الجامعة العراقية: من الدور الثقافي إلى اللعبة السياسية

صفاء ذياب

على مدى أكثر من خمسين عاماً، أنتجت الجامعات العراقية نقاداً وباحثين ومفكرين كان لرسائلهم في الماجستير وأطروحاتهم في الدكتوراه تأثير ملحوظ على النقد العراقي والدراسات الأكاديمية، ويمكننا الحديث عن نماذج مثل علي جواد الطاهر، وعلي عباس علوان، ومحسن أطيمش، وعبد الله إبراهيم، ولؤي حمزة عباس، وغيرهم الكثير.
إلا أن ما حدث منذ تسعينيات القرن الماضي قلب مفاهيم الدراسات الأكاديمية، ابتداءً من الأطاريح التي تناولت فكر صدام حسين والمناهج البعثية، وليس انتهاءً بالدراسات التي تناولت الكتب الدينية ما بعد عام 2003، وكيفية الالتفاف على الجامعات من أجل تمرير موضوعات بعيدة عن العلمية أو المهنية، فضلاً عن المناهج التي أصبحت مستنسخة من كتب سابقة ولا جديد فيها.. فما الذي حدث في الجامعة العراقية؟ ولماذا لم تنتج نقاداً مؤثرين مثل السابق؟ وكيف يتم اختيار الموضوعات الأكاديمية في ظل وجود أساتذة هم بالأصل تلاميذ لمؤسسي النقدية العراقية الحديثة؟

أعراف وتقاليد

الأعراف الأكاديمية في تحديد الموضوعات التي يدرسها طلبة الدراسات العليا هي التي تؤثر بشكل مباشر على الاتجاهات النقدية، حسبما يشير عبد الكريم السعيدي؛ رئيس قسم اللغة العربية في كلية التربية في جامعة سومر، مبيناً أن من هذه الأعراف اقتصار تلك الموضوعات على ما يجيده الكادر التدريسي المتقدم في القسم العلمي صاحب العلاقة، وعلى سبيل المثال؛ فإذا كان هناك تدريسي يحمل لقباً علمياً، في أحد التخصصات العلمية، سيعني هذا لطلاب الدراسات العليا، أنهم لابد أن يدرسوا في سنتهم التحضيرية ذلك التخصص أو تخصصا قريبا منه، ومن ثم فإن اقتراح أي مادة علمية لا يوجد متخصص فيها، يكون اقتراحا محفوفاً بالمخاطر، لأن رئاسة القسم، فضلاً عن اللجنة العلمية التي يخضع هذا الموضوع لرؤيتها، تحاول تلبية رغبات التدريسيين الذين هم في عهدتها، ومن ثم فإن (استيراد) أي تدريسي من خارج القسم، عمل ينطوي على الكثير من المنزلقات، سواء على مستوى الروتين الإداري وعدم وجود تخصيص مالي يغطي تلك النشاطات، أم على مستوى رضى وقبول تدريسيي القسم، الذين ينظر بعضهم إلى الدراسات العليا بوصفها البقرة التي تدر لبناً.. من جهة أخرى، فإن اقتراح أي موضوع جديد سيصطدم بالتقاليد العلمية البالية، التي باتت تشكل عبئاً على مسيرة التطور، وعلى سبيل المثال ينظر للأدب الشعبي، بوصفه مادة علمية غريبة على أقسام اللغة العربية.
ويؤكد السعيدي أنه لا يوجد عائق أمام استحداث مفردات جديدة، بما ينسجم والواقع العلمي الجديد، ولكن ضمن المفردات التي يتقنها أساتذة القسم، لأن الاستعانة بأساتذة من خارج القسم مرهون بوجود تخصيصات مالية وهو غير متحقق أصلاً.. أما الموضوعات التي يكتب فيها الطلبة، فقد وضعت الوزارة آلية تقوم على اقتراح الأساتذة مجموعة من الموضوعات تطرح على اللجنة العلمية في القسم لتحديد مدى صلاحيتها ثم تعرض على الطلبة، وأحياناً يقدم الطالب موضوعاً بالاتفاق مع أحد الأساتذة، وقد بدا لنا من خلال التجربة، أن بعض الطلبة يقدم عنوانات هو غير مؤهل للكتابة فيها، حتى إذا ما بدأ بالكتابة برزت مشاكل كثيرة بسبب من عدم فهمه لتلك الموضوعات.

أجندات سياسية

لا يريد محمد رضا الأوسي؛ المساعد الإداري في كلية الآداب في جامعة واسط، إغفال الإشارة إلى معطيين مهمين: الأول أن المشكلة المشخصة عامة ولا يعتقد أنها خاصة بحقل الدراسات الإنسانية، وهي نتاج حتمي لتخلف الأنظمة السياسية والاقتصادية والتعليمية والاجتماعية في الوطن العربي، وإن كان ذلك بدرجات متفاوتة نسبياً، أما المعطى الثاني فهو ألا نغفل الإشارة إلى وجود اختيارات لامعة عالج موضوعاتها باحثون جادون وأشرف عليها أساتذة لامعون وكانت نتائجها المتميزة نتاجاً للتناغم والانسجام والتوافق الكبير بين توجهات الطالب ومشرفه في مختلف بلدان الوطن العربي، ولكن للأسف أن غالبية الاختيارات بعيدة عن واقع حياتنا وذات منحى تقليدي.
ويرى الآوسي، أن مرد ذلك راجع لأسباب عدّة، منها خضوع التعليم العالي لأجندات سياسية وولاءات حزبية لم تبالِ بتحكيم المعايير العلمية قدر مبالتها بتحقيق مكاسبها ومنافعها الشخصية وضمان استمرار الحصول على مزاياها ـ وانعكاس ذلك سلباً على خطط الدراسات العليا ومعايير القبول فيها ومناهجها ومخرجاتها، وحسبنا على هذا مثلاً إلغاء الاختبار التنافسي لطلبة الدراسات العليا في بعض السنوات وإلغاء شرط النجاح فيها في سنوات أخرى ناهيك عن استحداث معايير استثنائية أخرى في سياسة القبول تضافرت مع أسباب أخرى في التحاق طلبة غير مؤهلين علمياً بمقاعد الدراسات العليا.
إضافة لاضطراب الأوضاع الاقتصادية ومرور البلد بالأزمة المالية الذي عطل خطط التطوير والتحديث، وجعل الجامعات عاجزة عن تنفيذ خططها الإصلاحية، ومنح الكثير من الأطراف بمن في ذلك طلبة الدراسات العليا مبرر التقاعس والتهاون في تطوير إمكاناتهم العلمية وتحديث أدواتهم البحثية، فضلا عن تعاطي عدد غير قليل من باحثي الدراسات العليا مع الدراسة بوصفها وسيلة لتأمين الحصول على وظيفة ودخل مالي ثابت، وليس رسالة علمية هدفها الأول الإسهام في دراسة مشكلة ما وتقديم الحلول لها. كما أن اضطراب الأوضاع السياسية والأمنية وعدم استقرارها جعل عدد غير قليل من الباحثين يترددون في الإقدام على اختيار موضوعات مهمة وحيوية خوفاً من أن تكون حياتهم ثمناً لبحثها وطرح رؤاهم فيها؛ ولاسيما بعد ظهور المليشيات ذات العقائد المتطرفة في العراق بعد عام 2003.
وبيَّن الأوسي أن ضعف مخرجات الدراسة الأولية وتسببه في عزوف طلبة الدراسات العليا عن الاختيارات العصرية والحيوية ذات التماس المباشر مع واقع حياة المجتمع ومشكلاته الراهنة؛ ولهذا أسباب عدة لعل أهمها تأخر إلمام طلبة الدراسة الأولية في مادتي الأدب الحديث والنقد الأدبي الحديث إلى السنة الأخيرة من تحصيله العلمي وعدم استيعابه لمفرداتهما، الأمر الذي جعل أفق الطالب محدوداً جداً، إن لم نقل ضيقاً في هذا المجال؛ وقد ترتب على هذا اندفاع معظم هؤلاء الطلبة نحو اختيار موضوعات تقليدية تنسجم وإمكاناتهم المتواضعة، وتحاشيهم اختيار الموضوعات المغايرة لاشتراطها التوافر على مؤهلات علمية لم يتمكنوا منها، وافتقادهم الحد الأدنى من أخلاقيات الباحث العلمي، ولاسيما التحلي بروح المغامرة والاستعداد لتحمل مشقة ارتياد الميادين العلمية الجديدة.
الأمر المهم أيضاً، إخضاع تطوير المناهج الدراسية وتحديثها إلى لجان مركزية ذات بيروقراطية عالية أفرغت مع مرور الوقت عمل هذه اللجان من فاعليته وحالت دون تحقيق أهدافه. وضعف أداء مجالس الأقسام العلمية في إقرار موضوعات الدراسات العليا وتراجع الاحتكام إلى المعايير الموضوعية في ذلك.
وكشف الأوسي غياب التخطيط والتنسيق بين وزارة التعليم العالي والمراكز البحثية التابعة لها والوزارات الأخرى وعدم استثمار جهود الباحثين في دراسة المشكلات العامة سياسية كانت أم اقتصادية أم اجتماعية أم ثقافية، وتجاهل صناع القرار نتائج الدراسات الرصينة بسبب تقاطع نتائجها العلمية مع أجــنداتهم السياسية، وانعكاس ذلك سلبا على اختيارات طلبة الدراسات العليا.

بيئة غير معرفية

ومن وجهة نظر الباحث والأكاديمي في جامعة بغداد جاسم السدر، فإن الجامعات في عالم اليوم، ولاسيما التي تربعت منذ عقود في سلم الأفضل عالمياً وفق مؤشرات محددة، تعد منصة لإطلاق مسبارات بحثية تدور في فلك مجتمعاتها تشخيصا لأزماتها وتطويراً لإمكاناتها ورفداً للإدارات فيها بحزمة أفكار تتضمن فلسفات ومفاهيم ورؤى تحفر في أسس جدران التكلس الفكري التي عوقتها عن الإنطلاق إلى الأمام، ومنعت تثوير ممكناتها التي تكتنزها حين خفتت أفكار التحفيز على الريادة البحثية والسبق المعرفي. مضيفاً أن هدف الدراسات العليا في مختلف العلوم، سواءً أكانت إنسانية أم تقنية يتلخص بما تضيفه إلى حقل الاختصاص من تجديد فكري وإبداع معرفي لا نكاد نجده يحظى باهتمام في معظم الجامعات العربية، إذ تسود عقلية التكرار في أغلب رسائل وأطاريح الدراسات العليا، ومنشأ ذلك غيبوبة معرفية بأزمات العصر ومعطياته أنتجتها بيئة معرفية مترهلة ومناهج إنشائية وطرائق تدريس تعتمد التلقين بدل الحوار والتفاكر والتفاعل ونقد الأفكار وتشريح المعارف.
ويبين السدر أن فضاءنا البحثي في جامعاتنا العربية يفتقد لبنك معرفي رأسماله موضوعات جديدة وعناوين تدرك اللحظة التاريخية التي تمر بها مجتمعاتنا سعيا لضخ أفكار جديدة في شرايينها التي أصابها التصلب الفكري مما أفرز ولادات لرسائل وأطاريح خارج أجنة الأرحام المعرفية تفتقد لركني الجودة والجدوى وبعيدة عن تلبية الحاجات المجتمعية الراهنة ومواكبة التطور المعرفي الذي يشهد قفزات كبيرة في مختلف التخصصات.
فالموضوعات المقترحة يجب أن تتسم بالجدة والعمق، وتهدف لتشخيص إشكالات العصر وإكراهاته، تطرح رؤية مستقبلية تنتشل مجتمعاتنا من وهاد الأمية الفكرية التي شوهت صروح الأكاديمية المحترفة، التي لا يصح التغني بامتلاك ناصيتها إلا بحيازة المنهج العلمي والأدوات البحثية، وهو ما يجب ابتداءً امتلاكه لمن أراد الصعود إلى فضاءات البحث العلمي والرقي الفكري والإبداع المعرفي.

تبعية الباحث

فيما تبدو إشكالية البحث الجامعي واحدة من أخطر محركات المجتمع المعاصر والدولة الحديثة في كل مكان, وهذا الحديث لمازن المعموري؛ الفنان التشكيلي والشاعر والأكاديمي في جامعة بابل، لدرجة أننا لا يمكن تصور أي مجتمع بدون وجود مؤسسات بحثية رصينة مثل الجامعات العلمية، لكننا في العراق بالذات تعاني الجامعة من عدة مشاكل مدمرة لآليات العمل البحثي، وأهم تلك المشاكل هي: تبعية الجامعة والتعليم العالي لأيديولوجية الدولة، ففي العهد السابق كانت الرسائل الجامعية موجهة لتأليه الطاغية، وقد ظهر الكثير من العناوين التي تبحث عن حكم القائد ومقولات القائد وغيرها الكثير. والآن ما زالت الجامعة تخضع للمشكلة ذاتها، فأصبحت البحوث موجهة سياسياً وثقافياً لإبراز مظاهر التدين، ففي مجال الفن التشكيلي مثلاً ظهرت عناوين مثل سيف الإمام علي في الفن التشكيلي! وفي المسرح ظهرت عناوين مثل مظاهر المسرح في الشعائر الحسينية والتشابيه! وغيرها من الأمور التي يقدمها الأساتذة والطلبة على حد سواء من أجل دغدغة توجهات سياسية وحزبية خاصة.
ويضيف المعموري: الغريب في الأمر، إن الجامعة العراقية تتحول بشكل ساذج ثقافياً وسياسياً وبالأسماء والهيئات التدريسية ذاتها من دون حياء أو مراجعة للذات، لسبب جوهري يكمن في أنها لا تملك برنامجاً للبحث؛ مدروساً ومحسوباً حسب الأصول العلمية، لذلك فنحن في كل مرة نخسر الكثير من فرص الإبداع واكتشاف الحقيقة وهو الغاية الأهم لكل جامعة أو دراسة، وإلا ما فائدة كل الأموال المصروفة إذا كان الهدف هو تغييب الحقيقة، فاليوم نعاني من عدم قدرتنا على مناقشة الأفكار الإسلامية والتعارض أو الكشف عن إشكالات فلسفية وعقائدية داخل المنظومة الفكرية الإسلامية، من أجل الوصول إلى حلول حقيقية للتعايش مثلاً، غير أن المشكلة الأخطر تظهر عندما يعترض المجلس العلمي من أجل التخلص من وجع الرأس ومتابعة الأحزاب لكل من يجدون فيه صورة من صور المعارضة للسياق الجامعي بصفته كافراً أو علمانياً، وهكذا فمحنة الدرس الجامعي تبدأ في مواجهة النقاط الآتية: التبعية السياسية والثقافية للحزب الحاكم، عدم وجود برنامج علمي مؤهل للبحث في المشاكل الضرورية للمجتمع، والخضوع لرغبات وميول الأستاذ المشرف.

(القدس العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى