اعتذار للمتنبي

مع كل عيد لا يفارقني ما قاله المتنبي في قصيدته الشهيرة:
«عيد بأية حال عدت يا عيد… بما مضى أم بأمرِ فيك تجديد»
«أما الأحبة فالبيداء دونهم.. فليت دونك بيداً دونها بيد»
طبعا تتداعى ذكريات الأعياد التي يمكن أن تملأ كتابا كاملا لمن هم في عمري. الآن ليس بيننا وبين الأحباء بيداء ولا بيد. لقد أصبح العالم هاتفا نقالا ترى فيه من تشاء من الأحباء، مهما ابتعد عن البلاد وعاش في الغربة، هو أو أنت، فتفوز بكثير من الصبر. صار البعد الحقيقي هو في مفارقة الحياة نفسها. لكن هذا الفراق أكثر من غيره يمكن تقبله، باعتبار أن هذه إرادة الله، وإن كان الكثيرون من الأحباء يلحقون بأحبائهم بسرعة من فرط الألم، خاصة من عاشوا معا سنينا طويلة عامرة السعاد والهناء. لكن لأنه العيد، ابدأ في التمني لكل الناس حياة أفضل، ولغزة يوما قريبا نرى فيه إسرائيل تعاني تفسخها من الداخل، وتُفتح أبواب الحساب لمن قاموا من حكامها بهذه الإبادة الجماعية للفلسطينيين، الذين اعتبرهم القاتل نتنياهو قبائل العماليق، وهي القبائل التي تصدت لليهود في فلسطين بعد خروجهم من مصر، في رؤية التوراة التي لا أثر لهم منها في مصر أصلا. هي جانب يتعلق بالإيمان لا العقل، أزادوا فيه، وصنعوا أساطيرهم سنوات السبي البابلي لهم.
رغبتي ككاتب كثيرا ما تدفعني أن أبتعد عما حولي، باحثا عن السلام النفسي لبعض الوقت، ليس هروبا من أي مسؤولية. تذكرت قصيدة المتنبي التي تشجعني على الدخول إلى المشاعر الإنسانية العظيمة. لكن ما حولي يقفز إليَّ كل ساعة، مع حديث الناس في جلساتهم، ومع كل رغبة أو حركة. بعيدا عن غزة والقضية الفلسطينية التي صارت جرح أصحاب الضمائر في العالم، فحول الناس كثير مما يدفع للحيرة والأسى في حياتهم اليومية في مصر. فمهما ابتعد الإنسان عن السياسة، لن يستطيع أن يعيش مضربا مثلا عن الطعام، الذي هو أبسط المطالب، تأخذك أسعاره للتفكير، هل هذه القفزات الفلكية طبيعية. لقد صارت الألف جنيه في قيمة الخمسة جنيهات منذ خمسين سنة، وفي قيمة العشرة جنيهات منذ ثلاثين سنة. أخشى أن يحسبني أحد مغاليا حين أقول، إنه حتى منتصف السبعينيات، كنت تستطيع أن تدخل مطعما فاخرا، تأكل ربع كيلو كباب، وتدفع خمسة وعشرين قرشا. لو فعلت ذلك الآن في أقل مطعم ستدفع مائتين وخمسين جنيها. لن أحدثك عن بقية الأطعمة فلن يتسع المقال. لكن أدهشني إعلان بعض المحلات عن استعدادها لبيع كعك العيد بالقسط، لمن لا يستطيع دفع الثمن الذي وصل لمائة وخمسة وسبعين جنيها للكيلو جرام. تذكرت مظاهراتنا في يناير عام 1977 حين كنا نهتف «سيد مرعي يا سيد بيه كيلو اللحمة بقى بجنيه» والحقيقة أنه كان بخمسة وسبعين قرشا، لكنا جعلناه بجنيه لزوم القافية في النداء. سيد مرعي كان وقتها رئيسا لمجلس الشعب. زيادة الأسعار القائمة الآن حدثت بالتدريج طبعا، لكنها قفزت في العشر سنين الماضية قفزتها الكبرى. ليس لي غير الاعتذار للمتنبي، فلقد أخذتني الأحوال إلى السياسة بعيدا عن المشاعر الإنسانية العظيمة في قصيدته. ما ذكرته يطرح السؤال الغائب: أليست هذه الزيادة الجنونية في الأسعار دافعا للمواطن العادي لأن يتحدث في السياسة. الحصار قائم على الأحزاب والنقابات، لكن المواطن العادي يجد فرصة للحديث في السياسة لا يمكن محاصرتها، وأخشى أن تكون الفوضى هي تجلياتها. لا يكفي أبدا رضا من يروجون للنظام الحاكم. علامات السخط أكبر، لمن شاء أن يعرف أين تقف البلاد.

** المصدر: جريدة “الشرق”

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى