسى من الشعر والكلام. تركت لنا الطريقة كأنك حيّ في الشعر ومن صفاتك الولادة… ونسألك أين أنت، لا شك في أنك نسيت أن تموت.
بنا، حنين إلى الخطوة ومفاجأة المدن. دمشق في مرمى القصيدة، وفي دمشق:
«يغنّي المسافر في سرِّه:
لا أعود من الشام
حيّا
لا ميتا
بل سحابا
يخفّف عبء الفراشة
عن روحي الشاردة»
وفي دمشق أيضاً:
«تجفّ السحابة عصراً
فتحفر بئراً
لصيف المحبين في سفح قاسيون
والناي يكمل عاداته
في الحنين إلى ما هو الآن
ويبكي سدى»
لا شيء يا محمود من كل ذلك الخبب الجميل. تذكر أنك متّ، وأن من بعدك الدخان. فلا دمشق قمر، ولا بغداد نخل، ولا القاهرة من بردة النيل ولا بيروت عاصمة الدنيا. أما فلسطين فاخلع عليها دمعك.
عشتَ حياتك معنا كقــافلة بدأت بالغناء على إيقاع السلاسل في السجــن، ولم تنته، لأنك من الزمن جئت وخارج الزمن تبــقى. كنتَ فرحنا المؤلم. من أرض الخسارات أتيت، وكنت النشيد…
لا أدري لو كنت بيننا اليوم. أما كنتَ تُنكر أصلك الجميل الذي داسته الأقدام المشركة والجحافل التي تطارد الحياة؟ لا أدري، إن كنت تلعن الساعة. لقد أحرق القرطاجيون قرطاجة. والعرب احترقوا بنيرانهم الموقدة منذ «لعنة السقيفة». يحكمنا السلف كما تحكم الثعالب كروم البلاد. لم تعد عندنا بلاد. هي من حطام، لا مكان فيه لقراءة، بل لتلاوة رتيبة من «حدّثني فلان عن فلان»، أو، جاء في الفتوى ما يسمح وما يمنع، أو تُرانا نحمل أكفاناً لنلف بها بلاداً مطعونة بآلهتها وأنبيائها وعمائمها وفتاوى الذبح والإبادة… لا. لم تشهد في حياتك مثل هذا الليل القاني، مثل هذا التحرّش بالفناء.
ليتك تنسى موتك قليلاً. تكاد فلسطين أن تصير غيمة. أسرع لتقبض عليها قبل أن يتغيَّر شكلها، قبل أن تذوب وتصير أخرى. يصحّ عليها ما قاله شيمبورسكا «لوصف الغيوم عليّ أن أسرع كثيراً، فبعد هنيهة لن تكون ما هي عليه، ستصير أخرى». كنت خائفاً عليها من قبل. لم تعُد إلا قلة خائفة ممَّن ما زال يتكلم العربية الفصحى ويمجّ مرارة القهوة السوداء بطعم البكاء. فلسطين متروكة. كانت وحيدة وجميلة. لها نصيب الوفاء والولاء والالتزام، وشعبــها يمتدّ من المحيط إلى الخليج… اِنسَ موتــك قليلاً، إن شئت «حرية الموت»، فهي متاحة. إن شئت حــرية القتل، «فالموت لا يعني شيئاً»، غير الغدر. إن شــئت أن يكون لك أمس، فهو ماضٍ، وإن شئتَ أن يكون لفلسطين غدٌ، فهي على موعد مع الوداع. أخــذوها. لم تعد وطناً لليهود. صارت وطناً لغيرنا بعباءة عربية فضفاضة، وبانتظام عسكري وتدريبات ومناورات فوق «أرض العرب». أرض لم تعُد عربية.
وحدها القصيدة بخير. أمّة من الشعر نحن. وأنت أميرها الذي كان، وأميرها الذي يبقى، بعد كل الهزائم.
سلام عليك يا محمود يوم تُبعث دائماً، كلما زرنا ديواناً لك.
سلام على ما ألقيته من حنطة الكلام وما أنبتّهُ من سنابل الشعر. لك، بعد الغياب الثامن، حضور الشكل والمعنى. ما زلت تثير العواصف. «إسرائيل» ترفض تدريس شعرك في فلسطينك. ما أجبن البلاد التي تخشى الشعر.
ما أفدح أن تقرأ «إسرائيل» أناجيلك بوحي الوطن. هــي لا تريدك إلا ميتاً. فإياك أن تموت. عليك أن تنــسى دائماً أنك ميت. من جهتنا سنبقى على موعد معك، لنزور القدس من البروة صعوداً إلى الروح، حيث للحجر رتبة الألوهة. ستبقى على موعد لنــؤم النــيل وهو يثرثر صبايا وحكايا، ولنــؤم بغداد يوم تصحو من سواد أرضها، ولنؤم دمشق، حيــث الحنين، ففي دمشق:
«ينام الغريبُ
على ظله واقفاً
مثل مئذنة في سرير الأبد
لا يحنّ إلى بلد
أو أحد…»
من جهتنا، تبقى أنتَ أنتَ، إن حيَّاً أو ميتاً.

المصدر: السفير

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى